أيار 18
   أنشأ رجلٌ، من عائلة الشَّهبازيّين، يسكن قرية اسمها "كُوت الجُوع"، على الجانب الشرقيّ من شطّ العرب، متحفاً صغيراً لمقتنياته التي ورِثها من جدّه، صيّادِ الأسُود، مؤلّفةً من سّلاسل وفؤوس ومخارز وسّكاكين؛ ثم أضافَ إلى متحفه الخياليّ هذا صورةً رسمَها الرحّالة الأميركي فورغ لباخرة تمخر دجلة، وقد انتهى ركّابها توّاً من قتل لبوةٍ على الشاطئ، قرب واسط، في العام 1874. 
  دعا المتحفيُّ- الشهبازيُّ - زملاءه، أصحاب الأنتيكات، من مختلف أنحاء العراق، وقصَّ عليهم حكاية قتل اللبوة "الواسطية" زاعماً أن جدّه كان من زمرة المسافرين على تلك الباخرة. وما أن أدغلَ الليل واحتوى الضيوفَ وسط تلك المجموعة الأنتيكيّة من أدوات الصيد، حتى انتبهوا إلى الهيكل العظمي لمضيّفهم، المشتمِل بِزّةَ أحدِ المسافرين، الذين تكاد الصّورة التاريخيّة المعلّقة في صدر المتحف، تُظهِر سَحنات وجوهِهم، خلال الدّخان المنبعث من مدخنة الباخرة، وتكاد الريح تبدّده في فضاء النهر، مع اسم الباخرة المرقوم في مقدّمتها.
  في نهاية العشاء الدّسم، خاطرَ الأنتيكانيّ_ الشَّهبازيّ_ ولحَسَ وجوه ضيوفه بلسان اللبوة القتيل، وحكى ما ظنّه سيناريو مشابهاً لواقعة ذلك اليوم البعيد من رحلة الباخرة. فوجئ الضّيوف بذلك التبدّل الغريب في هيئة مضيّفهم، فتخيّلوه واحداً من أصحاب البضائع التي حملتْها الباخرةُ التجاريّة على متنها الحديديّ، وشاهداً قريباً على حادثة القتل البعيدة تلك (اقتضَت حكايةُ المضيّف الشًهبازيّ استبدالَ الأسماء، واختراعَ أنواع نادرة من الأسُود، في مكانٍ نظير، هو منشأ ولادته في قرية كُوت الجُوع، شرقيّ البصرة. وبهذا الانتقال بين زمانين ومكانين، زالت الرَّهبة من عيون الضّيوف واستقرّ ظنُّهم بحقيقة مضيّفهم، إنْ كان متحفيّاً هاوياً، أو أنتيكيّاً مُخضرَماً).
  ترسّبت الظّلال، وانتظر الأنتيكانيّون حكايةَ مضيّفهم: "أصدقائي، لكي تنجح مهمّتنا، وهي المهمّة الوحيدة التي أجازَت لنا إنشاءَ متاحف تحتوي آلات صيدٍ وفراءَ حيواناتٍ ومخالبَ وحوشٍ وسمومَ أفاعٍ وريشَ طيور، فلا مُنصرَف لأحدنا من شهادةٍ حقيقيّة تُجيز انتماءه لعالم الأسُود، قبل أن تنقلها الصُّور التي حُزْناها عن أجدادنا الصيّادين.. وكم أرهَبُ مهنتَهم!".
  همهمَ أشخاصٌ لهذا الاعتراف، غير أنّ الأنتيكانيّ المخضرَم عاد وهيمن بصوته المقضقِض على الجمع المنطرح بين الوسائد، والجالس على كراسيّ أثريّة، والقائم في الزوايا المضاءة بمصابيح زيتٍ مضبَّبة.
  تنحنحَ من حنجرة واهية، وواصلَ الحديث: "أتخيّل نفسي وُلِدتُ في ذلك الكُوت الصغير، مع صغار السِّباع، ورُبِّيت مع أخواتِهم من الّلبوات، وليتَ اعتقادي هذا يدوم بدلالة صورة الباخرة، لولا أنّ مثل هذه المناظر اختفت من حياتنا المدنيّة المعاصرة تماماً، وأصبحنا نهوى آثارَها بدل المعيشة بقُربها. اختفى ذلك العالم الوحشيّ من عيوننا ليترك لنا بقايا صيدٍ وعظاماً وفرواتِ جُلودٍ من متاحف الطبيعة تلك".
  صمتَ الشَّهبازيّ قليلاً، ثم قال: "لكي تواظب على قتل الأسُود، تدبّر مخرجاً لسفينتك، كما تُوحيه تلك الصورةُ التي خطَّطها الرحّالة الأميركيّ لمقتل الّلبوة، ومطاردةِ زوجها، أسدِ دجلة الرهيب، لركّاب الباخرة، طالباً الانتقام منهم. ولعلّ الرحّالة خاطبَنا بتخطيطه ذلك المنظر الرهيب: لو كنتَ معنا وقتذاك، لتولّتك رهبةُ المطاردة، ولن يبرح سمعَك زئيرُ الأسد، الراكض على الضفة، وقد طغا زئيرُه على صوت المحرّك البخاريّ، ما حييتَ. ابحثْ بنفسك عن عرينه في حوض النهر هناك، أو كوِّنْ لك مشهداً يحاكي مشهدَ قتلِ الّلبوة هنا في قريتك... وهذا ما استقرّ في خاطري يا زملائي واعتبرتُه رسالةَ الرحّالة المخصوصة".
