أيار 18

 (هيرمانوس وإيشيغورو) ألق المخرج الياباني كوروساوا في فيلم "العيش"

 

    غالبا ما يتم استذكار المخرج العبقري (أكيرا كوروساوا) في روائعه السينمائية عن اليابان الإقطاعية وعرض بطولة الساموراي، ولا يفوتنا فيلم المخرج الياباني "إيكيرو" عام (1952) المستوحى من رواية ليو تولستوي "موت إيفان إيليتش " عام 1886، الفيلم تدور أحداثه حول موظف حكومي بيروقراطي يلعب دوره الممثل المفضل للمخرج كوروساوا " شيمورا تاكاشي " وهو يحاول إيجاد معنى لحياته عندما يكتشف حقيقة احتضاره بعد تشخيص أصابته بمرض السرطان. عندما صنع كوروساوا فيلمه لم يسرد القصة نفسها تماما ولكنه نقلها من سان بطرسبورغ عام 1886 الى طوكيو التي دمرتها الحرب العالمية الثانية. يسرد كوروساوا عن محاولة لإيجاد معنى للحياة لحظة مواجهة الموت، وفي الوقت نفسه يتوهج في لحظته التاريخية التي كانت في عصر إعادة البناء في اليابان.

    إعادة إنتاج مثل هذا الفيلم التحفة فعلاّ مجازفة كبيرة وجرأة من المخرج الجنوب أفريقي "أوليفرهيرمانوس" حين أعاد هذه التحفة الفنية معتمداّ على سيناريو كتبه الروائي الياباني-الانكليزي الجنسية "كازو إيشيغورو" الكاتب الحائز على جائزة نوبل، المولود في ناغازاكي باليابان عام 1954 قبل أن يهاجر إلى بريطانيا عام 1960 مع والديه. بعد كتابة روايتين تستكشفان الثقافة اليابانية، كتب إيشيغورو في عام 1989 رواية "بقايا اليوم" باللغة الإنجليزية التي تم الإشادة بها التى تحولت فيما بعد لفيلم سينمائى ناجح من بطولة "أنتونى هوبكنز" و"إيما تومسون" عام 1993. لطالما بنى كاتب سيناريو جسورا بين الثقافة الإنجليزية والثقافة في وطنه اليابان وهو الذي اقترح على المخرج أوليفر هيرمانوس فكرة إعادة إنتاج مفترضة لفيلم أكيرا كوروساوا الكلاسيكي إيكيرو (لايف) الذي صدر في عام 1952، ونجح " إيشيغورا مع المخرج في تكيفه وتصوير أحداث رائعة كيروساوا في لندن الصاخبة عام 1950. في سيناريوه، ينقل كازو إيشيغورو ببساطة حبكة المعيشة من طوكيو إلى لندن، لكنه يحتفظ الفترة نفسها، سنوات فترة ما بعد الحرب مباشرة. هكذا يبدأ الفيلم من منصة محطة قطار في ضواحي لندن. نتابع رجل يرتدي بدلة مخططة وقبعة مثبتة على جمجمته، السيد ويليامز"بيل ناي" المسؤول عن التخطيط لإعادة بناء مدينة تضررت من تفجيرات الحرب العالمية الثانية. االذي يقدمه في الفيلم الأصلي تاكاشي شيمورا. اختار المخرج هيرمانوس إعادة سرد الفيلم الياباني الأصلي لعام 1952 في لندن وفي فترة بعد الحرب العامية الثانية في عام 1953، وافتتح القصة بمونتاج محبب رائع لما يعرف الآن بمعالم لندن السياحية التي لم تشوهها ناطحات السحاب وإعلاناتها الضوئية. وتبرز مهارة المخرج" هيرمانوس في الالتزام بالدقة التاريخية من خلال كل إطار والتقاط تفاصيل تلك الفترة بكل بدقة ، من  المكياج إلى الأزياء والعادات والمركبات وعربات القطار .

