أيار 18
 تحمل رواية «الراعي والراعية» لفيكتور أستافييف عنواناً فرعياً، “أنشودة رعوية حديثة”. والرعوية فن قديم من القرنين الثالث عشر والرابع عشر يمتاز بالتصوير الشعري للرعاة والراعيات في أحضان الطبيعة. زمان حوادث الرواية أقرب إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حين صار الألماني ضعيفاً.
   تجمع هذه الرعوية الحديثة ثلاثة أزواج. يتحدث بوريس كوستيايف مع لوسا عن المسرح ذي الأعمدة وعن رعويات الباليه “تصوَّري أنَّ الموسيقى كانت كلون أزهار الليلك. إنها بسيطة ومفهومة وليلكية... المرج أخضر والخراف بيض. والراعي والراعية يرتديان معاطف جلدية. أحبَّ أحدهما الأخر ولم يخجلا من الحب ولم تساورهما الخشية عليه”. فالزوج الأول -هذان البطلان من رعوية الباليه. والزوج الثاني-العجوزان القتيلان “علِم المقاتلون من أبناء القرية أنَّ هذين العجوزين قَدِما إلى هنا من حوض نهر الفولغا في عام المجاعة”. كانا يرعيان أبقار المزرعة التعاونية. إنهما راعٍ وراعية. والزوج الثالث-بوريس كوسيتايف ولوسيا التي التقى بها في القرية واللذان أنهكتهما الحرب حد الموت.
   بوريس كوستيايف- شخصية بطولية ومقاتل شاب. تبدأ حكاية بوريس ولوسيا من مأثرة متفانية لملازم شاب. وتبدأ الموضوعة الرعوية الحديثة وتصدح بشدة عند ظهور لوسيا في السهب عند قبر تغطية أعشاب وحشائش، وتساؤلها “لماذا ترقد وحيداً، في وسط روسيا؟” استمعوا إلى هذه الكلمات يبدو أنَّ ابسط الكلمات لها قوة تأثير غير اعتيادية...
لم يجرِ الحديث في "الراعي والراعية عن حياة لوسيا قبل اللقاء مع بوريس كوستيايف ولا عن حياتها بعد الحرب. لم نعرف عنها شيئاً كما لم يعرف عنها بوريس كوستايف كذلك... بينما تبدو لوسيا وكأنها تعرف عنه كل شيء وتحس بكل شيء، "ماذا بك؟ أو...؟ - استندت لوسيا على مرفقها وصارت تنظر إليه بذهول: أو أنّكَ... تخشى الموت؟" فأجابها بوريس "أمرٌ مرعب أنْ تتعود على الموت. التسليم له مرعب، خاصة عندما تصبح كلمة موت دارجة في الاستعمال ككلمات أكَلَ ونامَ وعَشِقَ....".
    قاتل الملازم كوستايف جنباً إلى جنب مع رفاقه بالسلاح قتال الأبطال. فقد كان قادراً على حمل رفيق مصاب من ميدان المعركة أو تخليصه من طوق حصار العدو- لكن كوستيايف لم يقدر على سحب نفسه ويخلصها من الموت. فقد مات من إصابة تُعدّ في الحرب غير مميتة. مات لأنه صَعُبَ عليه جداً أن “يحمل روحه”. ولا يمكن فِهم هذا الشعور إلا عند قراءة “الراعي والراعية” صفحة بعد صفحة. إذ لا يمكنك أن تفسر ذلك بأي تحليلات نقدية. وبطبيعة الحال كان ينبغي أن تعمل في ظروف الحرب طويلة الأمد غريزة حفظ الذات. ولا شك في كون بوريس كوستيايف شخص حنكته التجربة ومرهف الحس شديد الحذر. وقد وِهِبَ هذه الحاسة ليس من اجل حفظ نفسه حسب. فالملازم كوستيايف يشعر بالذنب لأنه لم يحمِ من اللغم شكاليك، الجنديَ المهمِلَ، ومقتل هذا الصبي يزيد ألمه كثيراً.
    لقد جسد النثر الحربي الروسي، فكرة الخير، وكان نثراً مضاداً للحرب. إنَّ "الراعي والراعية" أحد الأمثلة الساطعة للاحتجاج على الحرب وعلى كل أنواع الحروب. لقد عبَّر الكاتب عن فكره المكنون ليس في شخصية بوريس كوستيايف فحسب. فرئيس العرفاء موخناكوف - نقيض الملازم الشاب، إنسانٌ قاسٍ. يقول موخناكوف: "أتمنى لو كنت جلاداً للألمان المجرمين". وهو كذلك يستدعي "رصاصته" بمرارة شديدة، إذ تضنيه الحرب حدّ الموت. وفيما بعد، في المعركة الأخيرة، يستبقي موخناكوف تحت الدبابة مع لغم معدّ سابقاً واضعاً في حقيبة ميدان (عسكرية) الأنواط ملفوفة بخرقة قماش قطني ورسالة مختصرة لكوستايف يطلب منه فيها أن يهتم بزوجته وأطفاله. هذا يعني أنَّ رئيس العرفاء موخناكوف الذي حنكته التجارب رأى مسبقاً أنَّ الموت ليس بعيداً عنه، حتى أنه حضّر الرسالة لكنه كتبها للملازم نفسه واثقاً أنَّ مثل هذا الطيب والشريف لا يُقْتَل.