  اقتربَ نور الفجر، واقتربت عجلةُ الكلام من مقابلة الأسد الأخير في حكاية الأنتيكانيّ_ الشَّهبازيّ- الدائرة في متحفه: "ولكي تُنشئ مَربضاً لتلك الذكريات، يجب أن تتحصّل على عَشْر فرواتٍ للسّباع، ومثلها لثعالبَ وذئابٍ وضِباع، بينما لم تتوفّر أمامي إلا فروةٌ واحدة حيّة شاهدتُها تنتصب على ضفة نهرٍ بِكُوت الجُوع، في فجر أحد الأيام. كنت عائداً لبيتي بعد رحلة صيد على الرابية المتبقّية من مدينة قديمة وراء القرية، حين انتصبَ أمامي ذلك السَّبُع الرهيب، وأظنّه تبعَني منذ أن غادرتُ أوكارَ الرابية وصخورَها المركومة".
  (كم من الضّيوف ظلَّ منتظراً نهاية مزاعم الصيّاد المتأخّرة؟ لا أحد يعرف الحقيقة بعد انسلال قسمٍ منهم تحت جنح الليل. وهل من شاهدٍ على قيام متحف قرية كُوت الجُوع فعلاً، لولا الكلمات المنسابة ببطء وانكسار؟).
  ختمَ الشَّهبازيّ انسيابَه على مسرح الجُوع: "لا. ما يجعل أسداً يظهر أمامك إحساسٌ غير الجُوع. كان الجُوع قد قرضَ وجودَها في الماضي، لكن هل الجُوع جعل الّلبوة تقترب من مسافري الباخرة تلك في دجلة، فاصطادوها؟ لا. قطعاً فالأسُود لها قصة أخرى مع ملّاحي الانهار وتجّار البضائع وجامعي التُّحَف، وغيرهم ممّن قادَهم النصيبُ لمقابلة أحد تلك الحيوانات النادرة".
  تدحرجت ضحكةٌ جوفاء، انطلقت من فكّي الشَّهبازيّ، المحتكّتين كرحويين حجريّين، ورطمَت آذانَ البقيّة الباقية من ضيوف متحفه، ثم استرسل بهدوء: "لكلٍّ سَبُعُه الذي يتبعه، بوجود سفينةٍ أو راحلةٍ في صحراء أو قاربٍ في نهر مملوء بالطّحالب، كذلك النّهر الذي وقف أسدُ كُوت الجُوع على حافّته. خاطبَني الأسد: أأنت حفيدُ ذلك الصيّاد اللعين؟ لم أجِبْ بكلمة، لهول المنظر، وصدمة اللقيا بأسدٍ من ذلك الزمان، بل أومأتُ بقصبة بندقيّتي أن ينصرف عن سبيلي، إذا كان حقّاً ذلك الأسدَ الذي كمَنَ سنوات ثم عاد لينتقم للبوتِه القتيل. قال: لا تخَفْ، فلستُ جائعاً ولا منتقِماً. ثم انتفضَ في مكانه وخلعَ فروتَه، إذ لم يلبث أن تركَ في مكانه كومةَ الجِلد المنزوع واختفى كما ظَهَر".
  جاء صوتُ أحد الضيوف من عُمق قاعة المتحف: "تقول نزعَ فروتَه! لا بدّ أنّها سُلِخت منه كما تُسلَخ من حيوان أجربَ عجوز. لا يمكن لأسَدٍ أن ينجو من عِثّ الجَرَب بعد تلك السنوات الطويلة!".
فوجئ الشَّهبازيّ بهذا القّطْع الزمنيّ: "لا يا صديقي. أسَدي الهرِم كان كاملَ الصورة، لكنّه تكتّمَ كثيراً على نيّته بالظهور المفاجئ. لقد سدَّت هامتُه ضوءَ الصّباح، وشمخَ ككائن جبّار، بفروةٍ سابغة، ولم ينطق إلا كفافاً أو تكبّراً".
  نَبرَ صوتٌ واهن آخر من العُمق المتراكم بأدوات الصّيد: "الكائنات المنقرضة كلّها ذوات أجنحة. وأسَدُك ذو فروة. اختلف الأمران. ولا أظنّ أحداً منّا سيخلِط بينهما على سبيل التوهّم البصَري مهما كان خائفاً".
  صحا الشَّهبازيّ، وصحّحَ مسارّ حكايته: "لم أقلْ شيئاً نُكرا. إنّي أتابع ما أظنّه تاريخاً ناقصاً من انقراض نوع من الأسُود الحكيمة، إذ لا موجبَ لقصِّ خبرٍ عن الافتراس بسبب الانتقام، فضلاً عن سبب الجُوع، فقد انتهت أساطيرُ ذلك الوجود على أراضينا. انهضْ من مكانك يا صاحبي، ودقّقْ في الفروة المعلّقة في ذلك الرُّكن. لأجل تلك الفروة أنشأتُ متحفي".
  (ومقابل هذا الطلب الحازم، لن نتراخى في اقتباس عبارات صاحب المتحف، فلعلّ في قوله ـ إنّ إنشاء متحفٍ يتطلب الحصول على عَشْر فَرواتٍ أسَديّة - ما يؤسِّس حاشيةً لتجربتنا في تأليف قطعةٍ سرديّة - أنتيكيّة: فلكي تُنشئ يوماً ما يناظرُها، اتّبِعْ طريقَ الأسُود المنقرضة وراء روابي الزمن الغابر).