أيار 18
 
كان سارتر مدرسًا شابًا في مدرسة ليسيه دو هافر عندما بدأ في كتابة عمل عن الخيال(1) عام 1934. كان يعد طلابه للبكالوريا. في ذلك الوقت، ولفترة طويلة بعد ذلك، تعرّف طلاب المدارس الثانوية الفرنسية على مجالات الفلسفة الكلاسيكية الأربعة: (علم النفس العام)، الذي أطلق عليه لاحقًا (علم النفس النظري)، والميتافيزيقا، والأخلاق، والمنطق. كان الخيال أحد الموضوعات النفسية التي عرضها سارتر لطلابه، جنبًا إلى جنب مع الإدراك والذاكرة وترابط الأفكار والانتباه والعواطف وما إلى ذلك. كان علم النفس يُعرف بوصفه "علم الحقائق النفسية الإيجابي وقوانينه" واستبعد صراحة "أي وجهة نظر عملية أو جمالية فورية، وأي اهتمام وجودي أو معياري"(2). كتاب الخيال L'imagination، عمل صغير صدر في عام 1936(3)، اما كتاب المتخيل L’imaginaire، فقد نُشر بعد أربع سنوات. وكان من الممكن أن يكون أطروحة المؤلف للدكتوراه(4)، وهما بالكاد يبتعدان عن أهداف علم النفس المحددة بهذه الطريقة. على الأقل من الناحية الشكلية، إلا في استنتاجات هذه الكتاب الأخير.
لكن القارئ سيدرك بسرعة أن الحقائق، كما يفهمها سارتر هنا، وبالتالي القوانين، لن يكون لها المعنى نفسه كما في كتيب علم النفس الشكلي.
منذ البداية، يُظهر كتاب التخيل قرار سارتر بإدارة ظهره للنظريات التي تعلمها، وبالتالي كان عليه أن يغرسها في تلاميذه. لقد كان يعرف عن ظهر قلب الحجج الخاصة بهذه النظريات بناءً على حقائق معينة وعلى الاعتراضات على هذه الحجج بناءً على حقائق أخرى، والتي  حددتها النظريات المنافسة  بشكل أو بآخر: النزعة الحسية لدى كونديلاك والتي بموجبها يمكن إنتاج كل ملكات الإنسان عن طريق تجميع الأحاسيس الأولية والنظريات النقابية، بدءا بـ هيوم، وستيوارت ميل، وتاين، وما إلى ذلك، وجميع الفروق الدقيقة التي تميزهم في طرق تصورهم للعلاقة بين الانطباعات الحسية وحالات الوعي وكذلك في طرق تصورهم للقوانين التي تحكم هذه النظريات العقلانية التي تتحدى النزعة النقابية ولكن من وجهة نظر سارتر تحتفظ بروحها... في الواقع، يمكننا أن نرى بوضوح، عن طريق قراءة هذا الكتيب المدرسي العظيم في ذلك الوقت أو حتى الأطروحات النفسية المفصلة مثل كتاب جورج دوما(5)، والذي كان يعد مرجعا، كم كان مؤلفوها وهم يقبلون ولو جزئياً النظريات الارتباطية من دون التساؤل عن طبيعة الروابط، يجدون صعوبة في دحض آلية الحقائق النفسية التي تسير جنبا إلى جنب مع هذه النظرية بشكل فعال، على الرغم من أنهم يتوقون إلى الكشف عن نشاط الوعي التركيبي.
كتب الشاب سارتر بصراحة في دفتر ملاحظاته: "ينبغي على كل إنسان بعد ولادته، أن يبذل جهدًا جديدًا ومنفردا من أجل فهم العالم". لقد احتفظ بالطموح لبناء فلسفة جديدة وملموسة، وهو ينوي أن يبدأ هنا بالمادة الملموسة(6). هذا لا يعني أنه، في استكشافه للحياة المتخيلية، سيعطي الأولوية للمادة، وحتى للمادة التي يدرسها العلم بدرجة أقل. فهو مقتنع، على سبيل المثال، بأن "التوطين الدماغي"، مهما كان التقدم الدقيق والمعقد للأدوات التقنية يسمح لنا بتحديدها، لن يكون قادرا على تفسير أي شيء سوى الشروط اللازمة لوجود الوظائف النفسية، التي لا يمكنها أبدا تقديم وصف لحقيقة أنني ضمير يدرك ويتذكر ويتخيل ويتطلع إلى المستقبل.
