أيار 18
 
رواية (إلى المزاح أقرب) الهوية ولعنة الحكّام
 
 
     الثامن عشر من اعمال الروائي (طه حامد الشبيب) انجاز ننحاز إليه بدافع من حب استكشاف ما هو خبيء ومخفي أولاً وللأسلوب المتميز بفرادته في سبر أغوار ما يبدو راكدا للعيّان والمتحرك في أعماق الحدث.  انما نحن إزاء رواية جديدة تستحق اكثر من وقفة تأملية لما يدور لا على ارض الواقع فحسب بل في طريقة التنبيه الثقافي.
قراءة الروائي الشبيب، بغاية تتبع اسلوب انابيبه المستطرقة روائيا، تتطلب خلفية الاطلاع على مساحة من نسيج منجزه الروائي، فعلى الرغم من استقلالية اعماله الثماني عشر عموماً، داخليا اتلمّس ترابطاً لاضما بين تلكم الأعمال ورسالة واحدة تركز على التنوير والوعي لمواجهة حالات من الغزو الظلامي لشعوب جرّدت من استقلاليتها في ادارة شؤونها بمسعى تاريخي عنصري للانتقام ثأراً لطمس معالم نهضتها وقوتها. ففي كل أعماله الروائية يركز الكاتب على بناء المواطن الفرد وصولا إلى الفعل الجماعي الواعي، وهذا بحد ذاته ما يمنح تميزا لصف منجزه .
في قراءتي الأولى لرواية (إلى المزاح أقرب) وجدتني أقرب إلى مقدمة روايته (طين حري) على الرغم من الفارق الزمني بين الروايتين، كتبت "طين حرّي" في بغداد 2002.- فترة حرجة جدا من تاريخ العراق- امام تفاقم بلدان الرأسمال الدولي وسراكيله العميلة في البلاد العربية وما جاورها وما وجَدَتهُ من فرَصٍ للتمدد العنصري على نحوٍ مراوغ وحدث المقابر الجماعية.
 
يتعامل الكاتب بغموض مبطن فالحدث هنا جفاف المياه وظهور ما خفيَ من هياكل عظمية بسراويل بلون الطمى، وجهان لعملة استكملت وجهها الثاني في روايته الجديدة التي تذكر بجريمة سبايكر واحداث انتفاضة تشرين اثر "الهيجان الأعظم"، من دون أن يفصح الكاتب عن مكانها وتاريخها. من ثمّ كيف زيّد عدد المغدورين الى اضعاف مضاعفة على غرار الكثرة الكاثرة تنامياً مع تفاقم الأحزاب الدينية المتطرفة وما كشف عنه واقع حال ما بعد احتلال العراق.
 
البداية
" آخر قطرة ماء تجتاز الحدود إلى داخل البلد..." هي بداية الشروع في الدخول إلى عوالم روايته الجديدة.
هذا المدخل اللاصف يوجز للقارئ كل الحكاية. قطرة لاصفة من ثم تتبخر، هويّة لا تعود بماهيتها.
عشرة فصول ابتدأها الراوي العليم المتصدّي لقص الحكاية- بكركرات اطفال وختمها بـ - نملٌ عملاق؟ سوادٌ اخضر-. تورية لما طالعناه من تاريخ البلاد في أرض السواد.
وكركرات الأطفال على الرغم من فاجعة يباس الانهر، تنم عن البراءة وتتعاشق بعمق مع تناقض الحال وعنوان الرواية. براءة تضمحل أخيرا أمام قسوة ما سيجري عند بلوغهم كرجال. تناقض جدلي نلمس نتائجه خاتمة الحكاية.
قراءة منجز الروائي الشبيب، تحتاج إلى تأنّ وليس قفزا على دروع اظهر السلاحف الغافية والكسولة على برك المياه..
هي ليست قطرة ماء عابرة، هذا المدخل لقطرة ماء لاصفة، ثم المتبخرة يتلاقح بتناص فني ملفت وقطرة "الغيرة" من على جبين شخوص رواية " خلو" 2020 بهدف (استنهاض غيرة المزيد من الناس). والمثل يقول "هي الغيرة قطرة ماء"، وعارٌ على الكذابين ناقصي الغيرة.
 
