أيار 18
 
    لا شك في أن ميزة الشعر هي في التغيير والتجاوز المستمرين والتطلع إلى ما هو جديد وبآفاق متسعة اتساعا لا حصر معه، غير أن ذلك ينبغي أن يكون مخصوصا في الإبداع كتحولات ومراحل وتغيرات وفي خضمها تأتي ممارسات الشعراء من قبيل تشكيل الجماعات وإطلاق البيانات وليس العكس. ولقد فطن النقاد العرب القدماء إلى تحولات القصيدة العربية، وتحدثوا عنها وشرحوا أهميتها ومن خلالها صنَّفوا الشعراء. فكان أن عدوا شعراء النقائض (كتلة) بناء على ما ابتكروه في القصيدة من غرض جديد في العصر الأموي كما لم يميزوا بين الشعراء بحسب أعمارهم، إنما هي طبيعة القصيدة، فتحدثوا عن طرفة الفتى مثلما تحدثوا عن لبيد المعمر وعدوا بشار بن برد شاعرا محدثا وصنفوه تصنيفا فنيا شكليا بوصفه أول المولدين الذين طوروا القصيدة من ناحية بناء الصورة الشعرية. هذا التطوير الذي جاء في خضم التحول الذي من سماته استعمال استعارات غير مألوفة، تختلف عما استعمله الشعراء الأولون. ومثل بشار أبو تمام الذي صنّفه النقاد شاعراً مولداً متميزاً حتى على المولدين قبله لفنية شعره ولإغرابه في التصوير، وليس لزمانيته كشاعر، أي أنهم نظروا نظرا فنيا واعيا إلى الطرائق التي سلكتها قصيدته. فالشعر كان (قبل أبي تمام تحديدا حسيا للواقع لكنه صار معه خلقا جديدا للعالم وقد ظهر عند شعراء كثيرين بعده أبرزهم الشريف الرضي فتجاوزوا شكل الأشياء الخارجي وذهبوا إلى جوهرها.. أبو تمام بداية جديدة في الشعر العربي انه الشاعر العربي الأول الذي خلق لنفسه سلاسل فنية وعاش يرقص ضمنها)(1)، وعلى مثل هذه الشاكلة يصنف الشعراء ممن فتحوا للشعر العربي آفاقا جديدة عبر مراحله المختلفة.
ومثل النقاد القدماء كان النقاد المحدثون والمعاصرون ينظرون إلى الشعر كإبداع لا كجماعات أو تكتلات فتحدثوا عن الصورة والأسلوب والشكل(2). وصنفوا الشعراء على وفق التحولات التي أحدثوها في جسد القصيدة كممارسات جديدة أو كتغيرات حوّلت الشعر من حال إلى حال أو استبدلت قديما بحديث. وقد يدخل في إطار هذا التحول في الشعرية كلام عن صراعات تدخل فيها ذوات الشعراء، لكن ذلك يبقى في إطار تدعيم القول بالتحول الفني ولرصد المزيد من ظواهره.
أما ما يكسبه الشاعر من تأكيد أمر التحول فمزدوج لأنه يعطيه وزنا إبداعيا، به يظل اسمه عالقا بالتاريخ ملتصقا به ولأنه أيضا يضع قصيدته على مفترق طريق فيه الشعرية قبل التحول هي غيرها بعد التحول. فقوة الشعرية تحددها التحولات كانصهار وتواصل وقرب من الحياة وغير ذلك مما لا علاقة له بأي تكتل أو فصيل، ولا ارتهان له بمكان أو زمان.
والنقدية العربية بالعموم تهتم بأمر التحولات فتتناول مختلف قضايا الشعر الموضوعية وظواهره الفنية كالرومانسية والواقعية والغربة والحياة والموت والغضب والزمن والثورية.. الخ. وينصب اهتمام النقاد والباحثين في الغالب على ما يجري في الشعر من تطورات فنية مرحلية. وأي كلام يأتي عن تسمية الشعراء ضمن تيار واحد كجماعة الديوان أو جماعة أبولو إنما يكون مقصودا منه توضيح ما أحدثوه من تغيير في الشعر يخدم أغراض القصيدة، وقد يبتعد بها عن الاعتياد والألفة ويقترب من التفرد والإدهاش.
