أيار 12
 
 
سالتيكوف شيدرين: (1826-1889) أديب روسي  ساخر  كبير في القرن التاسع عشر. قضى معظم حياته يعمل كموظف حكومي بصفات مختلفة. ومع أنه ولد في أسرة إقطاعية، إلا أنه ذاق مرارة الجوع والحرمان منذ نعومة أظفاره، وتعرف على ضروب الظلم والاستبداد حتى في جو الأسرة، حيث كان وأخوته غالباً ما ينامون على الطوى، وتنزل بهم أقسى العقوبات لأتفه الأسباب. دخل ميخائيل سلتيكوڤ المعروف بالاسم المستعار نيقولاي سلتيكوڤ شيدرين تاريخ الأدب الروسي والعالمي من بوابة الأدب الساخر، الذي كان واحداً من الأدوات التي استخدمها الديمقراطيون الثوريون الروس في الصراع ضد النظام القيصري وجهازه البوليسي البيروقراطي، من أجل غرس الحقد والكراهية تجاه ممارسات الظلم والاسترقاق في نفوس أبناء الشعب.
 
 
إضافة إلى القصة القصيرة والطويلة والرواية، كتب شيدرين الكثير من الحكايات الشعبية التي يربو عددها على الثلاثين، وكلها ذات نَفَس ديمقراطي ثوري، وتعالج الموضوعات التي يتناولها في أعماله القصصية والروائية الأخرى. ظل شيدرين منكباً على التأليف إلى أن وافته المنية في سان بطرسبورغ مخلفاً موروثاً لا يزال يشغل واحدة من المراتب الأولى في الأدب العالمي، وترقى مؤلفاته الساخرة إلى مصاف عيون هذا الأدب وروائعه.
 
ذات يوم، وجد مسؤولان كبيران محدودا التفكير نفسيهما فجأة في جزيرة غير مأهولة، وكأنهما قد نُقلا إليها على بساط سحري!
كان الرجلان قد أمضيا كل سنين عمريهما في دائرة حكومية تُحفظ فيها سجلات الدولة؛ هناك وُلدا، وهناك ترعرعا، وهناك شاخا، وبالتالي، لم يكن لديهما أدني تصور عن أي شيء خارج جدران الدائرة. الكلمات الوحيدة التي أجاداها كانت: "تقبلوا فائق التقدير.. خادمكم المتواضع."
إلا أن الدائرة أُلغيت، وبذلك أُستغني عن المسؤولَيْن، ولم تعد خدماتهما مطلوبة، فمنحا حرية الخروج. انتقلا للسكن في شارع "بودياجيسكايا"، ولكل منهما راتبه التقاعدي الخاص.
استيقظا على تلك الجزيرة النائية وسط المحيط، واكتشفا أنهما معا تحت غطاء واحد. في البدء، طبعا، صعب عليهما إدراك ما وقع لهما، فتبادلا بعض العبارات وكأن لا شيء غير عادي قد وقع.
قال أحدهما بصوت مرتجف: "صاحب السعادة.. يا له من حلم رأيته البارحة! رأيت نفسي كما لو كنت في جزيرة غير مسكونة!!"
ما أن تلفظ بتلك الكلمات حتى قفز واقفا، وكذلك فعل الآخر.
تساءلا ذاهلين: "يا إلهنا! ماذا يعني هذا؟ أين نحن؟"
حدّق أحدهما في الآخر بإمعان ليتحققا أنهما لا يحلمان. اقتنعا أخيرا بالواقع المحزن الذي كانا فيه.
المحيط الواسع ممتد أمامهما، وبقعة صغيرة من الأرض وراءهما وبعدها يمتد المحيط مرة أخرى. أجهشا في البكاء- لأول مرة منذ إغلاق دائرتهما.
تبادلا النظرات، ولاحظ كل منهما أن الآخر لا يرتدي سوى ثوب النوم، وحول رقبته يتدلى أمر إحالته على التقاعد.
قال أحدهما: "علينا حقا تناول قهوتنا الآن" لكنه حين تذكر وضعه عاود البكاء. قال مختنقا بعبرته: "ماذا سنفعل؟ حتى لو افترضنا أن علينا إعداد تقرير، ما الفائدة المرجوة منه؟"
أجاب المسؤول الآخر: "هل تعلم يا صاحب السعادة ما علينا فعله: تذهب شرقا، وسأذهب غربا. وقبل حلول الظلام نعود إلى هذا المكان ثانية، فلعلنا نعثر على شيء."
