أيار 18
 
 
      بعد الاحتلال البريطاني للعراق وضُعت الآثار القديمة بعهدة دائرة المعارف كتدبير تمهيدي، فبعد ان احُتلت بغداد بمدة وجيزة صدر بيان باسم قائد الجيش العام ينص على وجوب المحافظة على الآثار القديمة والنصب التذكارية، وعلى منع المتاجرة بالعاديات المزورة، وقد بُني البيان على القانون التركي، فمنع تدمير او تشويه أي نصب تذكاري قديم او موقع تاريخي، ومنع بيع الاثار القديمة الا بإجازة، وقد زار مواقع الحفريات الالمانية في بابل أحد الحكام السياسيين، ووجه بالحفاظ على ما عُثر عليه من آثار احكم خزنها بعناية، وعيّن الحُراس في مواقع الآثار للحيلولة دون نهب الزوار لها.
وفي ربيع 1918 أجُريت التنقيبات خلال مدة قصيرة من الزمن في (اريدو وتل اللحم واور القديمة والعُبيد) وقد أرُسلت جميع الآثار القديمة التي عثُر عليها في اثناء التنقيب الى المتحفة البـريطانية وكانت اللُقى التي عُثر عليها في (العُبيد) ذات اهمية فائقة تعود الى زمن لا يتأخر عن سنة (3000) قبل الميلاد. وتم نقلها الى (المتحفة البـريطانية) وبالنظر لما شعرت به السلطة البـريطانية من خطر تعرض الُلقى الثمينة للاخطار المختلفة فقد قررت ان تمنع القيام باجراء أية تنقيبات أخرى حتى تكون حكومة ما بين النهرين قد اسست دائرة خاصة للاثار القديمة مزودة بعدد كافٍ من الموظفين والخبـراء فلم يجر اي تنقيب من بعد ذلك.
وفي ربيع 1920 زار بين النهرين البـروفسور (اي تي كلي) الذي يشغل كرسي الاشوريات والادب البابلي في جامعة (بيل) وكان الغرض من زيارته ان يؤسس في بغداد (مدرسة امريكية للابحاث الشرقية) تنفيذاً لما ورد في وصية الدكتور ويليام هيز وارد حيث اهُديت بموجبها مكتبة بابلية قيمة الى بغداد لقاء بعض الـشروط، وفي الوقت نفسه تقريباً جاء البـرفسور بـرستد، الاستاذ في جامعة شيكاغو، بحملة من المختصين الى العراق فزار عدداً من مواقع الآثار القديمة، وكانت مقترحات المس بيل العاجلة بخصوص الاثار:
  1. اقامة سلطة آثارية على غرار الدائرة الموجودة في مـصر او تلك التي كانت قد اسُست في فلسطين، وستكون هذه السلطة حامية لجميع المواقع والنصب الأثرية القديمة، كما سيقع على عاتقها واجب منح الاجازات للاشخاص والجمعيات المختصة بالحفر والتنقيب بموجب شروط توضع مقدماً، ومن الضـروري ان يجري تحت إشرافها استقصاء آثاري شامل.
  2. تؤسس السلطة الآثارية متحفا في بغداد حالما يتيـسر المال اللازم لها، ولكن الحصافة والفطنة يجب ان يستعان بهما عند الاحتفاظ بالآثار القديمة فان اللُقى التي يمكن أن تتأثر بجو البلاد يجب ان لا تترك في بغداد. كما ان الآثار ذات الاهمية الخاصة للبحث الآثاري يجب ان تتهيأ للطلاب في أماكن أمينة.
لقد عملت المس بيل على متابعة اعمال الصيانة الآثارية بنفسها فهي تذكر بخصوص طاق كسـرى "نحن نبحث الان فيما يمكن عمله لتقوية أسس  طاق كسرى ننقذ جدار الجبهة العظيم ليس هناك أمل بسقوطه الا ان فيه تصدعا بارزا من الخارج وقد حفرنا بعض الحفر بالقرب من الاسس، فذهبتُ في صباح الاحد الباكر مع الميجر ويلسن (المهندس المعماري) لتفقدها أنه يقترح ان نبني دعامة ساندة كبيرة في محاذاة الاسس تحت الارض وأخشى ان نضطر الى تمديدها بصورة مائلة قرب الجدار الى علو يناهز مئة قدم فوق الارض، مما سيشوه المنظر، ولكنها سوف تبقي الجدار سالما على قدر الإمكان".