حكاية الفيلم :

    تدور أحداث الفيلم في لندن وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية التي دمرتها. وتظهر المدينة المدمرة وهي تتعافى بشكل بطيء في ذلك الوقت. رودني وليامز (بيل ناي) موظف حكومي كبير ولكنه بيروقراطي وغير مبدع في عملية إعادة البناء. رجل عجوز متحفظ كان لسنوات مرتبطا بأخلاقيات الواجب كمسؤول حكومي. في المشهد الافتتاحي في لندن في الخمسينيات، في وقت الصباح وعندما شاهدنا لأول مرة على السيد ويليامز (ناي) من خلال نافذة القطار ينقل رجال أعمال يرتدون ملابس أنيقة حاملين حقائب سوداء في إحدى محطات القطار في لندن عام 1953. وجه صارم وثابت ولغة جسد شديدة بنفس القدر، وقليل الكلام وبصوت منخفض، يظهر السيد ويليامز يستعد لركوب قطار للوصول إلى مكتبه في مجلس مدينة لندن ويستقل زملاؤه في المكتب القطار نفسه، الموظف الجديد بيتر واكيلينج (أليكس شارب)، يتعرف على شخصية رئيسه من خلال أحاديث زملائه في العمل ميدلتون (أدريان رولينز)، هارت (أوليفر كريس)، وروسبريدجر (هوبرت بيرتون) الذين انضموا إليه في رحلته إلى المدينة. سرعان ما نكتشف أن السيد ويليامز يفضل الحفاظ على مسافة بينه وبين العاملين معه لذا يتجنب مشاركتهم المقصورة ذاتها معهم، مما يثبت شخصيته خلال الدقائق القليلة الأولى من الفيلم . يؤسس الممثل ناي شخصية السيد ويليامز ببراعة عن طريق تعامله مع موظفيه في مكتبه وهم يأخذون القطار كل يوم. السيد ويليامز (ناي)، مشرف في مكتب حكومي ويشرف على مجموعة من الرجال وامرأة واحدة، يجلسون حول طاولات مكدسة بمجلدات الملفات والوثائق. في اليوم الأول من عمل الموظف الجديد بيتر واكيلينج (أليكس شارب) في المكتب الاشغال في مجلس بلدية لندن ونتابع الوافد الجديد بيتر واكيلينج حيث يبدأ في تعلم طريقة عمل المكتب. بمجرد وصولهم إلى المكتب يأخذون جميعا إشارات من رئيسهم - كما تفعل زميلتهم مارغريت هاريس (إيمي لو وود) ويميلون بهدوء وكفاءة إلى الملفات المرمية والمهملة في دائرة الأشغال العامة في مجلس البلدية .

   السيد ويليامز يحظى باحترام ومكانة كبيرين، يضمن إكمال كل إجراء يقوم به فريقه الصغير بأقصى قدر من الكفاءة ويتم اتباع الإجراءات بشكل روتيني . وفي الوقت نفسه ، يبدو غافلا  عن الكابوس البيروقراطي الذي يعاني منه السكان المحليون ، وبالتحديد مجموعة من النساء المحليات اللواتي يحاولنً الحصول على تصريح لتحويل منطقة صغيرة تم قصفها في الغارات الجوية إلى بارك وملعب للاطفال . اليوم الأول لواكيلينغ في العمل مقيدا بشكل محبط  في مهمته لمساعدة ثلاث نساء في سعيهن للحصول على الموافقة على التماسهن لملعب للأطفال . رحلة الرباعي حول المبنى هي دراسة حالة في الالتفاف البيروقراطي والركود، مع عدم وجود أحد على استعداد لتحمل المسؤولية وكل شيء ينتهي بالضبط حيث بدأ. في مثل هذا النظام يتم إحباط اي خطوة للتطوير والتقدم عمدا بسبب اللامبالاة والروتين. ومع ذلك ، تبدأ النقلة الكبير  بخبر مزعج حين يهز التشخيص القاتم لحالة السيد ويليامز المرضية ويجعله يسترجع كيف مرت عليه الحياة لأنه مشغول جدا بالعمل وما قيمة الحياة من دون أنجاز يخلده . في موعده الفحص الطبي مع طبيبه المتابع حالته الذي يصارحه بتشخيص مرض السرطان وأمامه ستة أشهر فقط للعيش. المشاعرالتي التقطها المخرج الجنوب أفريقي أوليفر هيرمانوس بشكل جميل، تكمن في غياب البكاء أو النحيب عندما يعلم ويليامز بحالته والفترة القصيرة الباقية من حياته ، وحتى في سكونه فإن ألمه وندمه واضحان ، يتدرب السيد ويليامز على إخبار ابنه وزوجة ابنه اللذان يعيشان معه بحالته المرضية . مفرداته منكمشة للغاية ومحدودة للغاية والكلمة الوحيدة التي يمكنه التفكير فيها لوصف الموقف هي الـ "تحمل" . يغرق في التفكير في الماضي وهو جالس بلا حراك وبصمت في الظلام .   

