أيار 18
 
 
 اختلف الباحثون بشأن ميتة فيلسوف المعرة الأعمى؛ أبي العلاء المعري (363 - 449)، فقد قال بعضهم إنه مات متجرعا سما بعد أن ضايقه المؤيد في الدين داعي الدعاة الفاطمي (470هـ) من خلال رسائله الخمس التي وجهها إليه، الأمر الذي دفعه إلى الموت، فلا يعقل أن يقُدِم رجل بلغ من الكبر عتيا، إلى إماتة نفسه وفيه شيء من إيمان، والمعري على الرغم من كل الذي قيل فيه وعنه؛ مؤمن وليس في ذلك مراء، إذن كانت وراء هذه الميتة أسباب للبحث والتنقيب والتنقير في بطون الكتب، وصولا إلى الحقيقة، فرجعت إلى مجموعة من الكتب التي بحثت في الموضوع العلائي، للدكتور طه حسين (1973) وكتاب ( أبو العلاء المعري.. ناقداً) للباحث العراقي د. وليد محمود خالص، وكتاب (أبو العلاء المعري) للدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطىء) (1998)، وقد ترجّح أنه مات ميتة طبيعية، فقد إعتل - كما تقول بنت الشاطىء - في اوائل شهر ربيع الأول من عام 449هجرية، وعاده الطبيب المشهور أبو الحسن المختار(إبن بطلان)، وكان ممن يتردد عليه للزيارة والسماع، أثناء مقامه بديار الشام، ولعل إبن بطلان هو الذي وصف له كأسا من شراب أتاه به القاضي الأجل أبو محمد عبد الله (إبن أخيه) فإمتنع عن شربه، فحلف القاضي ايمانا مؤكدة لا بد أن يشرب ذلك القدح، فاعتذر وهو ينشد:
أعبد الله وخير من حياتي    وطول ذمائها موت مريح
تعللني لتسقيني فذرني      لعلي أستريح وتستريح
وأحاط به خاصة أهله من بني إخوته وبني عمه، ومر عليه يوم وثان والعلة لا تفارقه، فلما كان اليوم الثالث عرفوا أنها علة الموت، وكان أن سألهم أن يكتبوا فتناولوا الدوى (الدوى: جمع دواة وهي المحبرة في لغة هذه الأيام) والأقلام فأملى عليهم غير الصواب؛ فنظر بعضهم إلى بعض وكأنهم يتساءلون عما به، فما عهدوا عليه اختلالا في المنطق أو سهوا بما يملي، عندئذ ألقى القاضي أبو محمد القلم من يده وأمسك دمعه، وهو يهمس لمن حوله من الأهل: أحسن الله عزاءكم في الشيخ فإنه ميت، ومات في غداة غده، تاركا وصيته في أن يكتبوا على قبره:
"هذا جناه أبي علي    وما جنيت على أحد"
 عثر في كتاب صدر أواخر عقد الأربعين من القرن العشرين - وهو من خزانة كتب المرحوم أبي - ويقع في أربعة أجزاء اشتمل على مؤلفات أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري منها:
رسالة إبن القارح، رسالة الغفران، رسائل الإخوان، رسالة الملائكة، رسالة الشياطين، رسالة الأخرسين، وما جرى بين المعري وأبي القاسم المغربي، كما اشتمل الكتاب على دراسات علائية بقلم د. طه حسين، والأستاذ محمد فريد وجدي (1954)؛ وجاءت في الجزء الرابع منه، نصوص جديرة بالقراءة والتأمل، إذ من المعروف للباحثين أن داعي الدعاة الفاطمي، كان قد أرسل إلى المعري رسائل آذته نفسيا، وكان لهذه الرسائل صيت ذائع ودوي عظيم، وافتن الناس في أقوالهم، فقال بعضهم: إن داعي الدعاة أفحمه، ثم دس له السم، فمات.
استبعد أن يكون داعي الدعاة قد دس له السم، لأنه لم يكن يعنيه أن يفتك بالمعري قدر ما يعنيه أن يشنع عليه، ويظهره بمظهر المكابر المائل عن الشريعة ولقد لجأ المعري إلى كثير من عبارات الثناء التي الفناها منه، والتي نعتقد أنها كانت من أهم الأسباب التي حببت إليه سائليه... وقد ذكر بعض الرواة: إن المعري شرب السم بعد أن فضحه داعي الدعاة وأمره بالحضور إليه والإقرار أمامه بالإسلام! وهو قول لم يؤيده دليل، على أنه لو وقع لكان له صدى عظيم ولأشار إليه ولو واحد من الشعراء الذين رثوه، وقد نيفوا على الثمانين.