أما مسألة الأجيال والتجييل فهي من اختصاص مؤرخي الأدب في الغالب. ولم ينبر لبحثها عراقيا سوى شعراء التجييل العقدي ومن تبعهم من الدارسين الذين يجدون في مثل هذا الموضوع تشويقا وأهمية، كونه يركز على الشعراء وتاريخ الشعر أكثر مما يركز على مسائل البنية والتراكيب وتأويل الصور وشرحها وتتبع الإيقاعات وموسيقاها التي تعد عويصة بالنسبة إلى بعض منهم.
ولقد انفردت الشعرية العربية في العراق خلال الأربعين سنة الماضية بظاهرة خاصة تتمثل في تكتل بعض الشعراء في شكل جماعات ذات انتماءات ومسارات، يضمها اسم عقد واحد من السنين، حدوده عشرية لا قبلها ولا بعدها، وبها يتسمون كستينيين وسبعيين وثمانيين ..الخ. وغايتهم من هذا التحديد الزماني ـ المنافي لمعنى الجيل والأجيال ـ تجييل أنفسهم ظانين هذا التجييل وسيلة بها يبلغون بتجاربهم الشعرية مرتبة، تضمن لهم الذيوع. وهو ما أعطى للتجييل معنى انجازيا بوصفه معادلا موضوعيا لنجاح التجارب وثرائها والطريق الموصل إلى تحقيق أغراض كثيرة لا نستبعد منها غرض التعويض عما لم يتحقق من طموحات في عالم الشعر. وبهذا المعنى الكتلوي التجمعي يصبح التجييل أحد أمراض الشعرية العراقية ولن نغالي إذا قلنا إنه أخطرها؛ نظرا لسرعة العدوى به ولاتساع نطاقه في العقود الأخيرة بين الشعراء الذين لديهم استعداد داخلي وهوى ذاتي للكتلوية.
إن هذا الانجذاب إلى الكتلوية والتعويل الجماعي على العقدية في عالم الإبداع الشعري ثم المراهنة على ذلك كله في إنتاج الشعر، له مسوغات كثيرة تناول بعضا منها الشعراء العراقيون المنظرون للتجييل، ومنها الرغبة في تجاوز الشعراء السابقين والتفاني الدائم في منافستهم بدعوى الثورية والاستقلالية والحداثوية وأن قيمة الإنتاج الشعري وإبداعيته تكمن في التجاوز والانقطاع والتمرد الذي ينبغي أن يكون حاضرا أو مختزنا داخل القصيدة.
ولا ننكر أن الشعراء المنظرين نجحوا في ترسيخ مقولات صارت عند دارسي التجييل بمثابة مصطلحات بيد أنها مصطلحات مظهرية لا تركز على العملية الشعرية كتطورات وإخفاقات بل تُعنى بهوامش هذه العملية من قبيل الخصومات والمشاحنات والتقاربات والتجاذبات والأيديولوجيات.
وما من مراهنة نقدية عند أصحاب الجيلية العقدية على تحول فني معين يفرض عليهم خوض تجربة شعرية ما، لان أي تجريب لا يمكن حصره بعشر سنوات محددة كي يثبت نجاعته. هذا إذا وضعنا في بالنا أن التحولات الشعرية غالبا ما تأتي بشكل فجائي وبنزوع فردي يرتبط بتجربة شاعر معين ثم يتسع نطاق التمثل بها عند شعراء آخرين. ومثالنا الشعر الحر الذي جاء عن تجربة فردية وبنزوع ذاتي مارسه رواد هذا الشعر كل على حدة ثم استمروا يجربون فيه وانضم إليهم شعراء آخرون، وكل ذلك جرى بشكل تلقائي ومن دون أية قصدية في تسمية الظاهرة. ومع تقدم السنين صار التحول حقيقة ماثلة في الشعر المعاصر نقل القصيدة العربية نقلة نوعية من مستوى معتاد ومباشر إلى مستوى غير معتاد ولا مباشر وبخصائص تستتب في أغوار الشعر مثلما تستغور الذات والتاريخ. وليس كل تجريب يفضي دائما إلى تحول شعري، فبعض التجارب تنجح على مستواها الفردي فقط، فجبران مثلا أحدث في الشعر العربي أثرا، شاع بين شعراء مرحلة ما بين الحربين، ولكن هذا الأثر لم يكن كافيا لان يكون تحولا ينقل القصيدة نقلة نوعية شاملة.
