أيار 18
مظاهر الاستياء من الفوارق المجتمعية والاقتصادية في الشعر العراقي  
 
لا يمكن إنكار حقيقة التفاوت الطبقي بين فئات المجتمع العراقي في أعقاب الاحتلال. وما حدث من تَغيُّر في البنية المجتمعية والاقتصادية وتعاظم عمليات بيع النفط أو تهريبه، وما رافق هذا من تحوُّل الأرباح الناتجة عن ذلك إلى جيوب فئة محدودة من المنتفعين جراء المصالح والفئوية والتخادم بين الجهات السياسية وعدد من التجار والمستوردين، في حين تعيش فئات من المجتمع تحت خط الفقر. ومن ذلك تولَّدت حالات من السخط شعبياً وشعرياً وصلت في السنوات الأخيرة إلى عمليات احتجاج عارمة طالبت بإزالة الطبقة السياسية وتحقيق العدالة في توزيع الثروة. ومما لا شك فيه "... أنَّ تزايد الثروة العامة، وسد الحاجات الاجتماعية المتطوِّرة للسكان يخلق مناخاً اجتماعياً مؤاتياً للتحول الديمقراطي بعكس المناخ الذي يخلقه الكساد والركود الاقتصادي"(1)
وعلى الرغم من العناية بإيراد بيانات ومواد دستورية تُؤكِّد على أهمية المساواة وتحقيق العدالة لضمان تحقيق الديمقراطية، إلّا أنَّ ذلك لم يلمسه المواطن العراقي الذي ظَلَّ متشبثاً بحلم أو بفكرة الإصلاح بعد أنْ أدرك حجم موارد بلده التي يمكن أن تُحقِّق له الرخاء إذا ما تَمَّ التعامل معها بنوع من الحكمة وحسن التدبير.
وأخذ الكثير من الشعراء يقلبون هذه الفكرة منتقدين غياب بوصلة الإصلاح عند التيارات الحاكمة، وهناك من عبَّر عن جزعه بالعودة إلى الماضي التليد مذكِّراً بمجد الأجداد ومستثمراً ذلك الإرث الحضاري ليقارن مع وضع بائس يعيشه حفيد السومريين على أرض غنية بكلّ الموارد لتأتي قصيدة رعد زامل بهذا الدفق التي حملت عنوان (قادم من أقصى المياه):
"قادم من أقصى المياه
أجرّ أذيال العطش
وكسهمٍ بلا هدف
أدور حول نفسي
صارخاً في الأهوار:
كلكامش أيُّها الجد
لماذا تركت الحمير يخضمون عشبة الخلود
بدمي أيضاً أخطبوط يثير الشغب
ما أنْ تضع الحرب أوزارها
حتى يشعل شرارة الأخرى
ليتنفس الأوكسجين المذاب بالدم
لذلك شاحب أنا
وهزيل
أستعين على الهجير
بقنينة من حبر
وبلثام من ورق"(2).
يأتي صوت الشاعر في هذه القصيدة معبِّراً عن حالة استياء وتذمُّر من حاضر مسكون بالعطش والجدب تترجمه القصيدة بمفردات الهزال والهجير والشحوب لتكون دلالة الرفض لواقع تحكمه مجاميع يسخر منها الشاعر الذي يستحضر كلكامش الجد الباحث عن عشبة الخلود في أرض الخيرات، لكنها اليوم تعيش حالة من الجوع والانقسام والرضوخ تحت إرادة من لا يعرف شيئاً عن أمجاد تاريخه وحضارته.
وُيكرِّر شاعرنا الذي يعيش في محافظة ميسان الغنيَّة بالموارد الطبيعية والغنيَّة بتاريخها أيضاً، يُكرِّر تنويعات الإشارة لوفرة المياه والأهوار، يقابل ذلك تذمُّر يعكسه مزاج الشاعر المتألم من حالة العطش والتراجع، لتمنحنا القصيدة شكلاً رمزياً لهذا التناقض بين ماضٍ مجيد وحاضر يئنُّ من سطوة الفوارق التي حفلت بها الحياة العراقية.