   السيد ويليامز لديه ابن مايكل (بارني فيشويك) لكنه لا يستطيع أن يخبر الفتى عن تشخيصه، إلى جانب ذلك ، يتصرف هو وزوجته فيونا (باتسي فيران) كما لو كان والده ميتا بالفعل ويضعان بالفعل خططا لميراثهم . بعد تلقي الأخبار السيئة عن صحته يقوم ويليامز بأخذ إجازة من العمل ويسحب نصف مدخرات حياته والتوجه الى شاطئ مدينة برايتون، حيث يلتقي بكاتب مسرحي شاب يدعى ساذرلاند (توم بيرك) الذي يخبره بوضعه الصحي، ينصحه الكاتب ساذرلاند في العيش والتمتع بالايام الباقية من عمره، يأخذه في جولة ليلية الى حانات وملاهي الرقص وحضور العروض المسرحية الكوميدية. وفي ملهى ليلي رث يغني بارتعاش الأغنية التقليدية (يا شجرة روان). ولكن بعد عودته إلى لندن يقرر تغيير طريقه معيشته واستئناف حياته العادية بأفضل ما يستطيع، حين يصادف مارغريت هاريس (إيمي لو وود) الموظفة السابقة في مكتبه وتعمل الأن بوظيفة نادلة على أمل في أن تصبح مديرة مطعم، في البداية يدعوها لتناول العشاء وبعدها الذهاب سوية إلى السينما، من الواضح أنهما يستمتعان بصحبة بعضهما البعض. يقوم كاتب السيناريو كازو إيشيغورو بعمل رائع عندما يتعلق الأمر بعرض ماضي ويليامز ويكشف شيئا فشيئا عن ذكرياته وكل المشاعر التي كدسها بداخله بعد أن يتلقى الأخبار السيئة من طبيبه، السيد ويليامز يشرع في تحقيق أقصى استفادة من وقته المتبقي على قيد الحياة. في فيلم " العيش " يقرر ويليامز نقل مشروع الملعب من الحفظ في الادراج الى واقع التنفيذ وتحقيق رغبة الأمهات في تحويل فناء موبوء بالقوارض إلى حديقة مناسبة للأطفال المحليين. يتسابق مع الزمن في الدوران على الأقسام المختلفة في مجلس المدينة للحصول على الموافقة على المشروع و استحصال الموافقات.

   واحدة من أكثر اللحظات حساسية في الفيلم الأنيق تحدث خلال لقاء في جنازة ويليامز بين الأبن مايكل ومارغريت. كانت وفاة الرجل بمثابة الصدمة له. ويشعر مايكل بالدمار عندما يدرك أن والده لم يكن قادرا على الكشف عن هذه الحقيقة الأكثر أهمية وحميمية لابنه. عليه أن يقترب من مارغريت ليكون مستنيرا فيما يتعلق بمرض والده والتعرف على الأشهر الأخيرة: "هل كان والدي يعلم أنه مريض؟ أ، وهل كان يحتضر؟ ولو كان يعرف لماذا لا يخبرني؟"  ترسم على وجهه علامات العار والحيرة . قبل عشر دقائق من إنتهاء الفيلم  نرى الملعب المكتمل  بعد أن أثمرت جهود ويليامز في  بنائه في أحد الأحياء الفقيرة. ونشاهده جالساً على أرجوحة الأطفال وهو يغني لنفسه أغنية اسكتلندية مستحضرا فيها شريط حياته ، بينما يقف من بعيد  شرطي يراقبه في جو ضبابي وهو دامع العينين . اللقطة الافتتاحية للسيد ويليامز على الارجوحة في الحديقة التي ساهم في بنائها تتكرر في ختام الفيلم، ثم تتحول الكاميرا ببطء نحو الأطفال الذين يلعبون في مكان قريب والتواصل مع أمهاتهم.. مشهد مؤثر ودافئ. اللحظة الانفرادية، تذكير بأن الأشياء البسيطة في الحياة هي التي تجلب أكبر قدر من الفرح والذكريات التي نعتز بها أكثر. هذه الرسالة المهمة لفيلم "العيش" لأوليفر هيرمانوس.