وعلى الرغم من محاولة بعض النقاد ـ كادونيس مثلا ـ اعتبار تجربة جبران ممهدة لحركة الشعر الحر، فان تجربة جبران بقيت في حدودها الذاتية، إذ شتان بين فعل لا تتضح فاعليته إلا بعد حين ليس بالقليل وبين فعل ينتج فجأة بسبب مؤثرات عدة ويكون من القوة ما يجعل تأثيره يسري مسرى النار في الهشيم فيكون البت من ثم في أثره وتأثيره وأهمية ما تركه من تحول فني، حاصلا وناجزا بشكل أكيد ومنقطع النظير.
وما أُطلق على شعراء حركة الشعر الحر اسم جيل الرواد إلا تجوزا كمسألة احتفائية تعبر عن قوة التحول الذي أحدثوه في الشعر العربي وقوة الإرادة أيضا في مواجهة العنت والانتقاد. وبسبب ذلك وضعت نازك الملائكة كتابها (قضايا الشعر المعاصر) لكنها واجهت أضعافا مضاعفة من النقد الذي كانت قد واجهته في نظم قصيدة التفعيلة. فأخذ عزيز السيد جاسم عليها أنها وقفت من الشعر موقف المعلم وقعّدت قواعده تقعيدا متزمتا عوّقه ولم يجدده، وأنها مع شعراء آخرين (يتحولون بفعل الإشباع والغرور في ميدان الريادة إلى سادة.. ان هؤلاء يتحولون من مجددين إلى معوقين ومن محدثين إلى متزمتين بحيث تصبح الحرية عندهم وبفعل الزمن تقنينا خاصا. أنهم بهذه الوضعية يريدون تجميد التطور الشعري بحيث تبقى قياداتهم أزلية. أنهم يقعون في مغالطات خطيرة لعدم تفهمهم لحقبة التطور الذي يجعل ما في الغد مختلفا كثيرا عما في اليوم وقد ابتدأت نازك عندما أخضعت الشعر الحديث لشروط متعصية تفوق التعصب للأوزان الخليلية ولذلك وبحكم كونها رائدة كبيرة استطاع موقفها أن يثير لغطا خطيرا)(3).
وإذ نوافقه الرأي في أن الشعر تحول وليس تقعيدا، فإننا نخالفه رأيه في نازك الملائكة، فهي أرادت بهذه القواعد أن تعطي للشعر قيمته وتنقذه من حالة الاستسهال التي تصورها ناظمو قصيدة التفعيلة أولا، وتحفظ حق من له كفاءة في نظم قصيدة التفعيلة آخراً. ناهيك عما في موقفها هذا من رد غير مباشر ومنهجي على اجتهادات من أراد مصادرة حركة الشعر الحر بحركة موازية ففندت شبهة التحديث هذه، وتعمقت في بنية الشعر قديمه وحديثه باحثة عن موجبات إثبات القاعدة التي عليها يقوم الشعر الحر. وليس في تثبيت القواعد تعليمية أو تعصب أو مغالطة، وإنما هي نظريات ومنهجيات فيها كانت نازك ناقدة رائدة وهي تتبع منهجية بنيوية، بها سبقت أي ناقد عربي. ومثلما تفردت نازك الملائكة في الشعر تفردت أيضا في مجال التنظير النقدي للشعر.
ولان هذا التحول في الشعر كان كبيرا، تعددت دراساته وغدت له أولوية في النقد بحثا عن مسائل الريادة والأساليب والأبنية والثيمات وغيرها. وإذ لم تشغل مسالة التحول بعض الشعراء المجايلين للرواد أو الذين أتوا بعدهم، فان غيرهم شُغلوا بها. وقسم منهم وجدوا ضالتهم في التجييل العقدي متجاهلين حقيقة أن الجيل الشعري لا يقل زمنيا عن ثلاثين عاما.
وتجاهل دقة مفهوم الجيل رافقه تجاهل لمفهوم التحول الذي ينبغي أن يكون في الشعر وليس في الشعراء وما يختلقونه من تصادمات ومناكفات وممارسات بها يتمردون على المقاييس، ويلغون التواصل مع من سبقهم، ويتصادمون مع التراث، لاهثين جريا وراء الموضات الغربية.