راح الاثنان يتحققان أية جهة هي الغرب، وأية جهة هي الشرق. تذكرا ما قاله لهما يوما رئيس الدائرة: "إذا أردت معرفة موقع الشرق، أدر وجهك إلى الشمال، عندها سيكون الشرق على يمينك." حاولا أن يجدا اتجاه الشمال، استدارا يسارا ويمينا وتطلعا إلى كل الجهات. لم تجدِ جهودهما شيئا لأنهما أمضيا عمرهما في دائرة السجلات.
قال أحد المسؤولَيْن، والذي لم يخدم فقط في دائرة السجلات، بل عمل أيضا معلما للكتابة اليدوية في مدرسة جنود الاحتياط، وبذلك كان أذكى من صاحبه بفارق ضئيل جدا: " في رأيي، يا صاحب السعادة، إن أفضل ما يمكن فعله أن تذهب باتجاه اليمين، وأنا باتجاه اليسار."
هذا ما قيل، وهذا ما جرى. ذهب أحدهما ناحية اليمين. وصل إلى أشجار محملة بكل أنواع الفاكهة. تصور نفسه فرحا وهو يقطف تفاحة، لكن كل الثمار معلقة عاليا ووجب عليه التسلق كي يقطفها. حاول التسلق عبثا. كل ما نجح فيه كان تمزق ثوب نومه. فوجئ بعد حين بوقوفه على ضفاف جدول تتلاطم فيه الأسماك.
فكّر وقد سال لعابه: "أليس رائعا لو كان لدينا كل هذا السمك في شارع بودياجيسكايا!"
واصل طريقه متوغلا في غابة فباغته وجود طيور الدرّاج والطيهوج، والأرانب البرية.
صاح وقد أشتد جوعه: "يا إلهي، يا له من طعام وفير!"
كان عليه العودة إلى نقطة الالتقاء خالي الوفاض. وجد الموظف الآخر في انتظاره.
"حسنا، كيف سارت الأمور مع سعادتك؟ هل وجدت شيئا؟"
"لا شيء سوى عدد قديم من صحيفة (موسكو غازيت)، لا شيء غيره."
استلقيا للنوم ثانية، لكن خواء معدتيهما لم يمنحهما الراحة. سلبت نومهما جزئيا فكرة من يتمتع بمعاش تقاعدهما الآن، وجزئيا ما رأوه في النهار من فاكهة وأسماك ودرّاج وأرانب برية.
قال أحدهما: "غذاء الإنسان في شكله الأصلي يطير، يسبح، ينمو على الأشجار، من تراه فكر بذلك يا صاحب السعادة؟"
رد المسؤول الآخر: "بصراحة، أنا أيضا لا بد أن اعترف بأني قد تخيلت أن لفات إفطارنا قد وُجدت في الدنيا كما كانت تظهر على الطاولة."
"يُستدل من ذلك أنه لو أردنا أن نأكل درّاجا، علينا الإمساك به، قتله، نتف ريشه وشويه. لكن كيف يتم ذلك؟"
"نعم، كيف يتم ذلك؟" كرر المسؤول الآخر.
عاودا محاولة النوم، لكن جوعهما أرعب الرقاد وأبعده. تراءت لهما أسراب من الدرّاج والبط، وقطعان من الخنازير الصغيرة، يغطيها الدهن، ويزخرفها، بطريقة شهية مثيرة، الزيتون، والشفلح والمخللات.
قال أحدهما: "أظنني سألتهم حذائي الآن."
عقّب المسؤول الآخر: "القفازات ليست سيئة أيضا، خاصة أنها وُلدت في غاية النعومة."
حدّق أحدهما في الآخر بنظرات ثابتة. برقت عيونهما بشر مستطير، وصرّت أسنانهما، تردد من صدريهما أنين خافت. دنا أحدهما من الآخر ببطء. انفجرا في خبال مخيف. فجأة، تعالى الصراخ والتوجع، وتمزق ثوباهما. المسؤول الذي سبق له أن كان معلما للكتابة اليدوية بلع أمر تقاعد صاحبه، إلا أن منظر الدم أعاد المسؤولَين إلى رشدهما.
صرخا في آن: "ليعيننا الله.. بالتأكيد، لم يدر في خلدنا أن يأكل أحدنا الآخر. كيف آلت الأمور بنا إلى هذا؟ أي شر ماحق يهزأ بنا؟"
"لا بد لنا من الترفيه عن نفسينا، بكل الوسائل، لتمضية الوقت، وإلا سيكون بيننا قتل وموت."
