أيار 16
  
   تسعى هذه الدراسة لبحث وتحليل الشخصية في مجموعة القاص محمد خضير الأولى "المملكة السوداء" التي نشرت من قبل وزارة الاعلام عام 1972، أي بعد أن نشر أغلب قصصها منفردة قبل هذا التاريخ، حيث أحدثت نصوص هذه المجموعة في وقتها نقلة نوعية كبيرة في القصة القصيرة العراقية، فوضعت القصة القصيرة على جادة الصواب الابداعي، فاحتفت به أقلام النقاد والدارسين، وكتبوا عن تجربته القصصية الكثير.
   تعتمد نصوص هذه المجموعة على ما يمكن تسميته في الكتابة السردية بـ "الواقعية السحرية"، أو ما يسميها هو "التغريب الواقعي". وقد صاغ الروائي وكاتب المقالات ومؤلف الموسيقى الكوبي الجنسية أليخو کارپنتير (1880-1904) مصطلح "الواقعية السحرية" و"استخدمه أول مرة عام 1949 ليصف عملية الربط بين العنصرين الخيالي والواقعي اليومي في الرواية الأمريكية اللاتينية"(1).
   إن مصطلح الواقعية السحرية، رغم عدم تبلوره في ذلك الوقت في العالم ومنه العالم العربي، والعراقي خاصة، وفي المجموعة كذلك، إلا ان مصادره المؤثرة في الذاكرة الابداعية لأي أديب متوفرة في حكايات "ألف ليلة وليلة"، والعرب، والعالم. وهذا المصطلح يجمع بين ما في الواقع المادي من مظاهر وعلاقات، والقاص ذكي في رسم أماكن قصصه عند الأماكن المنعزلة، وبين الرؤى السحرية وما يرافقها من أمور خيالية للأشياء، والمظاهر والعلاقات. هذه الواقعية يمكن أن تجدها في الكثير من النصوص التي ضمتها مجموعة "المملكة السوداء"، مثل نص "المئذنة" و"الشفيع" و"الأسماك" وغيرها حيث تبقى مخيلة المتلقي شغالة في تصور ما سكت عنه النص.
   يقول القاص محمد خضير: ((كما لو أن القصة جسيم لا يُضبط إلا على وجهين: المرئي وغير المرئي، الواقعي والخيالي)).
***
   اهتم القاص بالمكان كثيرا، المكان الواقعي المصوّر ليبدو مكانا يُرى في اللاواقع، وفي الأحلام على السواء. المكان هذا أثر في وعي وتفكير القاص فأعطى لقصصه، فضلا عن شخوصه، اضافة نوعية جديدة، فجاءت النصوص وعناصرها السردية بحلة جديدة هي حلة "الواقعية السحرية".
   وعندما كتب محمد خضير قصصه الأولى ونشرها في الصحف والمجلات كان هناك اسلوب جديد قد بشّر به ليكون هو الاسلوب الطاغي في جل قصص "المملكة السوداء"، وهو اسلوب الواقعية السحرية، إذ تحتفظ ذاكرته بحكايات ألف ليلة وليلة التي هي تقع ضمن حكايات الواقعية السحرية تلك، كما ان القاص عبد الرحمن الربيعي بشر بالسريالية في بعض قصص مجموعته "السيف والسفينة"، خاصة في قصته " حفرة حيث لا أقمار" حيث نجد عالما سرياليا كونته أفكار الربيعي.
حفلت "المملكة السوداء" بقصص أثارت اهتمام النقاد والدارسين، فكانت اضافة نوعية لعالم القصة القصيرة العراقية والعربية، كقصص زميله الربيعي. واتسمت بسعة البناء السردي لنصوصها، وغناها الفكري.
***
 ماذا نقصد بالشخصية؟
   لكل مصطلح من هذه المصطلحات الخمسة (القراءة، والشرح، والتفسير، والتأويل، والتحليل) مفهوم أي نص سردي يتكون بصورة عامة من عناصر رئيسية ثلاثة هي: (الشخصية، المكان، الزمان) ولا غنى عنها، ولا يمكن لأي نص أن تكون بنيته خالية منها إلا إنها يمكن أن تخلو من الوصف مثلا.