الأسلوبية:
يناغم الروائي بحميمية واضحة توظيفه اللاواعي لمسميات وتعابير غاية في التعاشق بين عناصر رويّه، فـ -الحلوين- التي تتكرر كثيرا هي نغمة تتسامى وأرواح الشهداء المغدورين ممن طمرتهم قيعان روافد انهر" الزاكية" اللاعد لها، المدينة التي تعفرت تربتها بطيبة شبابها قرابين صراعات الأنانية والوحشية الفجّة.
يسترسل الكاتب بـ " نبوءة " الشخصية – فيّاض السقّا – بشأن شحة المياه وتوقعه جفاف الشطوط، من ثم يلمّح إلى مصدر المشكلة بالتعبير " ...الشطوط تنملي إذا صدورها انفتحت، والميّ المحبوس هناك يطلقون سراحه". الاشارة " هناك" ذات دلالة ومغزى واضحين. هناك ... أين؟ مؤكد دول الجوار المحاذية للبلاد.
مما يدخلنا الروائي في طريقة نسْجه للتداخل والتخارج بلغة كأنما ينسج منها حصيرته الأدبية شكلا ومضمونا، يلضم حلقات بنائه الروائي بطريقة الحوار الداخلي فينحت من وصفه طريقه الخاص ليشرك القارئ في قناعاته حتى يتمكن من اثارته وجعله يشارك الراوي طبيعة سخريته الخاصة بتقانة عالية مدافة بالسخرية والبهجة وحتى التوهان مما ستؤول اليه الأحداث لاحقاً.
الجفاف هو اعتراض الأرض على اغتيال الإنسان وطمره في قيعان الأنهر اللاعد لها وكشفها لرفاة الأبرياء تحت الطمى المتيبس. الجفاف هو التضاد لفعل الاقتصاد بما يؤثر حدّه الآخر بمضمونه السلبي شر الشرور كلها، فبقدر ما يبني إذا ما أحسن تدبيره بقدر ما يمسخ هوية الناس، فيحيلهم إلى رجال جوّف، والأرض المنتجة إلى يباب " ت. أس. أليوت"، قصيدة الأرض اليباب – شحة في الماء والزرع والبيئة والثروة الحيوانية.
تطل الشخوص الرئيسة في الرواية اولا بشخصيتين رئيسيتين تتبعهما لاحقاُ شخصية امرأة، فيّاض السقّا، مؤسس حزب الإرواء الوطني الديمقراطي، وحاج بدر الوطني الباحث عن الجاه، ابن عشيرة الفوازع، المفعم بالنشاط والحيوية على الرغم من كرشه الهائل، صاحب أولى مقاهي قيعان الأنهر لمدينة الزاكية والتي ستمسي المقهى ذائعة الصيت بحكم كونها مقرا للحزب، والمرأة (سنا) المغلغلة بالسواد المليئة بالثورة والحماسة وروح انتفاضة شعب مغلوب على أمره.
كما يشد "المتصدي لقص الحكاية"، واقصد به الكاتب، يشد ذاكرتنا دون وعي منه في استرساله وتعبير- في اللا أين - رواية سابقة للكاتب بهذا الأسم-.  (فتحْتَ وطأة كل تلك المشاعر إنما تجمَّدت أعينهم في اللا أين) ص72، فيما يتملّك الكاتب هاجساً ذكياً غريباً حتى يسترسل بوصفه لـ " يوم قيامة مبكّر" لا مثيل لوقعه حتى في جحيم يوم القيامة المتخيّل!
 
عن المواطن والهوية:
مثل القاسم المشترك لأغلب رواياته، يؤسس الكاتب إلى هوية المواطن الفرد، من ثم هوية الجماعة كي يتحقق مفهوم بناء الوطن.
هكذا شرع حزب الإرواء الوطني يجمع أعضاءه الجدد من نواة قوامها ثمانية رجال وامرأتان إلى 45 عضواً، حتى تزايد الجمع وشيئا فشيئا تضاءلت هوية أعضائه أمام مغريات الاقتصاد حتى جاءت عليه فتحولت هويته إلى -حزب إرواء العشائر الوطني الديمقراطي- بهذا فقد المواطن هويته تحت نعت "ابن العم" ، فتضاحلت وطنيته اسوه بتضاحل الأنهر ويباس قيعانها.
كذلك تضمحل أسماء أشخاص وتحتل مكانها اسماء لعشائر – آل حُميّد والهوادي والفوازع وآل هامل الخ.
 