يجدر بنا أن نتذكر أن فيلسوفا آخر قد بدأ، قبل أربعين عاما، دراسة الحياة النفسية من خلال استدعاء الخبرة الملموسة والحدس. ونعني بذلك هنري برجسون (1859 - 1941) الذي منح سارتر من خلال كتابه "دراسة حول معطيات الوعي المباشرة " (1889) ذوقا للفلسفة. على الرغم من أنه نشر أول كتبه المهمة، بما في ذلك "المادة والذاكرة" (1897)، في نهاية القرن التاسع عشر، إلا أن أصالة فلسفته كانت لا تزال محسوسة تمامًا في فرنسا في الثلاثينيات، سواء بين علماء النفس أو بين علماء الميتافيزيقيا. في دليل كفيليه Cuvillier، طبعة عام 1935، كانت مفاهيمه تؤخذ في الاعتبار على أنها متناقضة تناقضا حادا مع النظريات السابقة، ولكن مع العديد من التحفظات، كان سارتر يستشهد بها باستحسان في كتابه "كتابات الشباب Ecrits de jeunesse". وإذا ما استحضرناها هنا، فذلك لأن مؤلف "الغثيان" غالبًا ما يضع في "الذهن" البرغسونية وهو يكتب "التخيل"، إما لدحضها، أو للاعتماد على أحد مفاهيمها، مثل مفهوم "المدة في الحياة النفسية". من المستحيل، في إطار هذه المقدمة، إعطاء فكرة، حتى وإن كانت غامضة، عن جميع نظريات برغسون التي يتشابك فيها علم النفس والميتافيزيقيا: نحن نرسم فقط الإطار الفكري الذي كتب فيه سارتر هذا العمل. يكفي إننا راضون عن الإشارة إلى إن مؤلف كتاب "المادة والذاكرة" كان ينوي دحض النزعة النقابية، مثل سارتر، يؤكد بأن الصورة الذهنية ليست إدراكًا ضعيفًا، أو إحياء تلقائيا إلى حد ما، ولكنها تختلف عن الإدراك بطبيعتها، وعلى نحو أعم، إن المسألة الميتافيزيقية المتعلقة بالحرية الإنسانية، ومسألة الوعي ترتبطان ارتباطا وثيقا. يقدم سارتر في كتابه (التخيل Imagination) تحليلاً مفصلاً للتناقضات التي يراها في الموقف حول موضوعات الفيلسوف "الحيوي" هذه، الذي "يستحضر تطور الحياة، من أصولها إلى الإنسان، صورة لتيار الوعي الذي من شأنه أن يرتبط في المادة كما لو كان يشق فيها ممرا تحت الأرض".
ومع ذلك، فإن الواقع الملموس الذي يبحث عنه سارتر بعيد كل البعد عن الحدس البرغسوني، الذي يعده ذاتيًا للغاية - فضلا عن ذلك، سيقود الفيلسوف إلى فكرة خيالية كونية أقل فأقل إثارة للجدل، غريبة عن اهتمامات سارتر. وبما هو "ملموس" تفهم نقاط الدعم التي ستسمح لمعطيات التجربة أن يكون لها معنى. إن الملموس الذي لا يرقى له الشك بالنسبة له هو المنطق الأساسي لفلسفة ديكارت. "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وهو التأكيد على أن الوعي التأملي ممكن وأنه نقطة انطلاق صلبة للبحث عن حقائق أخرى: بالنسبة إلى ديكارت، إذا كان بإمكاني أن أكون مخطئًا بشأن وجود العالم ذاته طالما لم أثبت أن هناك إلها يضمن وجوده، فيمكنني على الأقل أن أكون متأكدا من أنني موجود، كما أفكر، الشيء نفسه بالنسبة لسارتر "لا يمكن أن يخطئ الإنسان الذي يعي، بفعل التأمل، أن لديه صورة". لذلك يجب عليه في البداية أن يستكشف كل ما يمكن أن يكشفه الوعي التأملي عن الخصائص المحددة لصورتي، وما يحدث لي عندما تكون لدي صورة.