الشخصية تعني: ((كل جسم له ارتفاع أو ظهور، المراد به إثبات الذات فاستعير لها لفظ الشخص، والشخيص العظيم، والشخص، والأنثى شخصية، والاسم الشخاصة))(2).
   أما اصطلاحا، فقد تغير نظر المهتمين بها، والدارسين لها، وتعدد مفهومها كثيرا. انها مفهوم تخييلي لا وجود لها في الواقع الحسي، تجسد كل ما يريد الكاتب من أفكار، ورؤى، وتخيلات.
   إذ تعرّف الشخصية، كما جاء في معجم المصطلحات النقديّة: بأنها هي ((كل مشارك في أحداث الحكاية سلبا أو إيجابا، أمّا من لا يشارك في الحدث، فلا ينتمي إلى الشخصيات، بل يكون جزءا من الوصف، فالشخصية عنصر مصنوع محتاج لكل عناصر الحكاية، فهي تتكوّن من مجموع الكلام الذي يصفها ويصوّر أفعالها، وينقل أفكارها وأقوالها، وليست الشخصية شخصاً، ولا وجود لها خارج عالم الرواية))(3)  .         
   فيما يقول محمد غنيمي هلال: ((الشخصية السردية تمثل عنصرا رئيسا في القصة القصيرة، وهي على هذا الأساس مدار المعاني الإنسانية ومحور الأفكار والآراء العامة، ولهذه المعاني والأفكار المكانة الأولى في القصة منذ انصرفت منفصلة إلى دراسة الإنسان وقضاياه، إذ لا يسوق القاص أفكاره وقضاياه العامة منفصلة عن محيطها الحيوي بل هي ممثلة في الأشخاص الذين يعيشون في مجتمع ما)) (4).  
      تعد الشخصية عنصرا أساسيا في الأدب السردي، ومنه فن القص، وهي المنتجة للأحداث بتفاعلها مع الواقع، أو الطبيعة، أو حين يخلقها المخيال اعتمادا على ما يقدمه الواقع من معطيات.
    انها شبكة من العلاقات التي تبنيها مع العناصر الأخرى في النص. وتلعب دورا مشاركا ومهما في الآداب السردية، خاصة القصة القصيرة، فدورها كبير في تقديم مضمون النص، وترابطاتها مع الآخرين. أما العلاقة التي تربطها بمنتج النص فهي الحاملة لأفكاره، وآرائه، سلبا أو ايجابا، بحيث تجعل أفكار، وآراء، منتج النص، والتي هي أفكارها، وآراؤها، ذات تأثير كبير على شخوص القصة الآخرين، وعلى المتلقين أيضا. لهذا يقع عليها العبء الكبير في نمو القصة، وتقدمها، وتطورها. 
   وهي التي تقوم بتحريك الناس والأشياء التي يقفون قربها في فضاء القصة عن طريق وصفهم، أو الدخول في حوار معهم، أو الكلام عنهم بوصفهم شخصيات غائبة، ولهذا تجعل الأحداث السردية تجري أمامنا حية وتنبض بالحياة، ومثيرة للفكر والمشاعر، والفكرة فيها أكثر وقعا في نفوس المتلقين.
   وهي اما ان تكون شخصية رئيسية، واما ثانوية. الرئيسية هي الشخصية الفنية التي اصطفاها الكاتب لتمثل ما أراد التعبير عنه من أفكار وأحاسيس، ويمكن للمتلقي الاعتماد عليها في فهم مضمون القصة، أي انها تنهض بمهمة رئيسة في تطور الحدث، كما وتساعد المتلقي على فهم طبيعة ما يجري أمامه.