ويعزو اقتصاديون ما حصل من فوارق بين فئات المجتمع إلى خلل في النظام الاقتصادي وفهم مغلوط لآليات التعامل العادل مع موارد البلد، حيث يجد أستاذ الاقتصاد الراحل كاظم حبيب أنَّ في العراق من الأراضي التي تحمل ثروات مهمة لم يحسن استثمارها أو تطويعها لتكون ذات فوائد على المجتمع لإزالة الفوارق بين فئاته، "فالعراق يُشكَّل جزءاً عضوياً في النظام الرأسمالي العالمي، ولكنَّه الجزء المتخلِّف والتابع والمستنزف في موارده الاقتصادية وأمواله، والقائم على علاقات اقتصادية غير متكافئة. فالاقتصاد العراقي يُشكَّل جزءاً من تلك الدوائر المختلفة التي تدور في فلك المراكز الرأسمالية الدولية، وهذا الواقع المشوَّه يجعل من عملية إعادة الإنتاج أو مجمل العملية الاقتصادية بالعراق في مراحلها الأربعة (الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك) ضعيفة تعيق تحقيق عملية إعادة إنتاج موسَّعة وضمان تراكم رأسمالي وإغناء الثروة الاجتماعية من فروع وقطاعات اقتصادية أخرى وزيادة في التشغيل وتحسين في مستوى الدخول والحياة والمعيشة"(3).
وسجَّل الشعر العراقي تَقدُّماً ملحوظاً في تماشيه مع فهم الحالة الاقتصادية ومعرفة كيف تدار الدولة في ظل قصدية وجدها الشعراء تتعلَّق بتجسيد فكرة غياب العدالة ومن ثم زيادة الفوارق بين طبقات الشعب، الأمر الذي جعل الشعر يقترب من ضفاف التفكير المنطقي والثوري للإصلاح الاقتصادي والمجتمعي.
ونلاحظ قصائد أخرى حملت منحىً فكرياً ذا توجهات رافضة للموت الذي يسور الوطن من كلّ جانب، فيتَّجه شاعر مثل أحمد عبد الحسين ليناشد الله أنْ يحمي البلاد من جور العطش والفقر والاضطهاد والبؤس، ويختار لغة شكوى مريرة معاتباً على ما يحصل من فقر وانتشار عصابات تتجول بأحزمة ناسفة لترعب الناس وتحوِّل أزقة المدينة إلى كابوس، فيكتب في قصيدته المعنونة (بسم الله):
أنتَ يا بئر العطش
يا كنزاً أسودَ في فم الذئب؛
دع قنديلك الناطق بالأعاجيب يضيء اسم العراق،
ارفع خرقتك التي عصبت بها وجه بغداد
اجمع زينة الحرب من عتبات البيوت،
اجعل بنادقهم مكانس لئلا يقتِلوا أو يقتَلوا،
انفخ سراجك الذي يشع ظلمة في ليل أُمِّي،
ولا تترك حبيبتي تخرج خائفة
من البيت إلى الجامعة ومن الجامعة إلى البيت،
بل اختم على قلبها بأبعد نجومك
حتى تعرف وهي تشد لك حجابها
إنكَّ العاصفة
وقد ابتسمت أخيراً بعد طوال خراب.
أنت أرعبت قلب صغيرتي
وقد آن لها أنْ تلمس قلبك.
أماَّ ملائكتك الجوّابون من زاخو إلى الفاو،
الملائكة الملثَّمون ذوو البراثن والأنياب،
فأرجعهم بأحزمتهم الناسفة إلى الصحراء،
واجعلْ لهم بئر عطش
يستقون منها إلى أبد الآبدين.
وإذا جاءتك نساؤنا بسلالهن
ملآى بثمرات أرحامهن
فلا تملأها بحصتك التموينية
حسكاً وخبز مذلَّة،
ولكنْ
بالقليل القليل مما في خزائن غيبك المكنون
بنكهة الفجر املأها
ورفرفة طيور بيض يضربن بأجنحتهن
في صلاة العشاء.
أغرق عيونهنَّ كحلاً وقلوبهنَّ كركرة أطفال
لئلا ينشغلن عن الصلاة إليك بأسماء أبنائهنَّ،
من مات منهم ومن هرب،
يا بئر العطش"(4).