قال بعض الناس: ولعله مات غما بعد أن ظهر أمره وهتك ستره
وأقول بدوري: ولعل أجله المحتوم قد وافاه حينئذ، فأوّل الناسُ هذه المصادفة التي حملت شتى التأويلات واكثرها رجاحة هي أن رسائل داعي الدعاة قد آذته نفسيا، وهو الرجل الحساس، الذي ما أذى برغوثاً والذي امتنع عن أكل اللحم والبيض وكل حيواني المنشأ مدة زادت على الخمسة والأربعين عاماً. فزادت في علله علة، وجعلته يرتشف كأس المنون لا كأس السم أو الشوكران، وقد وصف المعري نفسه جوابا على الرسالة الرابعة "والعبد الضعيف العاجز قد افتقر إلى مثل ذلك، ولو مثُل في حضرته السامية لعلم أنه لم يبق فيه بقية لأن يُسأل، ولا أن يجيب لأن أعضاءه متخاذلة، وقد عجز عن الصلاة قائماً، وإنما يصلي قاعداً، وإني لأعجز- إذا اضطجعت- عن القعود، فربما استعنت بإنسان فإذا همّ بإعانتي وبسط يديه لينهضني، اضطربت عظامي، لأنهن عاريات من كسوة كانت عليهن، فعرّتهُن منها الأوقات المتمادية، وإنما عنيت ما كان عليهن من اللحم...".
المعري لا يريد هذا النقاش، وداعي الدعاة يلح ويلحف في استمرار هذا النقاش.
المعري لا يستطيع الإفصاح عن آرائه أمامه، وهو يحاصره نكاية به - وقد عرف العلة والأسباب - وزيادة في تعذيبه، فإذا أعتذر عن أكل اللحم بحجة أنه يمتنع عن شيء أحله الله، في حين أن ثمة من يبيح لنفسه ما حرم الله، وفرق ما بين الإثنين عظيم، فيقول داعي الدعاة: أليس النبات موضوعا للحيوان الذي يمتار منه - من الميرة؛ أي الطعام - وبوجوده وجوده واستقامته حفظ أعوانه وولادة مواليده؟ وإنما يستولي الحيوان على النبات بالقوة الحساسة، التي ترجح بها على النبات من حيث كونه نامياً فقط وليس بحساس، وعلى ذلك فالقوة الإنسانية مستولية على الحيوان، استيلاء الحيوان على النبات لرجحانها عليه بالنطق والعقل، وما ينبغي أن يكون أرأف بها من خالقها (..) وإما أن يجد سفك دماء الحيوان خارجاً من أوضاع الحكمة، وذلك اعتراض منه على الخالق الذي هو أعرف بوجوه الحكمة".
فإذا أعتذر منه عن أكل اللحم بقلة ذات اليد وبفقره، كان جوابه: "وقد كاتبتُ تاج الأمراء - حرس الله عزه - أن يتقدم بإزاحة العلة فيما هو بُلْغَة مثله من ألذ الطعام ومراعاته على الإدراد والدوام، لتتكشف عنه غاشية هذه الضرورة ويجري أمره على أحسن ما يكون من الصورة".
ولكن المعري اعتذر عن قبول الزيادة في رزقه بأبلغ اعتذار فقال:"وأما ما ذكره من المكاتبة في توسيع الرزق، فيدل عليه إفضال ورثه عن أب فأب وجد في إثر جد، حتى يصل النسب إلى التراب، فالعبد الضعيف العاجز ماله رغبة في التوسع ومعاودة الأطعمة، وتركها صار له طبعا ثانيا، وإنه ما أكل من حيوان خمسا وأربعين سنة.
والشيخ لا يترك أخلاقه      حتى يوارى في ثرى رمسه
وود العبد الضعيف العاجز لو أن قلعة حلب وجميع جبال الشام جعله الله ذهبا لينفقه تاج الأمراء (..) من غير أن يصير إلى العبد الضعيف من ذلك قيراط، وهو يستحي (..) أن ينظر إليه بعين من رغب في العاجلة من بعد ما زهد، وهو يرضى أن يلقى الله - جلت قدرته- وهو لا يطالب إلا بما فعل من اجتناب اللحوم، فإن وصل إلى هذه المرتبة فقد سعُد".
