أيار 18
 
وقف مسؤول اللِحام خليل، عند طرف ماكنة التفريز بين ناجي مسؤول الخراطة وعامله وحيد. كان خليل في وقفته تلك مهيمنا بطوله الفارع على الإثنين، مائلا بعض الشيء برأسه الضخم نحو وحيد وقد ضيق عينيه بمكر وهو يقول بصوت خفيض متوعد:
-"أتقول أنت ما قلته لي اليوم عن ناجي أم أقول أنا؟"
ران الصمت ثقيلا على الثلاثة، وقد زاده وطأةً السكونُ الذي عم سقيفة مأوى القاطرات في ساعة الغداء بعد انسحاب عمال الصيانة الى غرفة الإستراحة. رفرفت حمامة في مكان ما على عوارض السقيفة الشاهقة، وعاد الصمت من جديد لا يشوبه سوى دمدمة بعيدة لقاطرة المناقلة التشيكية وصدى أكثر بعدا يبدو كما لو كان لجرس، في المحطة ربما. لم يكن ناجي في تلك الأثناء قد حول نظره عن وحيد. رأى كيف ارتبكت ملامحه أول مرة ثم استسلمت الى شحوب غيّر لون بشرته قاتمة السمرة الى لون بني، وقد ثبت عينيه على غطاء الماكنة بينهما، كانتا عينين تركز فيهما كل الشعور بقسوة السؤال المفاجئ الفاضحة، وإذا كانت هذه الطلعة السمجة من قبل خليل أبو راس، حتى ولو كانت مزاحا، غير متوقعة بالنسبة الى الشاب وحيد ذي الخمسة وعشرين عاما فإن ناجي الذي يعرف خليل من أيام دراستهما معا في المعهد لم يكن ليجدها غريبة أن تصدر منه، وليست سوى مقلب من مقالبه التي يدمن على إيقاع الآخرين فيها، لولا أنه فعلها معه هذه المرة. الحقيقة أنها كانت مفاجئة له هو أيضا. لقد أبقى بينه وبين خليل دائما على مسافة ثابتة لا تبيح لهذا أن يمازحه، مسافة تحكمها صرامة لا يمكن حتى لخليل الفوضوي تجاوزها، ولكن يبدو أن عامله تفوه بحماقة مكنت خليل من أن يعبرها بخطوة واحدة. خلال عشرين عاما، إذا صادف ان يكونا معا في موقع العمل نفسه، كلما دار نقاش بينهما غالبا ما كان ناجي يخرج رابحا، وفي أول شبابهما كان كثيرا ما يوبخ خليل على انغماسه في حياة شقق العزاب، سكر ومعاشرة البغايا، وعلى ميوله السياسية الفوضوية. الآن وبعد هذه السنين، كما كانا من قبل، لا أحقاد، على الأقل من جانب ناجي، فللعِشرة عنده اعتبار، غير أن الشيخوخة لم تخفف من لؤم خليل وميله للسخرية وإنْ رمت بثقلها عليه، وقد منحه وحيد فرصة العمر ولا شك، يمكنه أن يدرك من إطراق وحيد أنه فعل. التفت ناجي ببطء نحو خليل الذي كان لا يزال ينظر مبتسما الى وحيد الذي أصبح لا يدري أين يذهب بوجهه عنه. كان يعذبه بنظرة التشفي الواخزة تلك ويستمتع غاية الإستمتاع، وتدريجيا تحولت الخيبة التي استحوذت على حواس ناجي مما فعله وحيد الى حقد على خليل، لأول مرة في حياته يحقد عليه، وربما كان سيدفعه ويطرده لو بقي واقفا مكانه ولكن خليل، وقد اكتفى بما حصل عليه من متعة التشفي، بدد الصمت فجأة قائلا لوحيد: " سأذهب لكي تبقيا وحدكما وتقول له بنفسك ما قلته لي عنه". ودون أن ينظر الى ناجي خرج متوجها الى ورشته بخطوات أثقلتها البدانة.