وقد عبّر عزيز السيد جاسم عن هؤلاء بأنهم (يحاولون زهق العواطف الإنسانية واغتيال الأدب بمجموعه)(4) ولو كانت الجيلية تتبع التحولات لشكَّل كل تحول جيلا لوحده، وهو أمر غير ممكن لان التحولات لا تأتي بالمشتهاة ولا الرغائب، ولا هي تخندقات، بل الجيلية حاصلة ومحسومة على وفق نظرية المجايلة التاريخية. وهو أمر غير مخصوص بالشعر وحده بل ينطبق على كل ميادين النشاط الإنساني.
لا شك في أن مهمة الشاعر ليست التفكير في الجيلية، لأنها مسألة تاريخية لها حدودها المعلومة زمانيا، إنما مهمة الشاعر التفكير في الشعر كمسألة مصيرية بها قد يجد طريقه إلى التغيير وربما الثورة وقد لا يجد سوى التقولب أو الثبات. وفي خضم جيل شعري واحد قد يشهد الشعر عدة تحولات وقد لا يشهد أي تحول؛ فأمر التحولات متوقف على بنية الشعر كإلهام ووعي وحدس ومقاومة واستغوار وانفلات ومساقات ونظم.
إن الجيل مقولة زمانية ووحدة قياسها عام تقويمي، والمنوط بها هو توثيق الأسماء في مسيرتها ومنجزاتها وتطور تجاربها. أما التحول فمقولة فنية ووحدة قياسها الانزياحات التي تولد التناقضات والاختلافات وهي ما تستهوي المبدعين وتغريهم أكثر من مسألة التحقيب والتوثيق. من هنا تتبدى ضرورة التحول من أجل تغيير الثابت شكلا ومحتوى وروحا بينما يبقى التجييل ـ سواء بمعناه العام أو العقدي ـ مجرد تاريخ يشير إلى أسماء الشعراء، كيف كانت ومع من تخندقت.. الخ.
وإذا كان التحول منحة إلهامية وتتمة روحية فيها الشاعر ليس رقما في مجموع، فإن التجييل ـ عقديا وغير عقدي ـ وضعية جماعية فيها الشاعر رقم مع مجموعة أرقام لها بداية ونهاية وتتدخل في تحديدها عوامل غير فنية كأخلاق الشعراء وارتباطاتهم الشخصية ومسؤولياتهم الأسرية وتعايشهم المجتمعي والتزاماتهم وعدم التزامهم وعقلانيتهم أو عدم عقلانيتهم.
وإذا ما طبّقنا هذا التصور على النقاد والشعراء في مرحلتنا الراهنة، فسنجدهم ميالين إلى التجييل العقدي إن لم يكونوا قائلين به ومدافعين عنه غير ناظرين إلى أهمية التحولات التي هي أساس في توصيف أية تجربة. ووراء ذلك أسباب منها أن الشعر اليوم لم يستطع أن يصنع تجارب ذات تأثير نوعي في الأعم الأغلب، ومنها أن الشعراء بالعموم يكتبون إرضاء لرغبات معينة أو انتزاعا لمديح وقتي، ومنها ضعف الاعتمالات الداخلية فلا تنطلق إلى الخارج قوية، ومنها عوائق الإلهام ومطبات الصياغة الفنية وعسر التجريب.
وإذ نؤكد أهمية التحول، فإنه لا غنى عنه في معرفة التطورات الشعرية وتحريك دماء القصيدة. وإذ يتوجب أن يكون كل تحول هو تجديد، فكذلك ليس واجبا أن يحصل التحول في كل جيل شعري لأن الجيل يتحقق سواء بالتحول أو من دونه كفرضية يحتّمها قانون التطور الذي فيه السابق قديم والحالي حديث. وكل حديث سيصبح قديما وكل آت سيكون حديثا وهكذا. اما قانون التحول فلا يتحقق إلا بالتجديد الفني المختلف عما كان قبله والذي لا يماثل ما هو سائد في زمانه. فمقولات الكلاسيكية والحداثة وما بعد الحداثة تدلل على تحولات إبداعية وليس على مراحل تاريخية. وتتفاوت العوامل التي تصنع التحولات لكنها بالنتيجة تؤدي إلى تغيير يطرأ بشكل فجائي لكنه يصبح فيما بعد جذريا وعاما وجماعيا. فالتحول أيا كانت درجاته يبدأ طارئا وينتهي متجذرا منتقلا بالشعر من حال إلى حال كأمر مفروغ منه يضفي على الإبداع حيوية مبعدا عنه الجمود والتحجر.