"أبدأ أنت!"
"هل بوسعك شرح لماذا تشرق الشمس ثم تغيب؟ لماذا لا يحدث العكس؟"
"لست هازئا؟ تستيقظ أولا، ثم تذهب إلى عملك، وفي الليل تستلقي لتنام!"
"لكن لماذا لا يمكن للمرء أن يقترض عكس ذلك، يذهب إلى سريره ويرى أحلاما، ويستيقظ في الصباح؟"
"حسنا، نعم، بالتأكيد. عندما كنت في الوظيفة، أفكر دائما بهذا المنوال (الآن أنفلق الفجر، ستشرق الشمس ويأتي النهار، وبعد ذلك يحل موعد العشاء، وأخيرا يحين موعد النوم."
أيقظت كلمة "العشاء" حزن المسؤولَين، وأنهت المحادثة.
قال أحدهما: "مرة أخبرني طبيب أن بمستطاع البشر البقاء من دون طعام مدة طويلة بسبب ما تناولوه من سوائل"
"ماذا يعني ذلك؟"
"الأمر غاية في البساطة. كما ترى، السوائل الخاصة في جسم كل فرد تنتج سوائل أخرى، وهذه بدورها تنتج سوائل أيضا، وهكذا تستمر الحال حتى تُستهلك السوائل كلها!"
"ثم ماذا يحدث؟"
"وهكذا يدور الطعام في جهاز الهضم."
"اللعنة على الشيطان!"
بغض النظر عن الموضوع الذي يختاره المسؤولان، كانت المحادثة تنتهي إلى الأكل، مما سعّر شهيتهما أكثر فأكثر. لذا قررا التوقف عن الحديث تماما، وتذكرا حينها صحيفة "موسكو غازيت" التي عثر عليها أحدهما فأمسكاها وراحا يقرآن بشغف.
"العمدة يقيم مأدبة"
"أُعدت الموائد لمائة شخص. روعة المأدبة تجاوزت كل التوقعات. المحافظات البعيدة مُثلت في المأدبة بهداياها النفيسة. التقى سمك الحفش الذهبي من منطقة "شكسنا" مع الدرّاج الفضي من الغابات القوقازية مع الفراولة النادرة شتاء في مناطقنا.. “
صاح الآخر بقنوط تام: "اللعنة على الشيطان! توقف لخاطر الله عن القراءة، يا صاحب السعادة. ألم تجد شيئا آخر لتقرأه؟"
خطف الصحيفة من يد زميله وبدأ يقرأ شيئا آخر: "أخبرنا مراسلنا في تولا أنه تم العثور أمس على سمك الحفش في أوبا (حدث لا يستطيع أكبر السكان عمرا تذكره منذ أيام نقيب الشرطة السابق الذي عثر على بعض الحفش). كان ذلك مناسبة لإقامة مأدبة في النادي. تم تقديم المأدبة في طبق خشبي كبير مزين بالمخللات، وحشرت حفنات من البقدونس في فم الحفش. الدكتور ف. تصرف كمشرف على المأدبة قدّم قطعة لكل من حضر. كانت الصلصة التي قُدمت مع السمك متنوعة ولذيذة وغير عادية-"
قال المسؤول الأول وهو يسحب الصحيفة من صاحبه: "اسمح لي يا صاحب السعادة. يبدو لي عدم حرصك على اختيار موضوع للقراءة." بدأ يقرأ: "اكتشف أحد سكان فياتكا وصفة طبخ محلية رائعة لحساء السمك. يؤخذ سمك القد ويضرب بقضيب حتى يتفتت." ...
تدلى رأسا المسؤولين. كل ما وقعت عليه عيونهما كان ذا علاقة بالأكل. حتى أفكارهما كانت قاتلة. عبثا كانت محاولاتهما لإبعاد ذهنيهما عن شرائح اللحم البقري وما شابهها؛ عاد خيالهم الذي لم يتغير، بقوة لا تقاوم إلى ما كانوا يتشوقون إليه.
فجأة، انبثق إلهام في بال المسؤول الذي تولى مرة تعليم الكتابة اليدوية، فصاح فرحا" "وجدتها! ماذا تقول عن هذا، صاحب السعادة؟ ماذا تقول لو وجدنا قرويا؟"
"قروي؟ أي قروي يا صاحب السعادة؟"
"ماذا؟ قروي عادي. قروي مثل سائر القرويين. يهيئ لنا لفات الإفطار، ويمكنه أن يصطاد لنا الدرّاج والسمك."