بقي ناجي للحظات مثبتا نظره على الفراغ الذي خلفه خليل، فكر أن يسأل الولد ما الذي قاله ويخلصه من الإحراج، لقد قال شيئا ما، ثم ماذا؟
-ماذا قلت له؟
رفع وحيد بصره اليه بنظرة خالها ناجي تعبيرا عن امتنان خجول لأنه طلب منه أن يتكلم ويقول ما قال فلا يبقى الأمر سرا وفي هذا بعض الراحة. قال:
-قلت له أنك مخبل... لا أ.... لم....
وراح بتمتمة بضعة حروف لعله أراد أن يبرر أو يعتذر ولكنه لم يستطع، وما لفت انتباه ناجي أن وحيد لم يبدأ مخاطبته له ككل مرة بكلمة "إستادي" مثلما تجاهل خليل مخاطبته بكنيته لأول مرة على قدر ما تسعفه ذاكرته منذ أن التقيا بعد توظفهما وكانا قد تزوجا وأنجبا وأصبح لكل منهما كنية. لقد تفهم ناجي استبعاد وحيد كلمة "إستادي" من اعترافه إذ ستكون نشازا في الإعتراف، فكر بمسحة من السخرية المرة، "إستادي أنت مخبل"، بذل جهدا ليمنع نفسه من الضحك أو الإبتسام:
-لقد أدخلت السرور على قلب خليل كما لم يدخله أحد عليه من قبل... هو الآن جالس يضحك علي وعليك....    
سكت للحظات. لم يسأله ما السبب أو ما كان موضوع حديثهما الذي أدى به الى أن يصفه بهذا الوصف لأنه لم يكن يريد أن يزيد الأمور سوءا بينه وبين عامله بكشف الكثير وهو لم يبق على صدور أمر إعادته الى بغداد إلا أيام قليلة بعد أن قدم طلبا بذلك لرغبته في قضاء ما تبقى من خدمته في مدينته بغداد، كما أنه وبعد قليل من التفكير رأى أن وصفه بالمخبل ليس شيئا جديدا باستثناء أن وحيد هو الذي قاله هذه المرة، فجميع من في المعمل يرون فيه شخصا غريب الأطوار لتشدده في تطبيق أوامر العمل وتدقيقه في مواصفات العمل المنجز ورفضه لكثير من العروض للقيام بأشغال على مكائن المعمل لأناس مقابل مبالغ مالية تحسن وضعه المادي، بل بالعكس كان ينفذ أعمالا خارجية للدائرة بعقود رسمية ويعطي أحيانا المكافآت التي يحصل عليها للعمال الذين يقومون بالعمل معه ومنهم وحيد. نعم هو مخبل لأنه مشغوف بالكمال، مع ذلك كان ناجي يتساهل مع وحيد في العمل وأوقات الدوام ويسمح له بالإنصراف قبل نهايته ليذهب للعمل في السوق ليعيل أهله وعائلته ويوفر العلاج لوالده. لكن هذا الإستثناء لم يكن بلا مبرر برأي ناجي.
قال له: "إذهب الآن وأعد درجة طاولة التفريز الى الصفر ونظفها من البرادة".