هذه القصيدة المحمَّلة بالشفرات تكاد تفصح عن روح تمردية تخالف قناعات مجتمع ديني يرفض معاتبة الله على هذه الشاكلة التي أرادها الشاعر أنْ تخرج من فم مكلوم اكتوى بنار الحروب وعصابات الموت، مع حالة الجزع من غياب العدالة. فما كان من شاعرنا إلّا اختيار لغة تضجُّ بالدلالات والصور التي تواجه الواقع بهذا الكم من البوح والشكوى، وهي ملغزة بإدانة الصامتين على ما يحصل بالبلاد نتيجة هيمنة مجاميع مسلحة تدَّعي قربها للدين!، بل وتجتهد في إقامة الحدِّ وترويع الناس المخالفين لنهجهم، مذكِّراً بيوميات العراقيين التي لا تنسى حيث الأحزمة الناسفة التي تقتحم الأسواق، يقابل ذلك تذكير ببؤس الحال من مفردات البطاقة التموينية التي لا تعين الفقراء في إشارة ذكية لموت يحاصر الشعب مع خذلان يصاحب أيامه جَّراء غياب التوزيع العادل للثروة، حيث يورد الشاعر في قصيدته أنَّ الأمهات ينتظرن مفردات البطاقة التموينية التي لا تأتيهن إلّا بالمذلَّة، فهي لا تسدُّ رمق العيش.
ولا بدَّ لنا من التوقُّف أيضاً عند دلالات العنوان الرئيس لمجموعة الشاعر التي حملت أيضاً صرخة استهجان معلنة على الظلم الحاصل في العالم وقد اختار عنوان مجموعته (دليل على بهتان العالم) ليضعنا أمام تصوُّر لا يقبل الشك بوجود تلك الفوارق التي من شأنها أن تدفع الشعراء إلى مواجهة هذا السيل من التصدُّع في أركان العدالة التي لاُبدَّ لها أن تكون قائمة ليكون العالم أكثر قبولاً.
لذلك يمكننا القول: إنَّ الشاعر هنا بدأ بالشروع في إظهار الحدث وتجسيد التناقض من العنوان ذي الرمزية العالية، كما كان الرمز حاضراً بقوة بين ثنايا النصِّ، ليجعل منه نصَّاً ثرياً بالدلالات يمنح المتلِّقي تنوعاً في التأويل ويفتح الأفق نحو مديات أكثر للكشف عن الوجع الجمعي لشاعر أتقن الإدهاش في تفسير وإدانة هذا العالم،  إذ "... يعدّ الرمز في النصِّ الأدبي، سواء أكان ذلك النص نثرياً أم شعرياً، مرتكزاً أساسياً يقود القراءة إلى تأويلات تتصل بمرجعيته من جانب، وتتصل بطبيعة استثماره وحضوره في النص من جانب آخر، عن طريق الإشارات المبثوثة في المتن وتقوم بمهمة بنائه، وتحيل إلى خارج النص إحالة صريحة بالإشارات ذات السمة الظاهرية، أو تلمح إلى ذلك الخارج بالإشارات ذات السمة الوظيفية التي تتصل بتلك المرجعيات أو تقترب منها أو إلى الأشياء المجاورة لها"(5).
ولأنَّ شاعراً مثل أحمد عبد الحسين من المغرمين بالاقتراب من ضفاف التصوُّف وتجميل أعماله ببواطن اللغة وما تحمله من إشارات فلسفية وأخرى ذات طابع ديني لا ينكشف بسهولة ضمن مجريات النص المفتوح فهو قد برع في إرغامنا على مشاركته تساؤلاته وخيبته التي أنتجها بملاحقة صور اليوميات في بلاده مع الاعتماد على خزين مرجعياته الفكرية التي خدمت هذا النص الملغَّز، الذي يستند إلى تجارب الشاعر الذاتية. "إنَّها تجارب تنوس بين التصلُّب في الإيمان بالكلمة، بوصفها صوتاً خالصاً، وإنتاج نسخة منها، تتكرَّر بألوان لا تمنحها مشهدية مختلفة، تشكل صورة نمطية، ترتفع بجردها من التاريخ، ومن منبع الواقع، مع ذلك، انعطفت التجربة عبر النظر الحرّ الذي يتمتَّع به أحمد عبد الحسين شاعراً، النظر الحرّ إلى تجربة الشعر، في استيفاء درب الشعر غير المطروق، في حدّه الأساسي، في الشعرية، مقروناً باستيفاء درب الحياة المطروق، مآسي الوطن، تجربة المنفى، تجربة الاحتجاج، والتصارع مع الحياة، ومن هنا كتب الشاعر شعريته الخاصة، شعرية تفكُّر، تقول القيود من أجل التحرُّر منها، وتنبع من موقف متطلع، متوثِّب"(6).