وتتكرر زياراتها للمناطق الاثارية فتقول "توجهت الى الديوانية... وكان غرضنا ان نرى تل نفّر، ففعلنا، ونفر اشد المواقع الآثرية لفتا للانظار رأيته هنا على الاطلاق، فالتل كبير متسع، يعلو هرم معبده علوا شاهقا فوق السهل ويستطيع المرء ان يرى بوضوح طوبوغرافية البلد من جدول النيل القديم، مجرى الدغارة السابق، الذي يخترقه من الوسط، ومن السهل تصور المعبد مع مكتبته ومدرسته الدينية في أحد الجانبين والمدينة التجارية في الجانب الاخر.. وتمتد في حقبة طويلة من الزمن تبلغ ثلاثة أو اربعة الاف سنة".
كانت المس بيل تعمل على اقرار قانون تنقيب الآثار و"قد طلبتُ من (الملك فيصل) قبل كل شيء معاونتي في تمشية (قانون التنقيب) الذي كنت قد أعددتهُ بعناية فائقة بعد استشارة السلطات القانونية، وقد تعهد بتـشريعه في مجلس الوزراء ان له آراء صائبة جداً حول الآثار... وقد وافق على اقتراحي بوجوب تعييني مديرة مؤقتة لدائرة الاثار في حكومته، إذا وافق السر بيرسي على ذلك، علاوة على واجباتي الاخرى وعند ذاك ستتسنى لي تمشية كل شيء بموافقته راساً، وسيكون ذلك شيئا ممتازاً".
وقد تم تعيينها مديرة فخرية لدائرة الاثار وقد ربطت الدائرة بوزارة الاشغال وتمت مناقشة القانون في جلسة مجلس الوزراء وبحضور المس بيل ووزير الاشغال (صبيح نشات) الذي وضعت لائحته واخذت بالدفاع عنه بعد قراءته لمدة ساعتين فقرة فقرة وتمكنت من امراره بصورة مبدئية. ولكن القانون كان هدفاً لدراسة ياسين الهاشمي، وقد طالب بادخال بعض التعديلات عليه، فمثلاً لم توضع في القانون المذكور الاحتياطات اللازمة لمراقبة الآثار عند التنقيب ولما سأل المس بيل عن ذلك، أجابته ان الاعتماد في ذلك يتوقف على شرف المنقبين. ولما لم يكن ياسين الهاشمي واثقاً من شرف هؤلاء عرض على مجلس الوزراء اقتراحاً اوضح فيه بان كل الجماعات التي اشتغلت بالتنقيب عمدت الى تهريب الآثار والمتاجرة بها وطالب بمنح الوزير صلاحية اجراء المراقبة على اعمالهم ولكن مجلس الوزراء لم ينظر فيها نتيجة لتدخل المس بيل، وسعى الهاشمي مرة اخرى لتقديم مقترحاته في تموز 1923 (خلال غياب المس بيل) عندها أيقن أن المجلس سيسنده وبالفعل نجح هذه المرة عندما وافق المجلس على مقترحاته بجلسته المنعقدة في 5 تموز 1923 وقد صيغت مقترحات الهاشمي في قانون مؤلف من ستة أبواب ومواد مختلفة.
تذكر المس بيل حادثة تبعث الأسى حيث كان اقتسام الاثار يتم عن طريق (طره كتبه) بين المس بيل التي تنقل الاثار الى بغداد وبين البعثات الاجنبية التي تأخذ طريقها الى المتاحف العالمية، فقد اصرت على الحصول على منظر الحلب الشهير الى المتحف العراقي "ان منظر (حلب البقر) الفريد يشير الى الحياة في هذه البلاد من عهد سحيق في القدم". ان هذا المنظر (تقدر قيمته بعشـرة الاف باون استرليني على الاقل وسوف لا اخبـر الحكومة العراقية بذلك، لئلا يقرروا بيعه فيسودن وجهي ووجوههم. وتقدر قيمة (حشـرة الجعل الاسود) بالف باون ولكني حصلت عليه بتوفيق من الله عن طريق الاقتراع بالنقود (طره كتبه) "كانت المس بيل تذهب الى المناطق الاثارية لغرض شراء ما يعثر عليه سكان هذه المناطق جراء حفرهم فيها وهي "(ارخ) العاصمة البابلية العظيمة في الجنوب... وقد وجدت هناك ان سكان احدى القرى المجاورة كانوا يحفرون في التل الاثري ويستخرجون بعض اللقى، فاشتريت منهم لمتحف بغداد اختاما واسطوانات ومقدارا من لقى (التيراكوتا) ببضع آنات فقط".