داعي الدعاة يحاصره ويعاتبه على كل شاردة وواردة، فإذا سجع عد هذا السجع عيبا، لكن المعري يدافع عن نفسه بقوله: "على أن الناس في الإسلام استحسنوا السجعات، وكثرت في خطبهم ومراسلاتهم فقلّ ما يخطب بخطبة على منبر إلا وفيها سجع، وأما خطباء العراق فمعهم خطب تكون من أولها إلى آخرها مسجوعة (..) وكذلك النوق - جمع ناقة- الموصوفة بأنها ساجعات، كما قال متيم بن نويرة:
إذا حنت الأولى سَجعْن لها معا
وفي الإجمال، فإن هذه الرسائل تفصح عن بون شاسع بين عقليتين، الأولى مرهفة حساسة محلقة مثل نسيم الفجر الندي رقة وعذوبة؛ والثانية، اعتيادية إن لم أقل بليدة متحجرة، تمشي على قدميها بين الناس، ومن أراد الاستزادة في الاطلاع على رسائل داعي الدعاة الخمس- ومن الباحثين من ذكر أنهما اثنتان- للمعري فبإمكانه العودة إلى الكتب التي تناولت هذا الموضوع، فضلا عما نشره الباحث المصري محب الدين الخطيب عام ١٣٩٤ للهجرة، وطبع بالمطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة، عنوانه (بين أبي العلاء المعري وداعي الدعاة الفاطمي) واحتوى على خمس رسائل مفيدة، دارت بين حكيم الشعراء المعري، والمؤيد في الدين أبي النصر بن أبي عمران داعي دعاة الفاطميين، حول فلسفة أبي العلاء واجتنابه أكل اللحوم. وما كتبه أبو العلاء هنا هو آخر ما أملاه من آثاره الأدبية.
 إن السبب أو الأسباب، التي كانت وراء هذه المراسلات، حسب ما روى ياقوت الحموي في معجمه (معجم الأدباء) هي إن أبا نصر بن أبي عمران؛ داعي الدعاة بمصر، لما قرأ ما قاله أبو العلاء:
         غدوت مريض العقل والدين فالقني     لتسمع أنباء العقول الصحائح
         فلا تأكلن ما أخرج الماءُ ظالما          ولا تبِغِ قوتا من غريض الذبائح
         ولا تفجعن الطير - وهي غوافل -      بما وضعت فالظلم شر القبائح
         ودع ضَرَبَ النحل الذي بكرت له      كَواسبُ من أزهار نبت  فواتح
         فما احرزته كي يكون لغيرها           ولا جمعته للندى والمنائح
إلى آخر القصيدة.
فكتب إلى المعري يقول: "أنا ذلك المريض رأيا وعقلا، وقد اتيتك مستشفيا فاشفني". ودارت بينهما مراسلات في ذلك.
قال ياقوت:"ولما وقفت على ذلك اشتهيت أن أقف على صورة ما دار بينهما على وجهه، حتى ظفرت بمجلد وفيه عدة رسائل من أبي نصر هبة الله بن موسى بن عمران، إلى المعري في هذا المعنى، انقطع الخطاب بينهما إلى المساكتة، ويذكر الأستاذ كامل الكيلاني (1959) أن محب الدين الخطيب قد عثر على نصوص هذه الرسائل في خزانة كتب أحمد تيمور باشا (1930) فنشرها في مجلته (الزهراء) ثم ظفر ناشر الكتاب بنسخة مخطوطة من مجالس داعي الدعاة المعروفة بـ(المجالس المؤيدية) ومجموعها سبعمائة مجلس، ووجد فيها نصوص رسائل داعي الدعاة.
إنّ قولة ياقوت الحموي، عن إهماله لرسائل المعري، ناعتا إياه بالتشادق والتفاصح، لتذكرنا بزهد المتعاصرين بجهد من يعاصرهم، لأسباب عدة، لعل منها الغل والتحاسد، إنها أنوية الإنسان الباحث عن أناه، وعن المجد له وحده، دون سواه هي التي دفعت بياقوت إلى إهمال تسجيل تلك الرسائل، بل رمى صاحبها بالتفاصح وربما بالتفيهق، وما ذلك بعيب إن جاء عفو الخاطر والسليقة ومن غير تعمّل وكد ونَصَب.
إن أبا العلاء، إذ الزم نفسه بما لا يلزم في شعره، كان أبعد الناس عن صفات التشادق ولا سيما في ديوانه (لزوم ما لا يلزم) حيث أضاف إلى القافية، وحرفها الأخير؛ الروي، قيدا آخر، حرفا آخر، وهو الذي قيد نفسه بقيود، ليكبح جماح النفس الأمّارة بالهوى والتفلت، فظل حبيس سجونه الثلاثة.