وهكذا يواجه شعراء هذه المرحلة واقعهم بما يملكونه من خزين التجربة وحتمية الانتصار إلى قول الحقيقة التي تتطلِّب في بعض الأحيان شعرية تستند إلى ثقافات متنوعة تمنح الشاعر حرفية التبصُّر في متاهات الوجود الذي يزداد غموضاً بفعل ارتباك الحياة السياسية ومضاعفة المعاناة الإنسانية، ولا يمكن إخفاء حقيقة جوهرية تتعلَّق بطبيعة العلاقة الشعرية مع المشكلات الاقتصادية والأزمات المجتمعية التي تحرِّك وجدان الشاعر لاختيار ما يراه مناسباً ومطواعاً لشعوره بالأسف والانسحاق بوجود تبعات الحروب وما يرافقها من ظروف عصيبة يترجمها الشعراء تبعاً لحدود معرفتهم أو حدود تواصلهم مع هموم أبناء وطنهم. وهنا سنجد الشاعر منذر عبد الحر يُعبِّر عن حالة الاستياء من الفوارق الطبقية بين أبناء مجتمعه في وطن تغيب عنه قيم العدالة نتيجة السياسات الخاطئة، لكنَّه شاعر أكثر وضوحاً من شعراء آخرين في وصف هذه الفوارق، فلم يتقصَّد الإيهام أو التلاعب باللغة، بل على العكس اتجه نحو مصارحة قرَّائه بحقيقة هذه الفوارق في قصيدته المعنونة (الفقراء) بقوله:
"أصدقائي الفقراء...
عُشَّاق..
حالمون
يطيرون بأجنحة الغناء
فراشات بين زهور المعنى
هم...
أكثر ثراء
من تُجَّار السيارات
ومقاولي الدم
أصدقائي الفقراء
لا يضحكون كذباً
ولا يرون في العالم
إلّا الحب...
عائماً كسفينة من عطر
نهرها عذاب مقدَّس
وشراعها... لوعة تبثّ قصائد
يهدونها مع الورد
لحبيباتهم
هم...
أكثر ثراء بأناقة ملامحهم
ونقاء خطواتهم
إنَّهم لا يكرهون إلّا السواد
والذلّ
وخيانات الروح
يحرثون النهارات بمحراث الصبر ويقطفون البهجة
بمنجل الوهم"(7).
تتميَّز هذه القصيدة بالتعويل على المفارقة وعقد المقارنة التي أراد منها الشاعر أن تكون الثيمة الأساس، معِّرفاً بأصدقائه منذ السطر الأول بأنَّهم الفقراء ليعلن بفخر أنَّه ينتمي إلى هذا الفقر الذي يُميِّز الطيبين من هذا البلد المنكوب الذي يعيش فيه الفقراء بهذا العوز مع الصمت على هذه البلوى من الفوارق الطبقية التي حكمت الوطن المبتلى بقوانين وتشريعات وشخصيات غير عادلة، صنعت الفوارق بين فئات المجتمع فكان الظلم الذي كتب عنه الشاعر هنا ممهِّداً بالقول:
(عُشَّاق.. / حالمون/ يطيرون بأجنحة الغناء/ فراشات بين زهور المعنى/ هم.../ أكثر ثراء/ من تُجَّار السيارات/ ومقاولي الدم).
ليعظَّم من شأن الفقراء بعدّهم من الحالمين الباحثين عن المعنى، وهو بذلك يمنحهم خصوصية المعرفة أو خصوصية الثقافة التي باتت قرينة العوز والفقر في بلاد يعيش فيها تُجَّار الدم والمقاولون في رخاء يسخر منه الشاعر الذي يستمر ويتواصل في ذكر خصال رفاقه وصفاتهم من الفقراء المعوزين:
(أصدقائي الفقراء/ لا يضحكون كذباً/ ولا يرون، في العالم/ إلّا الحب.../ عائماً كسفينة من عطر/ نهرها عذاب مقدس/ وشراعها... لوعة تبثّ قصائد/ يهدونها مع الورد/ لحبيباتهم).
فهم الصادقون والشاعريون والمغرمون بقول الحق، وهو بذلك يستبطن الصفات المعاكسة لتجار الحروب من الأثرياء الذين عاثوا بالبلاد فساداً، واستغلوا واقع الفوضى ليملأوا جيوبهم ومصارفهم بالأموال على حساب وضع بائس يعيشه أقرانهم من أبناء الوطن.