واستدار متوجها الى خارج السقيفة من ناحية الأرض الفضاء حيث تمتد خطوط السكك متوازية ومتداخلة حتى المحطة وحيث تترامى على مد البصر من الجانبين أرض برية محاذية للصحراء لا شيء فيها من العمران سوى بضعة بيوت لعوائل عمال السكك من اليمين ومركز شرطة من اليسار وعند الأفق المحطة. لن يأتي قطار إلا بعد ساعتين والخطوط خلت حتى من قاطرات المناقلة. ذهب الى أبعد مما يذهب عادة حين يكون بحاجة الى أن يختلي بنفسه. جلس على طرف إحدى عوارض السكة الكونكريتية ومد رجليه على الأرض الحصوية. لقد شعر بأن شيئا حميما بينه وبين وحيد قد تلاشى، كما يتلاشى شيء بين أب وابنه بعد خيبة أو خذلان، نعم بين أب وإبنه، لطالما شعر بأنه فعل لوحيد ما يفعله الأب لإبنه، لقد علمه الصنعة وهو طفل صغير عندما كان في معقل البصرة، ليس هو فقط  بل مجموعة من أبناء عمال السكك لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة لكي يكونوا بدلاء عن آبائهم وتبقى عوائلهم في دور السكك الصغيرة ذات القباب إذا ما مات الأب أو أحيل على التقاعد. فما الذي يفعله الأب لإبنه أفضل من أن يضمن له موردا ويعلمه صنعة يعيل بها فيما بعد زوجة وأطفالا؟
كانوا ستة علمهم كيف يكونوا أسطوات بارعين، وأشرف على عملهم أربع سنوات، فتيان كان يسرهم أن يكلفهم بعمل فيسارعون لتنفيذه بمرح وسرعة، يدفارد المسيحي الأنمش الأشقر الذي كان ناجي يعطيه ثمن ربع قالب ثلج في ساعة الإستراحة كل يوم في الصيف ليذهب الى شارع  المحطة من جهة القصور بيوت كبار الموظفين ذات الطراز الإنكليزي الكولونيالي، ويشتريه من بائع الثلج ويوصله الى بيته، يضعه على العتبة ويطرق الباب وينصت وعندما يتأكد من أن أحدا قادم لفتح الباب ينصرف سريعا على دراجته عائدا الى المعمل، لم يكن يدفارد يقبل أن يؤدي هذه الخدمة الى "إستاده" غيره، وكاظم ابن الحداد الأسود كالباذنجان ذو القلب الطيب كالورد الأبيض الذي كان يغني لنفسه أغاني الخشابة وهو واقف عند ماكنته المقشطة، وغازي إبن شلتاغ عامل صيانة مرجل القاطرات البخارية التي لم يبق منها في العمل آنذاك غير قاطرتين صغيرتين عتيقتين للمهمات ضمن المنطقة، شلتاغ الذي قضى سنوات خدمته الأخيرة في كآبة لأن زمن القاطرات البخارية ولى ولم تعد تتاح له الفرصة كثيرا ليظهر مهارته في تثبيت مسامير بدن المرجل المحمية حد الإحمرار بضربات مطرقته الضخمة، وربيع إبن الملا الذي إذا تغيب يوما افتقد الجميع نكاته ومرحه، و "عبادي خمسه ميل" ذو اليد الذهبية في العمل والقدم الذهبية في كرة القدم، نعم كرة القدم، فقد شكل ناجي من تلامذته وفتيان آخرين من أبناء حي القبب والحي المجاور الذي كان يسمى قديما حي الهنود فريق كرة قدم ينقسم الى فريقين ويجرون لعبة في ساحة البضائع أيام العطل يكون فيها هو المدرب وهو الحكم، مباراة هي الى المزاح الخشن والضحك المتواصل أقرب منها الى الرياضة.
لكن لا شيء ينتهي نهاية طبيعية في حياته، وهو شخص يملأ عقول رجال الأمن بعلامات الإستفهام إذ يتملص من الإنتماء الى الحزب ومن الإلتحاق بقاطع الجيش الشعبي ودائما يتحدث بأحاديث مريبة وفي دولابه في دار الاستراحة كتب لا يفهمون ما فيها تبدو كأنها مخصصة لتعلم لغة ما.
جاء الأمر بنقله، بمبرر الحاجة الماسة الى خدماته ككل مرة، الى أبعد نقطة شمالا، محطة اليعربية داخل الحدود السورية حيث قضى سنوات عمله في فحص البضائع الآتية الى العراق، لا أحد عراقي هناك سواه ولا وسيلة له للتسلية غير التمشي في أوقات الفراغ في البرية المحيطة بالمكان والذهاب الى القرية المجاورة، ثم تعرف على من يستطيع أن يأخذه الى مدن سورية قريبة لقضاء ساعات من الترفيه. كثيرا ما خطر على باله خلال حياته فيما بعد السؤال الذي لم يجد له جوابا مقنعا: "لماذا لم يبق في سوريا أو يذهب الى دولة أخرى، أوربية، أو غيرها وكان في مقدوره ذلك؟".