 تعد مسؤولية الحفاظ على الاثار مسؤولية كبيرة، فهي تذكر عندما تعرضت بغداد الى الفيضانات كيف حافظت على اللقى الاثارية "نقلت جميع اللقى الثمينة جداً، وتقدر قيمتها بعشرات الالاف من الباونات وأقول بالمناسبة أنها لم تستخرج لو لم أكن أنا هنا لأضمن حمايتها على الوجه المطلوب.. أقول نقلت كل هذا وكانت شذر مذر الى البناية الجديدة ولا تعد هذه مسؤولية تجاه العراق فقط بل تجاه العلم الآثاري بوجه عام". وبعد حصولها على المكان المخصص كمخزن تقول في رسالة لها: "كم يعجبني ان تشاهدوا المتحف أنه سيكون متحفا حقيقيا بالتمام، يكاد يشبه المتحف البـريطاني الا انه أصغر منه بقليل. وقد اوصيت بصنع جارورات طويلة غير عميقة مركبة في دواليب لتحفظ فيها كسـر الفخار بحيث يكون بوسعك ان تسحب احداها فتتفرج على القطع السومرية، ثم تسحب الثاني فترى الخزف البارتي وتسحب غيره فترى اللقى القديمة جدا، ثم اللُقى العربية والخزف العربي وكل شيء. وفي رسالتها المؤرخة في 7 تموز 1926 اي قبل وفاتها بـ (5) ايام تذكر لوالدها "أنا جداً مسـرورة لأنكم استلطفتم صور متحفي، واتمنى لو انني استطيع تصوير غرف الطابق الثاني لأنها بحالة مرتبكة الان... اجد من الصعب جداً عليّ ان أنظم أمر الدواليب فحتى الدولابان الصغيران اللذان استطعت ان ارتبهما حتى الآن قد استنفدا شيئا كثيراً من الفكر واعادة الترتيب قبل ان يصبحا في وضع مرضٍ، وتأتي بعد ذلك كتابة الرقع والعناوين، ومن حسن الحظ ان كاتبي العربي يتمكن من كتابتها كتابة جميلة، لذلك فأن كل ما يترتب عليّ هو ان أعطيه قائمة بما يجب ان يكتب ازاء كل قطعة، وأتركه، يتم واجبه بينما أكون أنا منشغلة بعملي في الدائرة".
وبهذا مرّ تأسيس المتحف بمرحلتين: المرحلة الأولى بتخصيص بعض الغرف في بناية السراي (القشلة) في الطابق الأسفل، حيث ولد المتحف في العام 1923، وكان لا يحتوي إلا على مجموعة صغيرة من القطع الأثرية المختلفة، ثم تطور حتى نمت مجموعاته في 1926 بسبب تعدد البعثات (التنقيب الأثرية)، فضاقت به الغرف الصغيرة وصار من الضروري إيجاد محل مناسب له، ولكن ظروف 1926 لم تكن لتسمح بإنشاء بناية خاصة للمتحف العراقي، لذلك خصُصت له البناية التي كانت ملحقة بمطبعة الحكومة (حالياً المتحف البغدادي)، ولم يكن المتحف يحتوي في بادىء الأمر سوى قاعة واحدة كبيرة (معرض ومخزن) احتوت على آثار صخرية ومقادير من القطع الفخارية، وهذه هي المرحلة الثانية من تأسيس المتحف التي استمرت حتى سنة 1930 حيث حدث تغيير كبير في أمانة المتحف، ففي مطلع سنة 1931 طرأ تبدل في إدارة الآثار القديمة، فاتجهت بعد ذلك معظم الجهود نحو إصلاح حالة المتحف الداخلية وتكريس قسم من العناية لاتخاذ التدابير الفعالة للمحافظة على المواقع الآثارية. تضمنت الإصلاحات الداخلية في بناية المتحف وجعلها لائقة من حيث المظهر، وفتُحت الصناديق المكدسة وتم عرضها ضمن معرض فصلي في (1930 - 1931) لقي استحسانا على الصعيدين الداخلي والخارجي، وقد ضمت إدارة المتحف (الشعبة الفنية والتي تضم: المختبر والتصوير الشمسي والنجارة والتسجيل وتصنيف الآثار) أما الشعبة الإدارية فتضم (الكادر الإداري: المدير والمشاور وأمين المتحف..). أما قاعات المتحف فهي سبع قاعات أعُدت لعرض الآثار وعلى وفق الفترات التاريخية المختلفة لتاريخ العراق القديم، وعلى الرغم من ذلك كانت هناك رغبة في ضرورة البحث عن بناية أو بناء متحف جديد نظرا للتوسع في عمل البعثات الأثرية وتكدس القطع الأثرية في صناديق من دون عرضها.