 

الحياة والعيش بها بين رؤية المخرج الياباني أكيرساوا والمخرج هيرمانوس:

 

قد يبدأ بعض رواد السينما في المقارنات مع نسخة جديدة من (أكيرو) أو "العيش "، الذي كتبه و أحرجه أكيرا كوروساوا العظيم بالأبيض والأسود في عام 1952، تتمثل فضيلة فيلم  المخرج هيرمانوس في احترام جوهر  حكاية كوروساوا طوال الفيلم وامتلاك أوجه التشابه مع الثقافة اليابانية مع إدخال الهوية الإنجليزية في قلب السيناريو. ربما ساعدت هذه المهمة كثيرا كازو إيشيغورو كونه ياباني و يعيش في المملكة المتحدة وهذا هو أحد مفاتيح النجاح للنسخة الانكليزية . يركز كوروساوا بشكل أساسي على جانبين: البحث عن الهوية وانتقاد البيروقراطية. الأول يسلط الضوء على إنسانيته وإيمانه بأنه حتى أكثر البشر "شيوعا" يمكنهم تغيير حياته بالقيام بشيء من أجل الصالح العام، وبالتالي يكون له تأثير على حياة الآخرين يبرر وجوده بشكل أساسي في هذا العالم وألاكثر دهشة في نسخة كوروساوا اعترافه بالبيروقراطية الخانقة في العمل الحكومي قبل سبعين عاما. يستمد "إيكيرو" قوته التي لا تقدر بثمن من التوتر بين اتساع الحياة وصغر ما نختار القيام بها.

   الدراما البريطانية العاطفية المؤثرة المقتبسة من قبل الكاتب كازو إيشيغورو من فيلم أكيرا كوروساوا الكلاسيكي إيكيرو والذي يعني "العيش" باللغة اليابانية، في جوهرها ميلودراما عن الفناء والندم والحزن والفرح. اتجاه هيرمانوس في التعاطف مع الشخصية الرئيسية بعمق في آن واحد وينطبق الشيء نفسه على دور ناي الذي يؤسس تماما شخصية السيد ويليامز ببراعة. لذا فإن فكرة نقل فيلم كوروساوا من اليابان ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى بريطانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية أيضاّ لها منطق. ومن الناحية العملية، هناك بعض الاهتمام الإثنوغرافي لهذه القصة التي كتبها إيشيغورو كازو الحائز على جائزة نوبل. شخصيات أفلام كوروساوا تميل إلى أن تكون أكثر وضوحا عاطفيا من تلك الموجودة في أفلام أخرى، يمكن القول الشيء نفسه في النسخة الانكليزية التي تميزت من ناحية التصوير السينمائي الرائع لجيمي رامزي الذي يبحث عن الجماليات في تكوين أطار المشهد أكثر من التمثيل السردي والمجاز وبشكل يغلفنا بالحنين إلى الماضي. على غرار فيلم كوروساوا ينجح سيناريو إيشيغورو بترك أثرا طيبا للسيد ويليامز بعد وفاته بعد أن عمل بعناد وثم محارباً شرساً للبيروقراطية من أجل بناء الملعب المقترح ما جعل زملاءه في العمل  يتساءلون عما إذا كان رجل واحد يمكن أن يحدث مثل هذا الفرق والتأثير . في الأصل ، إيكيرو ينتهي بعدد قليل من الشخصيات التي تتعلم قيمة وأهمية الحياة على أكمل وجه ، ويدرك المشاهد كيف أحدثت شخصية شيمورا فرقا . وعلى النقيض من ذلك فإن رؤية إيشيغورو للعالم أكثر تفاؤلا من نظرة كوروساوا ، وهنا يكمن  الفرق الكبير بين اقتباس إيشيغورو وفيلم كوروساوا. ومع ذلك، فإن كلا الفيلمين يحملان الرضا عن النفس.