التقى بعد سنوات بوحيد في هذا المعمل حيث لم يتوقع أن يلتقي به بعيدا عن البصرة. عرف منه أن جميع "الوِلِد" قد انتهوا نهاية مأساوية خلال الحرب. كاظم إبن الحداد أخذوه في قاطع جيش شعبي بديلا عن أخيه الأكبر الطالب في الكلية وحوصر القاطع بمجرد وصوله الى الجبهة ولم يعد منه أحد، وعبادي ذو القدم الذهبية فقد ساقيه في قصف تعرض له المأوى، وغازي أيضا مات فورا في نفس القصف حيث كان بجوار خزان الهايدروكاربون عند انفجاره، ويدفارد اختفى ولا يعرف أحد مصيره. تقول الإشاعة بأن رجال الأمن اعتقلوه وهو عائد من المدرسة المسائية في شارع فرعي بالأبِلّة دون معرفة السبب، وربيع ابن الملا اعتقلوه أيضا مع أهله كلهم بتهمة الانتماء الى حزب الدعوة. لم يبق منهم سوى وحيد ومن يومها كان الشعور المهيمن على ناجي هو الشعور الأبوي، نوعا ما يشبه شعور أب فقد أبناءه كلهم ولم يبق غير واحد منهم، حتى ألقى بينهما خليل ما ألقى اليوم.
نهض وسار عائدا الى المأوى. مر من أمام الأبواب المواربة ولم يدخل الى ورشته بل ذهب مباشرة الى ورشة اللحام. وجد خليل وحده يتناول غداءه، رفع خليل بصره نحوه ودفع الأكل الموضوع على قطعة من النايلون فوق الطاولة الحديدية ليكون في المنتصف بينه وبين ناجي ليأكل معه ، جلس ناجي قبالته وهز رأسه غير راغب في الأكل، لم يلح عليه خليل ولم يعلق بشيء بل واصل الأكل، خبز عروق وخضرة وكوب الشاي الكبير يتصاعد منه البخار. بعد قليل تمتم: "إشرب شاي إذن". رد ناجي وهو يحدجه بنظرة ثاقبة: "لا أريد شايك....". ثم بعد لحظات من الصمت المتأمل: ".. أريد فقط أن أعرف لماذا فعلت هذا وأحرجت الولد؟ كان بإمكانك أن تقول لي بغير طريقة". رفع خليل يده عن الأكل ونظر نظرة برم الى ناجي:
-"لأنك لا يمكن أن تتفهم ما يدور حولك إلا بصدمة كهذه، ولكي تصدق حين أقول لك...."
والتفت نحو الباب المفتوح ليرى إن كان يوجد أحد قريب في الممر
- "تقول لي ماذا؟"
-"حين أقول لك أنه ليس الملاك الذي تتصوره؟"          
-"لم أتصور أحدا ملاكا في حياتي.. هو عامل ماهر واعتمد عليه فحسب. فما الذي تقصد؟".
-"أقصد أنه لا يختلف عن غيره من الذين حولك بالإضافة الى أنه يوصل "اليهم" بانتظام أخبارا عنك".
حاول ناجي أن يحافظ على نظرة ثابتة وأن يتظاهر بلا مبالاة ومسحة من البرود على ملامحه:- "من هم هؤلاء الذين يوصل اليهم أخباري؟".
-"أحقا لا تعرف يا ناجي؟".
أشار ناجي بيده إشارة التهوين من الأمر:
-" هم يعرفون منذ زمن بعيد أني لا أنتمي لأي حزب".
-"حسن، ولكن سلوكك لا يقنعهم بذلك. أنت تتحدث وتناقش كما كنت تتحدث وتناقش في الأيام الخوالي. صحيح أنك لا تتحدث بالماركسية والماوية وما شابه، ولكنك تبقى تريبهم لأنك لست منهم وأثقف".