لكن لماذا يحمل كتاب (التخيل) عنوانًا فرعيًا "علم نفس الخيال الظاهراتي"؟ دعونا أولاً نشير إلى الأصل اليوناني: فـ "ظاهرة": هي ما تتجلى، وما تظهر بوضوح، وبالتالي هي قابلة للوصف، لتقود، كما يقول ديكارت، إلى "أفكار واضحة ومتميزة". هناك حقيقة في المظهر، وهذا ما اقتنع به سارتر عندما قرأ هوسرل (1859-1938). في عام 1933، فبدأ بدراسة الفيلسوف الألماني - الذي لا يزال معروفًا في فرنسا – وذلك بقراءة العمل الذي صدر لاحقًا تحت عنوان "أفكار إرشادية لفلسفة ظاهراتية "(7). استمرت هذه الدراسة بلا شك أثناء كتابته "التخيل". وفي فبراير عام 1940(8)، كتب سارتر: «بالنسبة لي، إن استنفاد الفيلسوف هو التأمل في وجهات نظره، وخلق أفكاري الخاصة على حسابها حتى أغوص في طريق مسدود. استغرق الأمر مني أربع سنوات لاستنفاد هوسرل».(9)
إن مقاربة الفيلسوف، التي تحظى باهتمام سارتر في المقام الأول - والتي بدت له على ما يبدو أساسًا جذريًا، مثل تعليق الحكم لدى ديكارت، الذي يسمح للكوجيتو- هي «وضع الوضع الطبيعي للعالم بين قوسين».
كتب الفيلسوف بول ريكور، الذي ترجم للفرنسية أفكار هوسرل التوجيهية للظواهر، في مقدمته تعليقًا يعبِّر عن شيء مشابه لما أدركه سارتر: "أنا في البدء ضائع ومنسي في العالم، ضائع بين الأشياء، ضائع بين الأفكار، ضائع بين النباتات والوحوش، ضائع من بين أمور أخرى... نحن نفهم إن المذهب الطبيعي على أنه أدنى درجة من الوضع الطبيعي ومثله مثل المستوى الذي أفضت إليه تداعياته: لأنني إذا ضعت في العالم، فأنا مستعد لمعاملة نفسي كشيء من العالم"(10).
إن التعامل مع الوعي "كشيء في العالم" هو ما يفعله علم النفس المعاصر بشكل أو بآخر. لكن إذا "وضعنا" بين قوسين، الأسئلة المثيرة للجدل المتعلقة بالعلاقة بين الوعي والمعطيات الحسية - ما يسميه سارتر "مادة" الصورة - فما يتبقى، كما قال هوسرل، هو أن "كل وعي هو وعي بشيء ما". بعيدا عن كونه أمرا مفروغا منه، فإن هذا التأكيد يعني أن كل وعي له بنية مقصودة، هذا يعني أنه في الإدراك، والتصور الذهني، والفكر، فإن الوعي، بعيدًا عن كونه وعاءً، يستهدف شيئًا خارج ذاته. يُعرض على علم النفس منظورًا جديدًا: للتمييز بين أنماط القصدية وفقًا للحالات التي يعمل فيها الوعي - لأن الوعي هو فعل - ومعالجة المعطيات الحسية والمعرفة في ما يتعلق بالقصدية. وهذا ما سيركز عليه سارتر، من منظور "وعي متخيل"، في الجزءين الأولين من كتابه.