وقد يسمى التحول تجاوزا أو تخطيا أو تجريبا أو تثويرا أو حساسية أو فرادة لكن المحصلة واحدة وهي المغايرة بعيدا عن المواءمة والانسجام والتنميط سواء على مستوى أعراف القصيدة أو على مستوى أبنيتها وقيمها. ويخطئ من يظن أن المغايرة تصنع التجييل؛ فالمغايرة تنجم عن تحول في الشعر وليس في الشعراء.
وعموما تتسم التحولات الشعرية بعدم الثبات؛ لأن الشعر في الأساس موار بالمتغيرات، أما الاجيال فإنها ثابتة في نموها وتشكل قيمها التي تفصل بين القديم والجديد كشباب وشيوخ وآباء وأبناء وأساتذة وتلاميذ. وهذا من اختصاص مؤرخي الأدب الذين لا تهمهم مسألة نقد الشعر بقدر ما يهمهم إحصاء شعراء مرحلة ما من المراحل، تنقيبا عنهم وتوثيقا لسيرهم وتسجيلا لمنجزاتهم.
وليس التجييل أو المجايلة بالأمر الجديد أو الغريب في نقد الشعر العراقي بيد أنه اكتسب فيما بعد منتصف الحرب العالمية الثانية أبعادا جديدة بعضها فني وبعضها الآخر ايديولوجي فأخذت مفردات (جيل الرواد وجيل ما بعد الرواد وجيل الستينيات وجيل ما بعد الستينيات) تكثر في نقد الشعر العراقي. وهو أمر نراه طبيعيا لان حركة الشعر الحر لم تكن اعتيادية فقد كانت تثويرا مهولا أحدث تحولا فنيا خطيرا في بنية القصيدة العربية لم يحصل منذ عشرة قرون حين قام أبو تمام بثورته التحديثية في عمود الشعر العربي. ومن هنا لم يستطع بعض الشعراء - الذين أثارهم هذا التحول ممن جايل رواد هذه الحركة أو من جاء بعدهم - تقبل الأمر أو استيعابه. فتفاوتت ردود أفعالهم وأسقط في أيدي بعض منهم، فراح يبحث عن طريقة ما، بها يغالب هذا التحول ويصاديه فوجد في التجييل العقدي خير طريقة بها يؤكد حضوره في خضم هذا الزلزال الشعري الكبير، متنكرا لقوانين الجيل الطبيعية ومتخذا من اسم العشر سنوات معيارا. وسرعان ما وجدت نغمة العقدية هوى في نفوس شعراء آخرين وهكذا ترسّخ التجييل العقدي وهو اليوم مقولة معتادة في نقد الشعر العراقي وظاهرة ابتدأت مفتعلة بسيطة وانتهت مقعدة ومعقدة. وعلى الرغم من مرور سبعين عاما على قيام حركة الشعر الحر، فإن صدمة التحول ما زالت مؤثرة وفاعلة وبالقوة نفسها. ومن دلائل هذه القوة استمرار بعض الشعراء في القول بالتجييل العقدي، تارة بابتكار البيانات وتارة أخرى بالتخندقات، معبرين بذلك عن ردة فعلهم وطبيعة استيعابهم لذاك التحول الشعري الكبير.
هوامش:
  • مقدمة للشعر العربي، أدونيس، بيروت، دار العودة، ط3، 1979، ص46
  • ويعد الفارابي أول من اهتم بالإحصاء والتفريع، فعلم اللسان يتفرع منه علم الأشعار، ومن هذا العلم يتفرع إحصاء الأوزان وإحصاء تركيبات الحروف وما يستعمل من الألفاظ في الأشعار. ينظر: إحصاء العلوم، الفارابي، بيروت، مركز الإنماء القومي،1991، ص11ـ12
  • دراسات نقدية في الأدب العربي، عزيز السيد جاسم، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995، ص116.
  • المصدر السابق، ص111