-"أظنهم ممتنون لي لأني أعدت تشغيل معمل أصابته أعطال كثيرة في القصف، ولا تنس أن السكك مثل مجتمع... مثل حي واحد أو عشيرة واحدة، نعرف بعضنا بعضا، وهؤلاء الذين تقصدهم بعضهم زملاؤنا من أيام المعهد والآخرون عملنا معهم سويا. انقرض الجيل القديم والآن معارفنا المسؤولون عنا مباشرة....".
وانحنى ليكمل قائلا: ".. بيني وبينك، فلينقل اليهم بعض الأخبار غير الضارة ليكسب ثقتهم ويكون آمنا منهم ويعيش وعائلته بسلام. وإذا تسألني فأنا موافق".
اعتدل في جلسته وقد شعت ابتسامة الرضا من ملامحه كلها. فكر بأنه سوّى المسألة وأفسد على خليل النشوة التي كان يشعر بها قبل قليل، بينما قابله خليل بابتسامة أخرى، ساخرة ومتعجبة في الوقت نفسه:
-أعتقد أن وصفك بالمخبل بعد كل ما قدمته له من مساعدات لا يدل على أنه يمتنع عن التسبب بأذى لك...
قاطعه ناجي:- أنت استدرجته... أنا أعرفك. رويت له بعض المجازفات التي قمنا بها في شبابنا وجعلته يعلق بهذه الكلمة من باب التعجب أو الإعجاب.
يعرف ناجي في قرارة نفسه أنه لا يريد أن يمنح خليل فرصة الشعور بأنه نجح حتى ولو بمجرد إزعاجه.
في هذه الأثناء بدا خليل كأنه يفكر فيما سيقوله مليا:
-إبق على وضعك.. وأوهامك.. إبق في ظنك إنهم يقدرونك لأنك تعيد الحياة الى المصانع وما الى ذلك من السوالف. هل يقدرونك حقا في حين لم تبق محافظة فيها سكك إلا ونقلوك اليها؟ ألست الى الآن تسكن في بغداد مشتملا ملحقا ببيت شقيقتك؟...ثم هل تتصور أنهم لا يعرفون بأنك تسمح لوحيد، وأحيانا، لعمال آخرين بالخروج من المعمل. أتظن أنك أنت المتفضل عليه؟ في الواقع أنهم يعرفون وموافقون ليستفيدوا منه وقت الحاجة. 
هز ناجي يده مستخفا بقول خليل ونهض متوجها نحو الباب.
عندما تجاوز الباب ببضع خطوات توقف. فكر بأن من الأفضل له أن يضع نهاية للأمر ويجعله طي النسيان، لقد أثار ذكريات جعلته متألما. مع ذلك، ربما لم يقصد وحيد أن يمسه بكلامه وقد أفلتت منه كلمة لعلها متداولة في هذا الزمن في أحاديث الشبان وليس لها عندهم في شطحات الأحاديث المعنى القاصد للإهانة الذي لدى جيله، أما كلام خليل ففيه طبعا ما يستحق الإهتمام ولا يستبعد في قرارة نفسه أن يكون متأثرا لأجله، فهو صديقه القديم، ولكن بعد كل شيء لم يبق له في هذا المكان إلا أيام معدودة، فليدعها تنقضي مريحة.
دخل الى الورشة الفسيحة التي تتوزع بمحاذاة جدرانها المكائن. رأى بطرف عينه وحيد جالسا حيث كان يجلس عمال الورشة عادة لتناول الطعام في وقت الإستراحة، قبل أن يتركوا العمل في السكك الى العمل في السوق لقلة المرتب. منضدة من الحديد مستطيلة منخفضة كالطاولة وعلى جانبيها مسطبتين من الحديد أيضا بمستوى المنضدة. لم يلتفت نحو وحيد وتوجه نحو المخرطة كأنه ينوي التأكد من تنظيفها متظاهرا بتلمس حاملة أدوات القطع  وهناك أطرق محاولا السيطرة على ارتباك تفجر داخله فجأة. سمع وحيد يقول بصوت بدا له متوجسا، لا بل فيه نبرة التوسل، توسل الرضا الذي لم يستطع التعبير عنه قبل قليل:
- إستادي... تفضل الغداء.... لا يبرد..