   أما الشخصية الثانوية فوظيفتها تهيئة الأجواء المناسبة أمام الشخصية الرئيسية، ولها دور تابع في مجريات الأحداث، وفي ابراز أبعاد الشخصية الرئيسية، كالبعد الفكري، والبعد النفسي، والبعد الاجتماعي، فتقوم بطرح، وفعل، وممارسة أفكارها، ورؤاها، لتكون القصة في النهاية كاملة وأكثر نضجا. ولا يخلو أي نص قصصي من هذه الشخصية ان كانت لوحدها أو كانت مع آخرين.
                                                                                                      ***
الشخصية في قصص محمد خضير:
   الشخصية في نصوص المجموعة حاملة لسمات إنسانية، ((بوصفها كائنا إنسانيا يتواشج داخل النص السردي مع عناصر السرد الأخرى في تكوين المشهد السردي.)).
   ان النزعة الانسانية هذه التي تتصف بها نصوص المجموعة، والعمق الانساني لشخصيات محمد خضير هي التي يفتقدها الكثير من نصوص بعض قصاصينا في الفترة تلك وفي الفترات التي تلتها.
   وشخصياته الرئيسية قوية في حضورها بحيث تترك أثرا كبيرا في النص وعناصره خاصة، وفي الشخصيات الأخرى المحيطة بها.
تعتمد القصص هنا وفي مجاميعه الأخرى على الشخوص، إذ ان أغلب شخوص "المملكة السوداء" من النساء المنسحقات اللواتي من قاع المدينة.
ان الشخصيات الرئيسية التي يقدمها محمد خضير في نصوص هذه المجموعة تنتظر مجيء شخص ما خاصة الزوج الغائب، وتضم كذلك شخصية الغائب. وشخصيات ثانوية، كالجدة، والأبناء، والصبية، وهذه الشخصيات تتفاعل مع الشخصية الرئيسية في النص، وتدخل في حوار مع معها لتكشف عن جانب مهم منها.
ان لكل شخصية من هذه الشخصيات دورا مهما في النص. فالشخصية الرئيسية هي قطب الرحى التي تدور حوله باقي الشخصيات في النص، وهي محورها الذي تلتف حوله، وتربطها بها علاقات اجتماعية، وفي بعضها علاقات عائلية، وأيضا تدعونا للتعاطف معها لأسباب انسانية لا تخلو من النزعة الاجتماعية. هذه الشخصيات، وعلى الرغم من "توحدها" وميلها لهذه الوحدة الاجتماعية إلا انها تدخل في علاقات اجتماعية مع آخرين رغما عنها وتبقى محتفظة بوحدتها، وبإشغال فكرها بالشخص الغائب.   
      وقبل أن نختتم هذا القسم من الدراسة علينا التأكيد على اننا لم نلتق بشخصية واحدة فيها، من باب النزعة الانسانية، بذرة لثورة على واقعها المأساوي، أو تمرد على الأعراف والتقاليد، بل تنتهي النصوص والشخصية الرئيسية هي هي لم يصبها التغيير.
   ونحن نقرأ نصوص محمد خضير القصصية تطوف في ذاكرتنا هذه الشخصيات وقد التقينا بها في يوم ما في حياتنا، أو سمعنا عنها.
***
 
النصوص
   كتب القاص نصوصه في فترة قمة الابداع الأدبي العراقي. فقد كانت فترة الستينيات، ومن بعدها السبعينيات، حافلة بنتاج أدبي يوصف بأنه نتاج تجريبي أنتج لنا نصوصا متقدمة على ما سبقها من نصوص قصصية، وكانت هذه المجموعة من بين النتاج ذاك، والتي نشم فيها انعكاسا لانتكاس قضية فلسطين المركزية في النضال القومي العربي، والصراع العربي الإسرائيلي، في الفترة التاريخية التي كتبت فيها نصوص المجموعة (1966 و 1971) هي فترة ذلك الانكسار.
