أيار 18
 
 
 عرف الفنان العراقي ضياء حسن بأسلوبه المتميز في الرسم من خلال تعامله مع سطح اللوحة وتقسيماتها الفضائية التي اخذت اشكالها تنساب بحسب التقسيمات اللونية المتضادة احيانا والمنسجمة في احيان اخرى، لقد مثلت لوحاته الهوية الشخصية والتعبير الذاتي المرتبط بأفكاره وتنوع الشكل وتداخل الالوان وتشابهها بجمالية نسقية تدعو الى الدهشة والنشوة. وهذا ما يذكرنا بجهود الفنان موندريان وأعماله الجريئة التي حاول التعبير عنها باختزال الواقع والطبيعة والبيئة الى اشكال والوان، واصفاً اياها بالقولبة الجديدة او اعادة التشكيل، ولعل ضياء حسن على ايمان تام بان نسق الحياة اليومية وظاهرها يرتبط بالبساطة والتوازن من خلال لوحاته الجديدة الخارجة عن المألوف ودفاتره الملونة، والتي من شأنها ان تنتج متعة جمالية ورفاهية للإنسانية، كما قدمها لنا (موندريان) وبشكل موجز، مبادئ أساسية ومهمة لمنجزه الفني وأثره في المجتمع الإنساني. فهو اولاً وقبل اي شيء رسام وليس فيلسوفاً، ومن ثم فقد نشأت نظريته هذه من خلال ممارسته للرسم وليس عكس ذلك، لاسيما انه يشابه الى حد كبير فلسفة موندريان في القولبة الجديدة او اعادة التشكيل.
   يؤكد ضياء حسن في منجزه الجمالي بان الفن التجريدي، هو تكوين متناغم دائماً، بغض النظر عن حجم ولون العناصر الموجودة فيه، وطالما كانت تلك العناصر متكافئة ومتساوية، بهذه الطريقة فانها ذات قدرة تعبيرية وجمالية جادة ومؤثرة، وهنا تتشابه فلسفته هذه مع فلسفة موندريان الذي يقول: "يظهر الفن للحياة كيف يمكن ان تكون الاشياء، اذ يبين ويكشف الفن التشكيلي بان الحرية الحقيقية ليست مساواة متبادلة انما هي تكافؤ متبادل في الفن، فالأشكال والالوان لها ابعاد واماكن مختلفة، بيد انها متساوية ومتكافئة في القيمة، وبالطريقة نفسها، ومن خلال تكافؤ متبادل اوسع للعناصر الذاتية الفردية، اذ يمكن ان تكون حياتنا افضل مما عليه الآن، حيث يخلق الفن نوعاً من التكافؤ والانسجام المتبادل بين مكوناته الشكلية، وتظهر الحاجة الى هذه الحرية في حياة الانسان". ومن وجهة نظري كمتابع لأعمال ضياء حسن فانه بالتأكيد جزء من تجربة مهمة في الرسم العراقي المعاصر ومغامر استطاع ان يختط أسلوبه بتشكيل جديد وبناء معاصر متقن كما قام به من قبله (موندريان) ولاسيما عندما كان جزء من مدرسة الدائرة والمربع التي كان يرأسها الفنان والكاتب الفرنسي ميشيل سيفور، والتي تأسست عام 1920م، إذ كانت هذه المدرسة انطلاقة جديدة في عالم الفن الحديث ولاسيما الرسم التجريدي من خلال تعامل فناني هذه المدرسة التجريدية بالعلاقة ما بين الدائرة والمربع كأشكال معبرة وحية، واستطاعوا التعبير من خلالها عن خلجاتهم وإرهاصاتهم ومشاعرهم التي ارتبطت بالجمال والقدرة التعبيرية والتقنية والأسلوبية. إذ وضعوا شعاراً لتلك المؤسسة او المدرسة يكون فيها للدائرة والمربع دورهما الكبير.
    ان المتتبع لأعمال ضياء حسن يؤكد نظرته على ان الفن غير التقليدي موجه كخطوة اولى نحو التوازن الذي ينتج من خلال التخلص من جميع أنواع التكرار والرتابة. فضلاً عن ان الفن غير التقليدي هو فن غني بالأشكال ذات المعاني والدلالات المحددة والمعينة، كالإشارات الرمزية والمجازية التي تمتد الى شيء غير مرئي خارج إطار اللوحة، كما ان هناك اصطلاحات عدة، كاستخدام المنظور للإيحاء بالابعاد الثلاثة، والعمق، واستعمال القيم الضوئية والظل لإظهار القولبة عبر التجرد عن العناصر الذاتية والرمزية والسردية فضلا عن (الخدع) فالفن الحر هو فن قادر على اظهار وبيان تراكيب مكافئة ونقية لنا تدعونا الى الاستمتاع والتغذي بالجمال. لقد مثلت تجربة ضياء حسن وتشكيلاته الجمالية انعطافاً مهماً في ميدان يواجه الخيال او حتى الغرابة والخروج على المألوف والمعاصرة اليوم وغيرها من المدارس المهمة التي كانت متوهجة بفكرها ومنطلقاتها لتأتي تجربته الذاتية الناضجة محولة الطبيعة من أشكال واقعية الى اشكال مجردة وتقسيمات فضائية لونية مدهشة.