"همم. قروي! لكن من أين نحضره، ولا يوجد هنا أي قروي؟"
"لم لا يكون هنا؟ القرويون في كل مكان. كل ما على المرء فعله أن يفتش عنهم. لا بد أن هنالك قرويا مختبئا في مكان ما، لذا يجب العثور عليه واخراجه للعمل."
ابتهج المسؤولان بالفكرة حتى أنهما قفزا في الحال للبحث عن قروي.
تجولا طويلا في أنحاء الجزيرة، لكن دون نيل النتيجة المرجوة، وأخيرا اقتحمت أنفيهما رائحة مكثفة منبعثة من خبز أسود وجلد خروف قديم، وقادتهما في الاتجاه الصحيح. هناك، تحت شجرة ضخمة، كان أحد القرويين ممدا، متوسدا يديه، وغارقا في نوم عميق. بدا جليا أنه هارب من أداء واجبه في العمل المكلف به، ولجأ إلى هذه الجزيرة. لم تكن لسخط المسؤولين حدود.
قالا له مغتاظين: "ماذا، تتمدد هنا نائما أيها الكسول! لا يهمك أن هنالك اثنين من المسؤولين الكبار يتضوران جوعا. انهض وتقدم إلى الأمام للعمل."
 
نهض القروي وتأمل السيدين المتعبين الواقفين أمامه. راودنه فكرة الهروب، لكن المسؤولين وبسرعة أوقفاه. كان عليه أن يخضع لمصيره. كان عليه أن يعمل. تسلق أولا شجرة وقطف منها للمسؤولين عددا من أنضج التفاح. احتفظ لنفسه بواحدة عفنة. شرع في حفر الأرض وإخراج بعض البطاطا. بدأ بعد ذلك بإشعال النار بفرك قطعين من الخشب واحدة بالأخرى. صنع من خصلات شعره فخا واصطاد حجلا. وتصاعدت رائحة الشواء بشكل مشوق. طبخ أنواعا من الطعام لدرجة أن سؤالا تردد في ذهني المسؤولين إن كان في مقدورهما عدم ترك أي طعام لهذا الشخص العاطل. جهود القروي أفرحت قلبيهما. نسيا تقريبا معاناتهما من الجوع في اليوم الماضي، كل ما فكرا فيه: "يا له من أمر حسن أن تكون مسؤولا. لا يمكن أن يحدث شيء سيء لأي مسؤول."
تساءل القروي الكسول: "هل أنتما راضيان، أيها السيدان؟"
أجابا: "نعم، ونقدر جهودك."
"هل تسمحان لي بالراحة قليلا؟"
"خذ قسطا من الراحة.. لكن عليك قبل ذلك بعمل حبل متين جيد."
جمع القروي سيقان نبات القنب ووضعها في الماء وراح يضربها بالأرض. ما صنعه كان حبلا قويا. أخذا المسؤولان الحبل وربطا القروي إلى شجرة كيلا يهرب، ومضيا للنوم.
هكذا توالت الأيام، وأضحى القروي ماهرا جدا حتى أنه استطاع طهي الحساء للمسؤولين بيديه العاريتين. غدا المسؤولان بدينين وسعيدين. ما أثار بهجتهما هنا أكثر أنهما لم يحتاجا إلى إنفاق أية نقود، وأن معاشهما التقاعدي، في هذه الاثناء، قد تراكم في سانت بطرسبرغ.
قال أحدهما للآخر بعد تناول الإفطار: "ما رأي سعادتك، هل قصة برج بابل حقيقية؟ ألا تعتقد أنها مجرد قصة رمزية؟"
"لا أبداً، يا صاحب السعادة، أعتقد أن شيئا ما قد حدث فعلا.  ما التفسير الآخر لتعدد اللغات على الأرض؟!"
"إذا، لا بد أن الطوفان قد حدث أيضا؟"
"بالتأكيد، وإلا كيف تفسر وجود حيوانات ما قبل الطوفان؟ هذا إلى جانب ما تقوله صحيفة "موسكو غازيت"..."
بحثا عن العدد القديم من الصحيفة، وجلسا في الظل يقرآنها كلها من البداية إلى آخر سطر. قرآ أخبار احتفالات موسكو، تولا، بنزا وريازان، والغريب أنهما لم يشعرا بأي ازعاج من وصف الأطباق الشهية.