أراني في الثلاثة من سجوني        فلا تسأل عن الخير النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي        وكون النفس في الجسم الخبيث
إن المعري تجرع السم من داعي الدعاة بعد أن استدعاه إلى القاهرة - كما قيل - لأن رحلة مثل هذه إلى القاهرة، لا بد أن يقف عندها الدارسون ومؤرخو الأدب، ولاسيما من عاصره مثل: الثعالبي والباخرزي، ومما يرجح أنه لم يرحل إلى القاهرة البتة، وإنما توجه إلى عاصمة العباسيين بغداد، عام ٣٩٨ للهجرة المباركة، وقد وثق سفرته تلك شعرا قائلا:
كَلفْنا بالعراق ونحن شرخ       فلم نلمم به إلا كهولا
وَرَدنا ماء دجلة  خير ماء      وزرنا اشرف الشجر النخيلا
وأُبنا بالقليل وما اشتفينا       وغاية كل شيء أن يزولا
وقد توقف مؤرخو الأدب طويلا عند رحلته تلك، وتحدثوا عن لقائه بالشريفين الرضي والمرتضى، والخلاف الذي اشتجر بينه وبين الشريف المرتضى، إذ تذكر مصادر الأدب إن أبا العلاء كان يوما بمجلس المرتضى، وقد جاء ذكر المتنبي فتنقّصه المرتضى، وجعل يتتبع عيوبه، فقال أبو العلاء، لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته:
"لك يا منازل في القلوب منازل"
لكفاه فضلا، فغضب السيد المرتضى، وأمر فسحب برجله وأخرج مهانا من مجلسه، وسأل من يحضرون مجلسه: اتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة، فإن للمتنبي أجود منها لم يذكره؟
أجابوا: النقيب السيد أعرف. فقال: أراد قوله:
"وإذا أتتك مذمتي من ناقص   فهي الشهادة لي بأني كامل"
وقد تحدث المعري عن رحلته تلك إلى بغداد، فكان من عادته أن يوثق بعض الحوادث، برسائل يكتبها إلى بعض أصدقائه وخاصته، لا بل إننا لنعرف اليوم الذي بارح فيه المعري بغداد، إذ ذكر في إحدى رسائله إنه غادرها لستة بقين من شهر رمضان المبارك عام ٤٠٠ للهجرة، لا بل إن تاريخ الأدب حفظ لنا أبياتاً قالها أخوه؛ أبو الهيثم عبد الواحد، يحث أخاه على العودة إلى المعرة، ناقما على بغداد التي اجتذبت إليها ببريقها الخادع! ذلك الماجد الأبي، وهي قصيدة طويلة، نقل منها (ابن العديم) في كتابه (الإنصاف) أربعة وثلاثين بيتاً، وفيها يقول أبو الهيثم:
بغداد لا سقيت ربوعك ديمة            وغدت رياضك حنظلا ومرارا
أنت العروس يروق ظاهر أمرها      وتكن  شينا في اليقين وعاراً
أضرمت قلبي باجتذابك ماجدا          كالسيف أعجب رونقا وغرارا
كل هذا يؤكد أنه لم يغادر المعرة، إلى مصر إذعانا لاستدعاء داعي الدعاة، كذلك لا أكاد أميل إلى أنه شرب السم لما أفحمه داعي الدعاة، ولم يسطع على محاجته صبرا، لكن من الثابت أن هذه الرسائل والرد عليها قد آذته نفسيا، وهو الرجل الحساس، بل مرهف الحس، وكان قد بلغ من الكبر عتيا، وناف على الثمانين، فزادته سقما على سقمه، وقربت نهايته.
وقد وقف أكثر من ثمانين شاعرا عند قبره، يشيدون بمناقبه ومنهم الأمير أبو الفتح الحسن بن عبد الله بن أبي حصينة المعري بقصيدة طويلة منها:
العلم بعد أبي العلاء مضيع                والأرض خالية الجوانب بلقع
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى         أن الثرى فيه الكواكب تودع
وعجبت أن تسع المعرة قبره               ويضيق بطن الأرض عنه الأوسع
رفض الحياة ومات قبل مماته              متطوعا بأبر ما يتطوع
قصدتك طلاب العلوم ولا أرى            للعلم بابا بعد بابك يقرع(1)
 
 (1) ينظر شرح التنوير على سقط الزند. تأليف أبي العلاء المعري. الجزء الأول. وقد روجعت هذه الطبعة وقوبلت على عدة نسخ صحيحة وطبعت على نفقة الحاج مصطفى محمد، صاحب المكتبة التجارية الكبرى، أول شهر ربيع الثاني 1358 من السنين الهجرية. والكتاب ضمن خزانة كتب المرحوم.
 
 

هذه المقالة هي آخر ما كتبه الأديب الراحل شكيب كاظم قبيل رحيله مؤخرا وخصّنا به