في الجزء الأول من (التخيل)، بعنوان " الأكيد"، يوجز وصفا ظاهراتيا للصورة الذهنية. والهدف من ذلك هو تقديم جرد وتوضيح، بناءً على تجربته الخاصة، لكل ما يمكن أن يكشفه التأمل الفوري عن حقيقة (أو بالأحرى، الحدث) من وجود صورة. وموقف هيوم من هذا الموضوع يخدمه كمثال معاكس لـ "الموقف الطبيعي" الذي دعاه هوسرل إلى التخلي عنه، هذا لا يعني أنه سيرفض ما كتبه الآخرون عن الصورة، أو التجارب التي أجريت قبله، ولا أنه سيتخلى نهائياً عن فرض الفرضيات، لكنه يترك معرفته الفلسفية معلقة مؤقتًا.
لكن مجال الخيال واسع. لا يقتصر الأمر على الصورة الذهنية، والاستحضار الذاتي لشيء غائب، وهو أصعب شكل من أشكال الخيال الذي يمكن وصفه، خاصة وأنه يحدث من دون دعم حسي واضح. ويبدو أنه من الضروري لسارتر أن يأخذ منعطفًا عن طريق أمثلة أخرى لـ "عائلة الصورة"، والتي يمكن وصفها بسهولة أكبر نظرًا لوجود مادتها المعقولة. لذلك سوف يتساءل عن دور الوعي المتخيل عند التعامل مع الصور الجانبية، والرسوم الكاريكاتورية، والتقليد، والرسومات التخطيطية، وما إلى ذلك، وسيحاول أن يميز، في كل حالة، بأية أدوات، بين الوعي الحقيقي (المدرك) والوعي غير الواقعي، سيستهدف موضوعه.
بالعودة إلى الصورة الذهنية بحد ذاتها، سيقترب سارتر من "الاحتمالية". في محاولته الأولى في وصفه الظاهراتية، كان السؤال الأكثر إلحاحًا هو: ماذا يعني، بالنسبة لي، أن أمتلك صورة؟ إنها الآن مسألة تحديد ماهية الصورة، وإلى ما يهدف إليه الوعي في الواقع، وما يجب أن يكون عليه هيكل الوعي بحيث يمكن تخيله. والحالة هذه، فإن الصورة الذهنية غير قابلة للتأمل تقريبًا: طالما "لدي صورة"، لا يمكنني قول أي شيء عنها دون أن تتلاشى، لأن القصدية تصبح مختلفة، عندما لم تعد موجودة لا أستطيع أن أقدم وصفًا تفصيليًا لها، من ناحية أخرى، عندما أستحضر في الصورة، على سبيل المثال، لصديق غائب أو صوت أغنية، فأنا لا أسترشد بأي انطباع حسي موجود - بصري أو سمعي أو غير ذلك. لدرجة أن الصورة الذهنية بالنسبة لبعض علماء النفس غير موجودة.
بالنسبة لسارتر، هناك بالفعل محتوى معقول، على الرغم من أنه لا يدين بأي شيء للتصور الحالي كما في الحالة التي فيها الوعي يصبح متخيَّلا في مواجهة محاكاة شخصية مشهورة يؤديها فنان، على سبيل المثال. ولدعم فرضيته، لجأ إلى الاستبطان، ليس فقط من تلقاء نفسه، بل وجّه الاستبطان كما كان يمارسه علم النفس التجريبي بصرامة معينة، مثل ما كانت تمارسه مدرسة فورتسبورغ الألمانية، وأعمال الأطباء النفسيين الفرنسيين مثل الدكتور ألفريد بينيه(11)، والعديد غيرهم. سنرى كيف، أنه في هذا الجزء الثاني، يحاول سارتر توضيح الطريقة التي تدخل بها المعرفة والعاطفة والحركات الداخلية للجسم لتكوين المادة الحساسة للصورة الذهنية، أي التمثيل التناظري لما هو كائن حقيقي لنية التخيل، والذي يمكن أن يدخل فيه الكائن الموجه والنظير في تعارض. وعلى العكس من مفهوم برجسون، على سبيل المثال، والذي بالنسبة اليه "تعمل جميع الصور وتتفاعل مع بعضها البعض في جميع أجزائها الأولية وفقًا لقوانين ثابتة، والتي أسميها قوانين الطبيعة"، مما يشير إلى أن تلقائية المعطيات الحساسة هي آلية. يؤكد سارتر أن موضوع الصورة الذهنية يتحرك بالكامل، تلقائيًا، ليولدها: الفعل الذي يجعل الوعي بواسطته كائنًا غائبًا يمكن مقارنته، في هدفه، بتعويذة وسيط يدعي، عن طريق تركيز طاقته، إنه يستحضر روح ميت.