يتَّجه الشعر هنا ليكون وثيقة إدانة، محمَّلة بالخطاب المباشر، لهذه الفئة من الذين صنعوا أمجادهم على حساب الفقراء، ولأنَّ الشاعر أتقن لعبة المفارقة في لغته الشعرية فإنَّه أغنى نشيد الشكوى بأفعال مضارعة حملت صيغة الجمع لتؤكِّد ذلك الإعجاب المعلن برفاقه المحبين والشعراء والفنانين الذين يذوقون العذاب اليومي لكنَّهم ما زالوا منصتين إلى لغة الحب، وهم يتقنون ويستلذون بشاعريتهم، إذ إنَّ فقرهم زادهم ثراءا وزادهم حُبَّاً لبلادهم. وهي مفارقة ذكية جعلت من هذه القصيدة تحمل خصوصية التفرُّد في الرومانسية التي لم تفارق أجواء مقاطع تمجد الفقراء لكنَّها تدين الفقر، تمجِّد روح التحدِّي والصبر وتدين الأثرياء الذين استثمروا الفوضى وتجاهلوا فكرة العدالة التي ركَّزت عليها القصيدة.
وحفل هذا الخطاب الذي استند على معطيات واقعية متمثلة بجزع شعبي من استمرار مسلسل الاذلال الذي يمارسه النفوذ المالي على شريحة الكادحين , حفل بلغة كاشفة واضحة تلتقط شفرات الادانة المعبئة بالهم اليومي من خلال مجسات الشاعر الانسانية ذات الصبغة الثورية التي تخرجه من تهمة النخبوية نحو الفضاء  الجماهيري بتكثيف صور التقزيم لمنجزات الدولة المحنطة بغاياتها التقاسمية التي امست ترنيمة سخرية يرددها الشارع لتنتقل تلقائيا الى اهتمام الشعراء الذين برع بعضهم بتبني افكار لا تكتفي بالإدانة المعتادة نحو تحريض المتلقي على اعادة قراءة الذات وتمكينه من مستنقع السكينة والذبول الى رحابة وفضاء الثورة المتاحة، التي يمهد لها الشعر الملتزم بقضايا المجتمع والذي خرج من اتون الحروب التي خاضها المترفون والمتنفذون بصحبة السياسيين ممن كانوا الدرع الواقي والحماية الصريحة لعروش وقصور العابثين بفقراء البلاد المتخمة بالخيبة وغياب العدالة، فكانت مفردات اغلب القصائد ممزوجة بالأنين والصراخ والهستيري من تعاظم الفوارق الطبقية، في حين اكتفت قصائد اخرى بالتلميح او اخفاء الغاية المثلى في التصدي الى فكرة الطبقية نحو رفع شأن التصوف او الزهد واحاطة الموضوع بالضبابية وبالغموض دون ان تغادر هدف تأثيم الماسكين بزمام الامور من رجال الدولة ومعهم اصحاب رؤوس الاموال المتلازمين في صفقات فساد مهدت لقوانين وتشريعات ضامنة لديمومة الهيمنة المتواصلة لبرمجة تعاظم مواردهم  على حساب الفقراء والمعوزين في وطن مرهون لسلطة ارباحهم ومكاسبهم الفئوية.
*وكيل وزارة الثقافة والسياحة والآثار- العراق
الهوامش:
  1. فراس البياتي، التحُّول الديمقراطي في العراق بعد 9 نيسان 2003، بيروت، دار العارف للمطبوعات، 2013، ص30.
  2. رعد زامل، الأعمال الشعرية 1999 - 2019، سطور للتوزيع والنشر، بغداد، 2020، ص102.
  3. فارس كمال نظمي (تحرير)، الرثاثة في العراق: اطلال دولة.. رماد مجتمع، بغداد، دار ميزوبيتوميا، 2015، ص
  4. احمد عبد الحسين، دليل على بهتان العالم، ديوان شعر، ايطاليا، منشورات المتوسط، 2016، ص7 - 8.
  5. حسن كريم عاتي، الرمز في الخطاب الادبي، بغداد، الروسم للصحافة والنشر والتوزيع 2015، ص
  6. حسن ناظم، شعرية العابث، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، 2019، ص170
  7. منذر عبد الحر، مطر صاعد الى السماء، بغداد، منشورات احمد المالكي، 2020، ص9 - 10.