لم يُذكر كم طالت بهما الحياة هناك. ومع ذلك بدأ الملل أخيرا يتسرب إليهما، خاصة حينما يتذكران طاهييهما في سانت بطرسبرغ، بل كانا يذرفان الدموع في الخفاء.
خاطب أحدهما الآخر قائلا: "اتساءل يا صاحب السعادة كيف يبدو شارع بودياجيسكايا الآن."
"أوه، لا تذكرني بذلك، يا صاحب السعادة. أحترق من الحنين إلى مدينتنا."
"إنه رائع للغاية. إنه فعلا مكان لا ينقصه شيء، لكن الحمل لا بد أن يشتاق لأمه النعجة. والحسرة أيضا على الزي الرسمي الجميل."
"نعم، فعلا، زي الدرجة الرابعة ليس مزحة. تطريز الذهب وحده يجعل المرء يصاب بالدوار ".
الآن، راحا يلحفان على القروي في أن يجد وسيلة لإعادتهما إلى شارع بودياجيسكايا، ومن الغريب القول إن القروي كان يعلم أين يقع ذلك الشارع. احتسى الجعة هناك ذات يوم، وكما يقول المثل كل شيء سال على لحيته ولم يدخل، للأسف، فمه شيء.
ابتهج المسؤولان قائلين: "إننا مسؤولان من شارع بودياجيسكايا."
رد القروي: "وأنا أيضا من أولئك الرجال-هل تتذكرانهم؟ أولئك الجالسون على السقالات المتدلية بالحبال من السطوح ليصبغوا الجدران الخارجية. أنا واحد من أولئك الذين يدبون على السطوح كالذباب. ذلك ما أنا عليه."
القروي الآن مستغرق في التفكير كيف يمكنه أن يفرِح مسؤوليه اللذين كانا لطيفين معه، وهو العاطل الكسول، ولم يزدريا عمله، وقد نجح فعلا في صنع سفينة. لم تكن في الواقع سفينة، لكنها كانت طوفا يشبه الزورق، في وسعه نقلهما عبر المحيط إلى شارع بودياجيسكايا.
عندما رأيا ارتفاع الطوف وانحداره، صاحا: "انتبه أيها الكلب، وإلا اغرقتنا!"
قال القروي: "لا تخافا. نحن القرويون معتادون على هذا."
كان الرجل قد رتّب للرحلة ما تحتاجه؛ بجعة للطعام، وما يشبه الأريكة للمسؤولين، وبدأ يجذف بهمة مبتعدا عن الشاطئ.
لا يمكن وصف كيف هلع المسؤولان في تلك الأثناء، كيف عانيا من دوار البحر خلال العواصف، وكيف تماديا في توبيخ القروي على تباطئه. مع ذلك، واصل القروي تجذيفه وإطعامه المسؤولين سمكا مملحا. أخيرا، وقع بصرهما على العجوز العزيزة نيفا. وبعد قليل، كانا في قناة كاثرين المجيدة، ثم، يا للفرحة! وجدا نفسيهما في شارع بودياجيسكايا الكبير.
حين رأى الطاهيان المسؤولين بعافية تامة ووجهين مستديرين، غمرتهما السعادة. تناول المسؤولان القهوة وبعض الفطائر، ارتديا زيهما الرسمي وانطلقا إلى مكتب التقاعد. لا يمكن الوصف أيضا لما جمعاه من رواتب. لم ينسيا القروي. أرسل المسؤولان إليه كأسا من الشراب مع خمسة كوبيكات فقط.  القروي الآن في منتهى الفرح!
 
 
عبد الجبار ناصر :صحفي وروائي ومترجم عراقي مقيم في أستراليا. صدرت له الروايات التالية: رواية فندق كاليفورنيا-الدار المصرية اللبنانية القاهرة 2019/ اليهودي الأخير- الدار المصرية اللبنانية 2018/غرباء مثل الحسين- الدار المصرية اللبنانية 2012/ أيام المستعصم الأخيرة- المكتبة العربية القاهرة 2009/ كتابة على التراب- لهيئة العامة المصرية للكتاب 12/2007. كما صدرت له دراسة بعنوان "ثقافة الصورة في وسائل الإعلام- الدار المصرية اللبنانية 2011، وترجمة مجموعة قصصية للكاتب الروسي فلاديمير كورولينو (قرية الله) عام 2022 عن دار المأمون في بغداد