تعد الصورة، وفقًا لمعظم علماء النفس الكلاسيكيين، أثرًا ماديًا، وبالتالي تتأثر بقصور ذاتي معين، بينما بالنسبة لسارتر، كما رأينا، هي نتاج فعل وعي، فإن مفهومه للعلاقة بين الصورة والفكر لا يمكن أن يكون إلاّ مختلفا. لن تكون مسألة التساؤل كيف يمكن أن "تتحد الصور مع بعضها البعض" بحيث يكون هذا الفكر ممكنًا: الصورة الذهنية موجودة بالفعل في جانب الفكر. في الجزء الثالث من عمله، يحلل بمهارة مستويات الفكر المختلفة والآثار المترتبة على الصورة وفقًا لهذه المستويات، بدءًا من الرسم التوضيحي للصورة الذي يمكن أن يشل أو يؤخر جهد التفكير -أو ببساطة يمثل وقفة مؤقتة-  إلى أكثر المخططات الرمزية زوالاً والتي تشارك في هذا الجهد مما تجعل من الممكن، "كهارب من الخارج"، صياغة مفهوم.
يُعنى الجزء الرابع أساسًا بلاواقعية المكان والزمان في الحياة الخيالية. وبشكل خاص في الحلم وفي أمراض الصورة، مثل الهلوسة، ويبدو أن الوعي قد اتخذ إن لم يكن عالماً، على الأقل "مناخا عالميا" بمساحته ومدته. كان سارتر قد قرأ كتاب فرويد "تفسير الأحلام"، من دون أن ينتابه القلق بشأن النظريات الكامنة وراء هذا العمل، متبعًا مساره الخاص، ومهتمًا قبل كل شيء بما يمكن أن تقدمه له مادة الاستبطان الغنية التي يمثلها سرد الأحلام، كما قرأ الأوصاف السريرية للفيلسوف والطبيب النفسي بيير جانيه، والسير الذاتية القصيرة للمرضى الذين عالجهم هذا الطبيب لسنوات في بيئة المستشفى(12). إذا كان سارتر يشكك في مفاهيمه النظرية العامة، إلا أنه يأخذ في الاعتبار ملاحظاته الملموسة، ولا سيما حول خصوصيات إيمان المرضى بهذيانهم وهلوساتهم، والتناقضات بين واقع علاقتهم اليومية الوثيقة في كثير من الأحيان، مع طبيبهم النفسي والعوالم غير الواقعية التي تغرقهم فيها أمراضهم.
ومع ذلك، أربكت الصورة المهلوسة مؤلف (التخيل) لفترة طويلة: هل يمكننا الحديث عن القصدية فيما يتعلق بالهلوسة، على الرغم من أن المريض يبدو أنه يمر بها، ويعاني منها ويخافها؟ ناقش سارتر الأمر مع الطبيب النفسي دانيال لاغاش، الذي كان زميله في "المدرسة نورمال"، والذي كان قد كتب للتو "هلوسات وخطابات لفظية"(13). ثم قرر أن يجعل من نفسه موضوعًا للتجربة: تحت سيطرة لاغاش، فأُعطي حقنة من مادة الميسكالين، وهي مادة مهلوسة، أمينة لتصميمه على البقاء متماسكا عن كثب.
