أيار 18
 
 
    ونحن نعيش تحت وطأة جائحة كورونا الثقيلة، لا يمكنه الحديث عن أي مشهد من مشاهد العمل الاجتماعي الراهنة في حياتنا العربية أو العالمية، بما في ذلك المشهد الثقافي.. من دون ربط ذلك بعملية التواصل الالكتروني (الافتراضي) عبر الفضاء السيبراني، كالذي نقوم باستثماره اليوم في جميع اللقاءات الافتراضية. فكلا العاملين مرتبط الواحد منهما بالآخر ارتباطا شرطيا في الصفة والوظيفة: الفايروس المستجد كوفيد 19 والتواصل الإلكتروني المستشري واقعا عمليا بديلا للقطيعة التي أحدثها الفايروس، وذلك بفرض القطيعة ونشرها بين البشر جميعا أفرادا ومؤسسات في مختلف أرجاء الكرة الأرضية وعبر مختلف المجالات الحيوية والتخصصات الفاعلة كالتعليم والإعلام والثقافة والأدب وباقي عمليات التواصل المباشرة بين البشر.
وهي عمليات تقوم على سنن التواصل اللغوية نفسها، بوصفها -أعني عملية التواصل الإلكتروني- لغة مكتملة العناصر والأطراف كاللغة نفسها أو هي لغة بالفعل، عناصرها المرسل والرسالة والمرسل إليه وتتأثر شبكتها الحية بالسنن اللغوية التي تحفظ عملية التواصل القائمة بين جميع العناصر والأطراف. فإلى أي مدى تأثرت لغة التواصل الثقافية بفعل الجائحة الراهنة عالميا، وعربيا بصورة خاصة، وأثرت في لغة التواصل وأطرافها المتعارف عليها في المشهد العربي الثقافي، وهو ما يمكن تلمس انعكاساته على الرسالة الثقافية نفسها سلبا وإيجابا على حد سواء؟ ولا أظن أحدًا من المشتغلين بعملية التواصل الثقافي يستطيع أن ينجو من هذه الآثار وانعكاساتها على مجال اشتغاله.
إن عنصر "المرسل إليه" نظرا لأهميته كمعيار يمكن من خلاله قياس أثر التغيير الحاصل بين دور الجمهور كمرسل إليه قبل الجائحة وبعدها.
إن الجمهور يمثل في لغة التواصل المرآة العاكسة بدقة لمختلف عناصر الرسالة بأطرافها المذكورة، بين ما كان عليه الحال قبل استخدام لغة التواصل عن بعد (الكترونيا) وبعده مما هو قائم في الوضع الراهن بعد انتشار الوباء عالميا.
فذاكرتي الثقافية الشخصية مسكونة بمثالين يصلحان للمقارنة ولمس الفارق بين حال الجمهور بالأمس واليوم أو في الماضي والحاضر.
وأبدأ بالمثال القريب الذي لم يمر عليه أسبوع ويتمثل في ندوة افتراضية أقامتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) بمناسبة اليوم العالمي للطفل بعنوان (تنمية الطفولة المبكرة في الأوضاع الطارئة والأزمات) والتي لم يحضر بثها المباشر على منصة الفيس بوك غير بضع عشرات من الجمهور، على الرغم من أهمية الموضوع والمناسبة وشهرة المؤسسة العالمية. الالكسو !
صحيح أن الندوة قد تم نشر تسجيلها بعد ذلك وشاهدها عدد كبير من المتابعين بلغ المئات بل الآلاف! لكن ذلك يطرح مفهوما آخر للجمهور بوصفه مرسلا إليه! غير الذي استقر في أفهامنا وذاكرتنا العربية الثقافية منذ أن شاهدنا جمهور مؤتمرات الأدباء العرب ومهرجانات الشعر التابعة لسلسلتها المنتظمة سنويا في تنقلها وانعقادها في مختلف أقطار الوطن العربي منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم.
كما لا تنسى ذاكرتنا البعيدة والمتوسطة جمهور أو جماهير شعراء عرب مثل نزار قباني أو محمود درويش أو الجواهري أو غيرهم من شعراء الوطن العربي الذين يقاس حجمهم أو حجم شهرتهم قياسا على جمهورهم، مما يمكن أن يفرز أوصافًا مثل شاعر جماهيري للواحد منهم، على عكس الحال مع شعراء آخرين كبار كذلك في المعيار النقدي المحض. وإن أنس لا أنسى تجربتنا كشعراء شباب في مطلع سبعينات القرن الماضي في البحرين إثر تأسيس أسرة الأدباء والكتاّب نهاية عام 1969 وإقامة أولى الأمسيات الشعرية وسلسلة الأمسيات التي تبعتها في غضون أشهر عام 1970 وقد كان يحضرها من الجمهور عدد لا يقل عن 1500 شخص من الجنسين ومن مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية يستمعون ويصفقون لشعراء شباب في مقتبل العمر ويحاورونهم بعد إلقاءهم قصائدهم، ناهيك عن جمهور شعراء عرب كبار كانوا يزورون البحرين مثل نزار قباني ومحمد الفيتوري والجواهري ومظفر النواب.
وكان حجم الجمهور ونوعه أحد أهم معايير الحكم على الواحد من هؤلاء الشعراء العرب الكبار على الرغم من أهميتهم جميعا كمبدعين وروادا للشعر العربي الحديث والمعاصر.
أعرف أن حصر العدد التراكمي للداخلين والمشاركين والمعلقين على ما يشاهدونه من أمسيات شعرية أو قراءات شعرية أمر سهل ودقيق في المواقع الاجتماعية، لكنه يتم بصورة جماعية عن طريق حاصل جمع الأعداد الفردية المتراكمة، وليس ككتلة واحدة تفاعلية يتم انصهارها وتفاعلها الاجتماعي في إطار مكان واحد وزمان واحد أيضا، بما يخلق ما كنا نصفه برد الفعل الجماعي المشترك الذي يصنع واقعا جديدا محسوسا وملموسا ومسموعا يُدّوي صوته الجماعي القوي وهتافاته الواحدة المشتركة في المظاهرات والمواجهات السياسية التي تساهم في تغيير التاريخ .
 
علوي الهاشمي .. شاعر وباحث واكاديمي من البحرين ، له عدة مؤلفات