    لقد طغت الأشكال المجردة ولاسيما المربعات والدوائر والمساحات اللونية في معظم فضاء اللوحة لديه فضلاً عن الدفاتر الملونة التي استطاع ان يقدمها لنا بحلة جديدة وبتزويق رائع وخطاب جمالي مؤثر وحتى وجود بعض الحروفيات العربية، بل انها أصبحت نظاماً أسلوبياً خاصاً به. اذ مثلت تلك الدفاتر عبر تكويناتها الجمالية ونظامها الخاص في توزيع الكتل والتكوينات المختلفة التي كان يجمعها احيانا في أسفل الصفحات مع فضاء لوني واحد، او أسفل الصفحات وبفضاء لوني متنوع في احيان اخرى. وهذا ما يذكرنا بحكم نقدي للناقد والفنان الفرنسي (ميشييل سويفور) في حديثه عن تجربة (موندريان) اذ يقول "يرسم موندريان فراغاً كبيراً في العدم، وفي هذا العدم لون ابيض نقي كالعدم نفسه، فهو يمتد ويمتد ويمتد، بعيداً ليصنع الفراغ.. وبعيداً وكأنه يزرع هناك بذرة نقاء وصفاء.. ليخلق فضاء جديداً ايجابياً، فانه يحتوي على بذرة جديدة بكل معنى الكلمة" انها صورة ناقد يحلل ما يجده من أفكار تقترب الى روح الواقع وجدلية العلاقة ما بين الشكل والفراغ واللون والتكوينات المضافة الى اللوحة كالحروفيات عند ضياء حسن وتجربته الابداعية، من خلال ذلك نؤكد بان ثنائية (التجريد) و(الابداع) هما جسد واحد لخطابه المعاصر ولاسيما تلك الدفاتر الملونة. وبالتأكيد ان الملهم الحقيقي في أعمال ضياء حسن هو البيئة والطبيعة والمرجعيات الثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها وارتبط روحيا بها، وهنا يؤكد المفكر والفنان (بول كلي) ان الفنان الحقيقي لا يستعير من الطبيعة، إنما يكون منها ومثلها. وقد اتبع النحات والرسام (جان آرب) هذا المبدأ، اذ يقول "ان الفن ينمو عند الرجل كما تنمو الفاكهة من الأشجار، فالرسوم البسيطة هي رموز تمثلت في معظم أعماله، اذ وجدت الطبيعة نفسها بقوة، مطواعة، قوية، لكنها ليست سهلة، بل شديدة، تبقى مطواعة للإنسان ورباطة جأشه".
ان أسلوب ضياء حسن في منجزه الإبداعي الذي خرج فيه على حدود اللوحة المتعارف عليها بأربعة أضلاع ليكون لوحات دائرية تدور حول مركزها بألوانها وأشكالها وجمال تكوينها، فضلاً عن دفاتره التي اخذت قالب الكتاب وصفحاته، و السطوح الملونة التي نشعر بها وندركها من الالوان الاساسية (الاحمر، الاصفر، الازرق) او القيم اللونية (الاسود، الابيض، الرمادي)، التي يمكن ان تمثل حوار التضاد والانسجام، والتي وصفها الفيلسوف الاغريقي (سقراط) بقوله ان العالم هو عبارة عن تفاعل مستمر ما بين المتناقضات او الاضداد: فلا نهار بدون ظلام، ولا ابيض بدون أسود، ولا خير من دون شر. ان هذه الاضداد او التناقضات في أعمال الأعرجي هي في تفاعل مستمر ومتنام، فهي حركة متجهة نحو الاتزان والانسجام او الهارمونية. اذ يصطلح الفيلسوف الإغريقي (هيراقليطس) على هذا النمط من التكوين في ان كل الوجود قابل للحركة ولكن لن يبقى منه شيء. فضلاً عن ذلك، فقد أراد ضياء حسن تحقيق تفاعل مستمر بين هذه المتناقضات او الأضداد في معظم لوحاته ودفاتره الملونة. والتي وصفها (موندريان) بالتوازن الديناميكي أو الحركة الديناميكية.