قاص الحكاية:
يبدو أن قاص الحكاية هنا، مثله مثل j ناقل الخبر- في رواية (خلوّ)، قد وقع في حيرة من أمره! كيف له أن يتدبر إدارة وترتيب كل ما ذكره من أحداث؟
يذكر في ص125 من روايته الجديدة "وتتواصل حيرة من يقص حكاية البلد في تلك الأيام. انه حائر كيف ينقل أخبار أحداث شخوصُها لا أسماء لهم صريحة." فالمناداة بين الأشخاص أُختزلت بمسمى " ابن العم"، أما الأحداث فلا تتعدى أن تكون جماعية تحركها العشيرة. وانحسر تواجد الجنود على حدود البلاد فانسحبوا طاعة لانتماءاتهم العشائرية التي ارتأت مشايخها سحب السلاح من جند الحكومة وحصره بيد العشائر، ما ادى إلى تأجيج التنازع بشأن مقترح ردم الآبار وبالمثل تحويل الحديقة العامة امام مبنى الحكومة إلى مقبرة لدفن رفات الهياكل العظمية لمفقودين شهداء الهيجان العظيم.
ومن حوامته الجوّابة لتصوير المشهد البانورامي، ينقلنا – عبر مخيّلة المتصدي لنقل الحكاية – إلى مشاهد حدود البلد التي تتحول إلى شبه خالية من الجند بعد ان سُحب السلاح بواسطة العشائر المتنفذة والتي اضحت تتناحر وتقتل بعضها، فيتسيد حالٌ من الرعب اليومي بعامل الثأر. هذا المرقب السمائي يذكّر بسريان حاتم الديو وزميله الجندي العدو إلى اعالي السديم الرخو في رواية (خلوّ) ص274. اما مصير الاحزاب فلم يكن بأفضل ما كان عليه زمن صدق النوايا اذ باتت العشيرة التي استحوذت على سلاح الجيش، تغريها الرشوة والمصالح الشخصية متمثلة بفيّاض السقّا الذي خان قضيته وفقد هويته بحسب ما يرى الحاج بدر الذي أثني على صانعه باضرام النيران في سقيفة الحزب، معنّفا مؤسسه، باصقاً في وجهه.
تبقى المرأة بشخص الثائرة سنا المجللة بالسواد هي المعول عليها في إنجاب جيل لا تغرّه ضعة الرشا ولا طمعٍ لمنصب قائم على خيانة البلدان.
خاتمة:
مشاهد واحداث كأنما نعايشها وتعايشنا اليوم في عراق ما قبل وبعد الاحتلال. يلعب فيها شراء الذمم دورا كبيرا كما للاقتصاد تأثيره الفاعل في الضغط على الشعوب وليس الحرب على اوكرانيا بأقل مثال. رواية واقعية أعمق من الواقع وليست بأكثر من حلقة من منجز الروائي الشبيب، عايشها واقعا لا في الخيال، كما تكشف حالة من غرائبية النبوءة لما سيحصل من تهديد يلوح في أفق صراعات الأحزاب الدينية واعتمادها كأدوات لسلاح مؤثر وبخس، للهيمنة على ثروات الشعوب المتخلفة، بخاصة فيما يسمى ببلدان العالم الثالث.
بهذا يختم الكاتب فصول روايته بغزو " نمل عملاق*" عابراً بيسر الحدود المفتوحة لبلاد الزاكية وما يتوفر من السلاح المنفلت، يقابل كل ذلك بصيص عودة اشجار الحديقة الذابلة التي ضمت رفات الشهداء، باستعادة خضارها الذي يذكّرنا الكاتب على ما يبدو بـ" سواد ... البلاد ... الأخضر". تورية لمزحة أمل قد يأتي أو ربما هو آت!
رواية تستحق تأمّل ما فيها من استكشافات فنية رصدت جانبا مهما من احداث تشرين، ولا مندوحة من تفحّص مدلولاتها بتمعّنٍ وليس عبرَ القراءة السريعة العابرة فحسب.
* النمل العملاق، تسمية غرائبية توقفت عند دلالتها بما يتوفر محليا من نمل قارض ضخم يشخّصه غالبية العراقيين بـ "النمل الفارسي العملاق"!