والوثائق العراقية التي تحمل اهتماما بتأسيس متحف يليق بقطع الآثار المختلفة ومنها ما حملته الوثيقة المؤرخة في (سري/ 4 أيلول/ 1929) والتي رفعها وزير المعارف إلى رئيس الوزراء والتي تضمنت "رأيت من أن الواجب يدفعني لعرض ما يأتي حول المتحف العراقي.. لا يخفى ان بناية المتحف الحالية ضيقة جدا. وبسبب هذا الضيق أصبح من الصعب المحافظة عليها ومراقبتها، حيث أن الآثار التي ترد إلى المتحف تبقى موضوعة في الصناديق، ولا يمكن طبعا عرضها على الناس... وفي الواقع ان شخصا أو شخصين امريكيين قد راجعا الحكومة بشأن بناية خاصة للمتحف. على أنني لا أرى من الموفق ان تعير الحكومة اهتماما كبيرا لمراجعات من هذا القبيل لتهمل واجبها الأصلي بهذا الشأن. وأعتقد أنه حتى إذا تحققت أمثال تلك المراجعات فأن الضرر الذي يتأتى يكون أكثر من النفع المنتظر منها. فبناء على ذلك ارى أن الواجب يقتضي على الحكومة العراقية ان تعين عرصة لبناية المتحف العراقي وتستحضر الخطة اللازمة لإنشائه على أساس التوسع التدريجي وان تدخل في الميزانية القادمة المخصصات الممكنة لتنفيذ هذا المشروع.. أرجو تأييد فخامتكم لهذا المشروع الذي يضمن شرف التأسيس للحكومة العراقية، ولا يجعله منحصرا بأجنبي عن البلاد..."، علما ان الوثيقة المؤرخة في (20/ اب/ 1929) الموجهة إلى وزير المعارف من سكرتير مجلس الوزراء بخصوص أن هناك مبادرة في أن أحد الامريكان يتبرع بمائتي ألف دولار لبناء متحف للآثار في العراق، وان مجلس الوزراء مرحب بهذه المبادرة، ويؤمل النظر في مسألة قبول هذه الهبة أو عدمه إلى أن يقدم العرض الرسمي للهبة، ويطلّع على الشروط التي يشترطها الواهب، وقد وافق( الملك صاحب الجلالة على هذا العرض). فمقدمات هذا العرض جاءت على وفق الوثيقة المؤرخة في (5/ ايلول/ 1929) وعلى وفق (الاجتماع مع الملك فيصل في 3/ تموز/ 1929 والمعتمد السامي البريطاني والقنصل الأمريكي، حيث تشكلت لجنة منهما مع ممثل الجانب العراقي حسين أفنان. لقد كانت غاية الهبة تقوم على الاكتتاب لجمع المال المطلوب لبناء المتحف. ويبدو أن هذا المشروع لم يُكتب له النجاح أو المباشرة بالإنجاز وليستمر المتحف في المكان نفسه (شارع المأمون) وعلى وفق ما جاء بدليل الجمهورية العراقية لعام 1960، حيث حدد موقعه، كما تضمن الدليل ساعات زيارة المتحف، مشيرا إلى تشييد مشروع بناية جديدة خاصة بالمتحف العراقي من قبل وزارة التخطيط في جانب الكرخ (الصالحية) على مساحة 45000 متر مربع، والمبنى مكون من طابقين وتتخلل المعرض مساحات خضراء ويتألف من (13) قاعة متباينة المساحات. وضع تصاميم المتحف مهندس ألماني وأنجزته شركة لبنانية بدأت عام 1957 وانتهت منه عام 1963، وافتتح في 9 تشرين الثاني 1966.
 
المصادر:
  1. العراق في رسائل المس بل: ترجمة: جعفر الخياط قدم له وزاده تعليقا عبد الحميد العلوجي، وزارة الإعلام، بغداد، دار الحرية،
  2. المس بيل: فصول من تاريخ العراق القريب، ترجمة جعفر الخياط، مطبعة دار الكتاب، بيروت،
  3. دليل المملكة العراقية... لسنة 1935 - 1936، (رئيس التحرير: محمود فهمي درويش صاحب الامتياز: يعقوب خوري)، مطبعة الأمين، بغداد،
  4. دار الكتب والوثائق: البلاط الملكي/ الآثار العامة، و12/ ص3، رقم التسلسل 1863/311.
  5. دار الكتب والوثائق: البلاط الملكي/ الآثار العامة، و11/ ص3، رقم التسلسل 1863/311.
  6. دار الكتب والوثائق: البلاط الملكي/ الآثار العامة، و13/ ص3، رقم التسلسل 1863/311.
  7. دليل الجمهورية العراقية لسنة 1960: الأستاذ محمود فهمي درويش، والدكتوران مصطفى جواد وأحمد سوسة، دار مطبعة النعمان، بغداد،