   يقسّم الكاتب نصوص المجموعة القصصية "المملكة السوداء" إلى قسمين، ولم يذكر السبب في ذلك. فهل قسمها بسبب تاريخ كتابتها، كأن تكون نصوص القسم الأول قد كتبت في الستينيات، ونصوص القسم الثاني قد كتبت في السبعينيات؟ أم لسبب آخر؟ ويبقى السبب في "قلب" القاص محتفظا به.
   القسم الأول يضم النصوص التالية:
المئذنة، أمنية القرد، نافذة على الساحة، الشفيع، شجرة الأسماء، المملكة السوداء، الأسماك.
  فيما يضم القسم الثاني النصوص التالية:
حكاية الموقد، تقاسيم على وتر الربابة، الأرجوحة، العلامات المؤنسة، القطارات الليلية، التابوت.
 
* الخاتمة، والنتائج:
   بعد هذه الرحلة الحوارية لقصص محمد خضير "المملكة السوداء" ، توصلت إلى نتائج مهمة تتعلق بالشخصيات الرئيسية، والشخصيات المؤثرة فيها، وهي كالآتي:
- الشخصية هي إحدى التقنيات السردية التي تنهض بها القصة القصيرة عند محمد خضير، فلا قصة دون شخصيات تأخذ بيد الأحداث، وتنظم الأفعال فيها، وتعطي القصة بعدها الحكائي.
- تنقسم الشخصيات في القصة القصيرة عنده إلى شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية.
- حضور الشخصية في نصوص هذه المجموعة قويا، ومؤثرا، وخاصة الشخصيات النسوية، بحيث تترك أثرا كبيرا في النص، وعناصره الأخرى.
- كشفت هذه النصوص المسكوت عنه في وضع النساء الموضوعات على هامش المجتمع، والتي كان اختيار الكاتب لها.
- أغلب نساء نصوص المجموعة منحدرات من القرى، وحتى عندما نجدهن في المدينة فانهن انحدرن من القرى والقصبات بسبب العمل في المدينة.
- أغلب نساء نصوص المجموعة من قاع المدينة.
- الشخصية النسائية هي محور الشخصيات الأخرى، والأحداث، في النص.
- الشخصية في قصص المجموعة ذات نزعة انسانية، وتتميز بعمق انساني عال.
- النساء في نصوص المجموعة متوحدات، بائسات، أغلبهن ينتظرن أزواجهن. ((الامرأة لا تقدر أن تبقى وحدها طويلا، فهي تمرض وتهرم سريعا)).
- ثمانية نصوص من أصل ثلاثة عشر نصا فيها امرأة متوحدة.
- ثمانية نصوص تتحدث عن الزوج الغائب، أو غياب الأم، أو الأب الغائب، أو الحفيد الغائب، أو غياب شخص ما، أو غياب عشير المستقبل، وهذا الغياب أما أن يكون موتا، أو أن يكون هروبا، أو أن يكون لسبب آخر. ((ولكنه سيحصل على إجازة في يوم ما.)).
- أغلب الغيابات هذه يصاحبها الانتظار غير المجدي من قبل النساء. ((ليس عندي أي خبر عنه، لا يكتب رسائل لي، لقد أهملني تماما)). (( - لن يأتي.)).
- ظهر من جدول علاقة الشخصية الرئيسية بالشخص الغائب:
أ – خمسة أزواج غائبين.
ب – عشيرين.
ج – ابن واحد غائب.
د – صديق واحد غائب.
هـ - أم واحدة غائبة.
و – أب واحد غائب.
ز - حفيد واحد غائب.
ح – غياب جماعي واحد.
 
 المصادر:
  1. معجم المصطلحات النقدية، لطيف زيتوني، لبنان، دار النهار، 2004.
  2. ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط6، مادة ش.خ.ص – 7/45.
  3. مقولات السرد الادبي، تزفيطان تودوروف، ترجمة: الحسين سحبان وفؤاد صفا، الرباط، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 1982.
  4. محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار الثقافة، دار العودة، بيروت، (د ط)،1973.