   فيلم "المعيشة " ترنيمة للحياة وعمل حزين لكنه في محطات يمنحنا الأمل والبهجة، واما نهايته فأنها تكشف لنا الجمال في أيامنا السريعة الزوال على الأرض . يقدم الممثل الانكليزي بيل ناي (الحاصل على جائزة بافتا مرتين وجائزة الغولدن غلوب مرة واحدة ) أحد أفضل العروض في حياته المهنية وبأداء رائع و هادئ والبسيط  ليس مبهرجا. الفروق الدقيقة والدفء والكاريزما التي يمنحها الى الشخصية وحركتها وقلقها في الحياة ولا يبالغ أبدا في أدائه لشخصية وليامز وسلوك شخصيته المتحفظ وأنماط الكلام الهادئة على طول مسار الفيلم بالكاد تتغير. بدلا من ذلك، يرفع الممثل مستوى طاقته الجسدية تماما كلما تبدأ صحة ويليامز في الأستنزاف ، عندها  يعطينا المثل القدير ناي من خلال أدائه الرفيع تحولا دقيقاً في المواقف ، كذالك التحول الكبير في سلوك الشخصية التي رسمها ويليامز دائما عبر الصداقة مع امرأة شابة نابضة بالحياة. يختتم الفيلم بمؤثرات محملة بالصورللثلوج التي تتساقط فوق رأس يليامز وهو جالس في أرجوحة فارغة ويترنم بالاغنية الإسكتلندية الحزينة. كل شيء من التصوير السينمائي إلى تصميم الأزياء إلى الإضاءة وحتى السرعة البطيئة يساهم بشكل كبير في تلوين المشاهد بأسلوب مبهر.

  الرسالة الاساسية التي يبعثها الفيلم هي سرد الرواية عبر في قدرتنا على تغيير حياتنا إذا وجدنا الشجاعة والتصميم على المتابعة.

   ان الرجال الذين عملوا جنبا إلى جنب مع واتانابي لمدة ثلاثين عاما يدركون الدرس الذي تعلمه من  دون ان يؤثر التشخيص القاتل على العيش بطريقة إيجابية، كاميرا مؤثرة وجذابة ورائعة بصريا بالقدر نفسه  الذي يجعل الفيلم معزوفة تطرق قلبك مدة عرض الفيلم ، لهذا تظل نسخة المخرج الياباني العبقري عرضا رائعا لإنسانيته ولقدرته على تجريد شخصياته من أوهامها وتحيزاتها ، عندما يجد واتانابي في أكثر مشاهد فيلم " إيكيرو " التي لا تمحى  نفسه وحيدا في إحدى الليالي على أرجوحة في الملعب الذي جعله ممكنا ، يبدو الأمر وكأننا نرى هذه الشخصية بالكامل لأول مرة ، ماضيه المستقيم وحاضره الحزين ينهار في إطار واحد مدمر ، رجل عجوز يغني أغنية عن طفولته وسط الثلج الذي ينث بياضه . تلك الرحلة السينمائية الممتعة بشكل مدهش . في المقابل ، عندما يتم تشخيص إصابة السيد ويليامز بسرطان قاتل ومنحه بضعة أشهر للعيش  فإن الطريقة التي يلعب بها هيرمانوس وإيشيغورو المشهد لا تناقض مع  طريقة كوروساوا.

   في فيلم "إيكيرو"، حين يخبر الطبيب كانجي واتانابي بحالته المرضية يهون الأمر عليه ويصفها أنها مجرد قرحة، والحقيقة هي كذبة لأن التشخيص الصحيح كان سرطان المعدة مع ذلك يخط اليأس آثاره على وجه شيمورا. ولكن في النسخة الحديثة "العيش"، الطبيب يخبر السيد ويليامز بحالته المرضية بشكل واضح حين يقول: "الأمر ليس سهلا أبدا". على غرار فيلم كوروساوا، تصبح نتيجة تصرفات واتانابي أكثر وضوحا في الجزء الاخير من الفيلم الذي يتكشف اثناء جنازته. كان كوروساوا ناقدا اجتماعيا أكثر صرامة.  في الوقت الذي أخرج فيه إيكيرو كانت راديكاليته السياسية واضحة، الفيلم الذي أعطاه عنواناً "معنى العيش" جاء بعد سنوات قليلة من إسقاط القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي". في "مشاهد الحياة الليلية في طوكيو على وجه الخصوص يلمح إيكيرو إلى اليأس والهستيريا و يكشف بطريقته الخاصة عن أهوال الحرب . وهي وجهة نظر المخرج العظيم كيروساوا في الخضوع للسلطة وعدم نكران الذات وهو الامر الذي قاد اليابانيين إلى كارثة الحرب.

علي المسعود: كاتب عراقي يقيم في المملكة المتحدة