    يرى النقاد أنَّ فيكتور أستافييف يجيد دائماً خلق الشخصيات النسائية. يقول الناقد ألكساندر ماكاروف: "انه قريب من التقاليد الرفيعة للأدب الروسي المتمثلة بالانبهار بالمرأة – الأم، والمرأة – الزوجة". لقد جسَّد فيكتور أستافييف المثالية الروسية في شخصيات الجدة من "التحية الأخيرة" وأفغوستا من قصة "تدوي الحرب هناك في مكان ما" وناديجدا من قصة "يد الزوجة" ... توجد عند فيكتور أستافييف قصة قصيرة رهيبة في "الخريف الممطر" كل شيء فيها حزين، إنها قصة عن قرية مهجورة في زمن ما بعد الحرب وهي شبيهة تماماً بالقرى في أيامنا هذه، حيث وحدة العجائز والسَّنة القاحلة (بلا محصول) والحريق في الحقل ومعاقرة الخمر بسبب المآسي: "ضاع كل شيء... نشرب - حتى ننسى". فلو قُدِّر لأحد الصحفيين أن يأتي إلى هنا لكتب بالسخام الأسود عن الإدمان في القرية. بينما فيكتور أستافييف كتب قصته القصيرة تلك لكي ينعش الإحساس بالخير والأمل. "لا تطلق الأحكام جزافاً ولا تلُم نساءنا.... إنَّ بهنّ حاجة للشفقة عليهنّ لما يُعانين من شظف العيش، ومد يد العون لهن" - يقول رئيس العمال يرمي تشيرداكوف "كما إن بي حاجة لهذه الشفقة والتعاطف الذي أود سماعه". ولو أعَدتَ اليوم قراءة القصة حول القرية المهجورة بعد الحرب سينتابك شعور بالثقة بأنَّ الأمل موجود حتى في زماننا هذا. إذ تمكن الناس آنذاك من الارتقاء بآلاف القرى التي خربتها الحرب!
   يفترق القارئ مع لوسبيا من الرعوية الحديثة "الراعي والراعية" عند قبر وحيد تغطيه الحشائش والأعشاب. مضت سنون طوال منذ نهاية الحرب، لكن حتى في أيامنا هذه ما زال البحث جارٍ عن قبور بلا أسماء وشواهد. من يرقد في تلك القبور؟
تساعد قصة "الراعي والراعية" الجيل الشاب الحالي على فهم فكرة بسيطة ومهمة جداً، مفادها: أن الحرب أخذت من روسيا حياة الملايين، لكن يجب ألّا يقتصر الأمر على عد تلك الملايين بل ينبغي أن يكون لدينا تصور واضح أن حياة كل فرد من ذلك الكم الهائل هي حياة وحيدة ولا تتكرر -ولا شيء أثمن من هذه الحياة البشرية الواحدة.
   كانت لدى أستافييف علاقة خاصة بالرعوية الحديثة التي كتبها. وفي ردٍّ على إحدى المقالات النقدية عن "الراعي والراعية" كتب: "ينتابني الشعور بالقرف عندما أعيد قراءة الكثير مما كتبت ولكن عندما سافرت بالقطار من بيرم قرأت الراعية ويعجبت من نفسي وأحسست فجأة بحبي للوسيا كذلك. أيْ أني على ما يبدو أحببتها طوال حياتي، أحببت هذه المرأة الخيالية حتى صارت قريبة مني حد الألم".
تتحدث هذه الرسالة كذلك عن حكاية أصل قصة "لراعي والراعية". إذ يبدو أنَّ فيكتور أستافييف بدأ يفكر بها منذ عام 1954. "كنت اعمل في إذاعة المحافظة وقد تخلفت عن القطار في مفترق طرق بعد كيزيل في الأورال. وكان معي كتاب "مانون لسكو" فقرأته في ذلك اليوم وقد صدمني ففكرت في نهاية المطاف: "فماذا، إذن؟ ..." فكرت، أحقاً إننا لم نعد نعرف الحب والإحساس والعفو، واختفى من علاقاتنا حتى الغموض؟ أحقاً غادرت الرومانسية روحنا؟ إذاً هي النهاية!"
   حمل فيكتور أستافييف فكرته سبعة عشر عاماَ، بينما كتب المسودة في القرية خلال ثلاثة أيام، ثم عدّلها اثنا عشر مرّة وأعاد قراءتها. فقد أراد، كما قيل في الرسالة، ثم عدّلها اثنتا عشرةَ مرّة وأعاد قراءتها. فقد أراد، كما قيل في الرسالة "أن يكتب ببساطة عن الحب الخاطئ والدنيوي الأرضي". فهل خرج العمل-عن الحرب. أو، كما أراد، عن الحب؟ يبقى السؤال موجهاً للقارئ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
فيكتور أستافييف: (1924-2001) كاتب روسي شهير. من أعماله، "الراعي والراعية، المفتش الحزين، ملعونون ومقتولون، الغسق الأزرق"... وغيرها كثير.
إيرينا إيفانوفنا ستريلكوفا: (1924-2006) كاتبة سوفيتية وروسية، لها العديد من الدراسات في الأدب الروسي السوفيتي.
تحسين رزاق عزيز: كاتب ومترجم عراقي يقيم حاليا في روسيا، يترجم " للثقافة الجديدة" لأول مرة