تذكر ناجي أنهما بالأمس اتفقا على أن يجلب وحيد غداءا من البيت فجلب أكلة بصرية من الرز وسمك الصبور والمقبلات. ابتسم ناجي حين تذكر البصرة لكنه أخفى ابتسامته حين استدار وتوجه الى حيث يجلس وحيد وجلس أمامه. سمى بإسم الله وتناول صمونة. قال وهو يأخذ منها قطعة:
-بعد الغداء إربط أداة القطع، التي جلبتُها بالأمس، على ماكنة التفريز لعمل الشغلة التي جاءت طلبيتها الخارجية من معمل الطابوق.... الترس المخروطي.
وهز سبابته بوجه وحيد قائلا:
-يجب أن تنتبه كيف أعملها... هذه من الأشغال المطلوبة كثيرا.
هز وحيد رأسه وقد تملكه الإرتياح إذ أدرك أن "إستاده" قد جعل كل ما حدث وقيل للتو خلف ظهره، ولمعرفته بطبعه ومزاجه، رجح أنه قلب صفحة جديدة كما فعل في أحيان كثيرة ليسير العمل دون منغصات شخصية، ولن يحرجه ويطلب منه أن يحكي له السبب الذي جعله يقول عنه تلك الكلمة الجارحة في لحظة طيش. أخذ يأكل بشهيته المعتادة ويهيئ نفسه ليتعلم بذهن مفتوح كيف ينجز "إستاده" الشغلة.
*****
بعد ثلاث سنوات أتم ناجي أربعين عاما في الخدمة وقدم طلبا للإحالة على التقاعد، وفي ذات يوم وهو يراجع لإستلام معاملته والذهاب بها الى دائرة التقاعد التقى في الممر الطويل للقسم الإداري بخليل الذي كان يراجع أيضا للغرض نفسه. سأله ناجي عن وحيد فانقبضت ملامح خليل وأطرق قليلا قبل أن يجيب:
-لقد توفي في العام الماضي بمرض أصابه بشلل الساقين أولا ثم توفي.
سأل ناجي متعجبا:
-ما هذا المرض الذي قتل شابا نشطا كوحيد لم أره يوما مريضا.
-لا أدري بالضبط... ربما من الإرهاق فهو يعمل في الدائرة ثم يذهب للعمل في محلات التصليح، وعمل الخراطة كله وقوف وتعرض للدخان والأبخرة....
وبعد أن سعل قليلا:
-بعد أن توفي إقترح البعض على زوجته أن تتعين في الدائرة مُعينةً لتبقى واطفالها ساكنة في بيت مجمع السكك، ولكنها أخذت أطفالها وعادت الى البصرة.
ذهب ناجي ما أن واتته الفرصة ليترك خليل الى إحدى الحدائق الصغيرة المحيطة بالبناية، واختار ركنا منزويا جلس فيه على مسطبة كونكريتية. شعر بألم طاغ لهذه النهاية المأساوية، مأساة يعرف أن آلاف العوائل الآن تنتهي بها نهايات يضع عليها القدر لمسات مختلفة، وتذكر الأولاد الستة، أحباءه الصغار، بينهم وحيد ولدا صغيرا، وهو معهم يصفر بصفارته خلف عربات البضائع وهم يتسابقون نحو الكرة وتتخاطف حولها أقدامهم الغضة أو يتوقفون حين يمر موكب عرس يضج بالموسيقى والهلاهل على شارع جزيرة السندباد ويعلقون ويتضاحكون، وفجأة انهالت دموعه وأخذ يتمتم:
كانوا أطفالا.... مجرد أطفال....
كانون الثاني 2023