من الواضح أن الاستنتاج المكون من جزءين لـ (التخيل) هو هروب مزدوج بعيدًا عن مجال علم النفس. والثاني، تماشيا مع تأمله في "التخيل"، يهتم بنشاط الوعي في مواجهة العمل الفني، ذلك الشيء غير الواقعي، ويمكن للمرء أن يفترض أن الأول، "الوعي والخيال"، كتب أخيرًا، متزامنًا على ما يبدو مع قراءته لـ "لوجود والزمن" لهايدغر، التي كانت في نيسان في أبريل 1939(14). كان بعض علماء النفس المعاصرين لسارتر حريصين على إبراز وحدة علم النفس عن طريق تجزئة مواضيع دراسته. ولمدة أربعين عامًا أو نحو ذلك، كان الكثير مقتنعًا بأنه علم مساوٍ للفيزياء وألقوا بأنفسهم بتهور في جميع أنواع التجارب والاختبارات النفسية والفسيولوجية (قياس عتبات المشاعر، واختبارات الذكاء، وما إلى ذلك). لكن "ما الذي يمكن أن يكون أكثر اختلافًا، على سبيل المثال، عن دراسة الوهم الاضطرابي ودراسة عقدة النقص؟"(15). بمعنى آخر، ما هو الفهم الشامل للنفسية البشرية وعلاقتها بالعالم الذي يقدمه لنا علم النفس؟ يتضح إن هدفا واحدا لسارتر في نهاية " التخيل" وهو " طرح ... حالة الإنسان كوحدة غير قابلة للتجزئة، كموضوع لتساؤلنا"(16). فالوجود بلا مادة الذي لم يكن شيئا سوى الخارج من نفسه، والذي يمكنه أن يخلق صورا في غياب الموضوع المعني يصبح الوعي نفيًا للحقيقة. لا شيء، غياب، نفي: سيحكم قارئ الوجود والعدم بسهولة على أن دراسة الخيال كانت مرحلة مهمة في إعداد هذه الدراما الأنطولوجية بين وعيك (أو الوجود لذاته)، والعدم الذي يولده والوجود في ذاته.
* Arlette Elkaïm-Sartre مترجمة وصحفية فرنسية (1935-2016) قام سارتر بتبنيها عام 1964.
 
** كاتب ومترجم عراقي، له ترجمات عديدة صادرة في بيروت ودمشق
الهوامش
  1. أثار الموضوع اهتمامه مذ كان طالبًا: فقد اختار لقب دبلوم الدراسات العليا عام 1927، "الصورة في الحياة النفسية".
  2. أرمان كوفيلييه، دليل الفلسفة، المجلد الأول، Librairie A. Colin، 1935.
  3. تقويم نقدي لنظريات الصورة منذ ديكارت. انظر أيضًا النقد الأكثر شمولاً لموضوعات علم النفس التقليدي في مقدمة كتاب "موجز لنظرية العواطف"، (مدخل)، Hermann، 1939.
  4. قررت الظروف خلاف ذلك. انظر يوميات الحرب: دفاتر الملاحظات عن حرب زائفة سبتمبر 1939 - مارس 1940، غاليمارد، 1995.
  5. انظر جورج دوما، رسالة جديدة في علم النفس (U.F.  1932).
  6. لا شك أنه كان حذرا من ميله إلى البنى التجريدية التي عاتبه أصدقاؤه عليها. راجع كتاب (قوة العمر) لـ سيمون دي بوفوار، Gallimard، 1960.
  7. غاليمارد، 19
  8. راجع دفاتر الحرب الزائفة، مرجع سابق.
  9. عاتب العديد من أتباع هوسرل سارتر على "امتلاك أفكار على حساب هوسرل"، وحتى لتشويه فكر الفيلسوف. يخصص سارتر في كتابه (الخيال) بضع صفحات لرسم ما استوعبه من هذه الفلسفة، وما كان ينوي استعارته.
  10. هذا ما نحن نشير إليه.
  11. كتاب بينيه مع جي إم شاركو، المعروف بتأثيره على فرويد الشاب.
  12. من جيل فرويد نفسه، كان بيير جانيه، الذي اشتبه في دور الجنس في مسببات العصاب، في ذلك الوقت منافسًا لأب التحليل النفسي: انظر، على سبيل المثال، (الآلية النفسية، 1889) و(من العذاب إلى النشوة، 1926).
  13. Paris: Alcan, 1934.
  14. راجع دفاتر الحرب الزائفة، مرجع سابق.
  15. سارتر، تخطيط لنظرية الانفعالات (مقدمة)، 1939.
  16. راجع دفاتر الحرب الزائفة، مرجع سابق