أيار 18
     في البحث عن المستوى التداولي لأية رواية، يمكن التنويه عن مهاد لركني (الجمالي والاجتماعي) في الروي معتمدين على الترابط شبه الأزلي بين الجمال والثقافة والمجتمع. إننا بإزاء تخمينات سردية نحاول ان نكوّن لسردها استقراراً منطقياً واضحاً، عبر فهمنا لفضاء الروي، إذ ان الوسائط التي تشكل فضاء الروي تصيّر الراوي ممثلاً في شاشة، تعرض ما يوازي التسلسل التاريخي. لنتابع:     
أولاً: الراوي/ (تقنيات) يعيد الراوي توزيع الوحدات الدينامية في حركة الأحداث زمناً ومنطقاً، مثلما في: [ارتشف علبة بيرة هينيكن بجرعة واحدة، وانصرف. بعد أقل من نصف ساعة بقليل عاد إلينا، كانت معه نسخة أنيقة من ديوان حب لبابلو نيرودا باللغة الانكليزية، وهو إصدار حديث في لندن بعد فوز الشاعر التشيلي بنوبل عام1971، جاءنا به من فرع مكتبة الدار الوطنية في العشار. وضع اهداءً على الديوان بقلم ماجك احمر عريض: (الى الحب في نهاره الأول.. ناز وآدم دمتما معاً). مع كتاب نيرودا جاء أيضاً بأسطوانة للمغني الاسباني خوليو إغليسياس، وكان هذان؛ الكتاب والأسطوانة أُولى هدايا الحب]*. في هذه المقطوعة أربع وحدات مثلت وظيفة الراوي، هي: وحدة الاحداث: وهي خمسة أحداث معلنة ينقلها لنا آدم، والكثير من الأحداث الأُخرى لم يصرح عنها لأن دورها لم يَحِن بعد. لقد كان دور الراوي مباشراً ومهيمناً، فهو من وزع الأحداث الخمسة على النحو الآتي: (ارتشاف البيرة من قبل فوزي، ذهاب فوزي الى مكتبة الدار الوطنية، جلب "كتاب حب" لنيرودا، إهداء فوزي كتاب "حب" الى آدم وناز، جلب اسطوانة المغني الإسباني). بينما وحدة الوصف: قد تضمنت تحديد شخصية الفاعل فوزي، والراوي آدم، ونوع الهدية (الكتاب والأسطوانة)، كما تم تعيين مكان المكتبة (العشار)، ومكان الاهداء (بيت آدم). اما الوحدة الثالثة فهي الإخبار السردي، وهي الوحدة الأهم في توجيه الرسالة. حملت إلينا خبر فوز الشاعر بجائزة نوبل، وطبع كتاب حب لنيرودا، وأخبرنا الراوي بآلة الكتابة الخاصة في الاهداءات وهي قلم الماجك العريض، فضلاً عن اننا عرفنا نوع الشراب في تلك الفترة، كذلك فهمنا خبرا بين السطور، هو ان ناز وآدم حبيبان. وقد تكون الوحدة الرابعة (مؤوِلاً) نابعاً من الوحدة الثالثة؛ فقد تهيأ للمقطع قول الآتي:              
ـ ان الزمان والمكان في البصرة الساحرة بالسبعينات من القرن الماضي، كانا شيئين مريحين وجميلين!
ـ ان فوز شاعر يساري في وقت قريب من قيام الجبهة الوطنية عام1973 يمثل جواً مهماً للتقدم الحضري الانساني عالمياً ومحلياً.
ـ ان سماع الأسطوانات لأفضل المغنين في العالم، وقراءة أجود ما تنتجه الانسانية من شعر، يومئ الى سلامة الذوق العام، الثقافي والاجتماعي.
ثانياً: التدوين/ (ثيمات) لمروية العشاق هذه، (غريزة الطير) مواجهات عديدة، فهذه الرواية أول رواية عراقية تتخذ من العشق العفيف طاقة مقاومة لتحطيم كرسي السلطات الدموية! وللعشق فيها مواقف وأحوال أو حوادث وأهوال؛ منها/
1ـ الموقف الأول بين العاشقين نهال الشهيدة وفوزي الذي يزور قبرها: يقول لها: ها أنا قربكِ، وها أنتِ.. ما أبعدكِ عني.. تأخرتُ عليكِ..
كومة من أحجار، يا نهال؟ وشاهدة متواضعة...أهذا كل شيء يا نهال؟... جثوتُ حتى غاصت ركبتاي بالتراب... كنتُ أتحدثُ إليها، وكان حديثي...أقرب الى الهمس...لقد اعتادتْ مني واعتدتُ منها الهمسَ في كل حواراتنا...كانت تصغي لوجيب قلبي وترى حرائق روحي حتى أخرسني الألم فصمت] ـ الرواية ،85 ،86 بالمقابل.. فوزي يتخيلها تخبره بالآتي: ["لم تكن معي، وكنتُ أخشى يا فوز، ان تكونَ معي وأنا استلقي على حرارة الدم. سمعتُ صوت الرصاصة التي قتلتْ فؤاد، ولم أسمع الرصاصة التي أسالت دمي، فغفوتُ لوهلة ثم أفقتُ. وحدي، كنتُ وحدي. لم يكن الموت مؤلماً...نزفتُ كثيراً، حتى غطى الدم الزقاق كله، وحتى غطى البصرة كلها.. كنتُ استغيث بالدم ألّا يوقظكَ...أردتُ حياتي لأحرسَ لذاتِكَ كما حفظتَ لي مسراتي"] ـ الرواية، ص86
يوضح الموقفان بعضَ روح المقاومة التي ستحطم كرسي أُمراء الظلام. يمكننا الاستنتاج بأن شيفرات المقطعين تعملان على إيصال روح التقاطع مع السلطة عبر الآتي:
ـ الفقدان الذي لحق بفوزي ليس له سبب مطلقاً سوى كره السلطة لأي خير وجمال وحب.
ـ استشهاد نهال جاء بعد ان حضنت جثةَ أخيها الشهيد في عرض الشارع، اذ توجهت لها رصاصات الغدر من دون تهمة او جنحة او أي مبرر أمني او سياسي.
ـ نوع الفقدان والاستشهاد جَرَّ وراءَه عواطف ومصائر لا يقوى على تحملها جبل، فكيف بشبان عشاق!
ـ قسوة السلطة ودموية أدواتها تمكنتْ من قتل الأجساد وتدمير الأرواح، وهذا نفسه جعل السلطة تنتهي بأول مواجهة مع الغزاة، اذ تخلت عنها أجهزتها والناس معاً.
 ـ ان ضحايا1991في البصرة صاروا علامات تحتم التغيير القادم.
2ـ الموقف الثاني لآدم بعد ان فاق من خطر الموت، اذ اعتقد انه في البصرة، بينما هو نقل ـ بلفتة ربانية ـ الى لندن، وتلقي العلاج حتى استعاد وعيه، فراح يفكر ويتحدث بحسب تصور فوزي/[مثلما يبتسم طفل وليد في أثناء رقوده من قبل ان يتعرف على الابتسامة فان ومض ابتسامة طفا على وجه آدم، فزاد الاطمئنان اطمئناناً. كانت أنابيب بلاستيكية تمتد من أكثر من موضع في جسده. ومن ذلك الومض انبثق بريقٌ، بريقٌ بدا مثل جملة موسيقية تأتي بغتة من بيانو ايما هيرلي... لتنفجر عاصفة من نور...يمتد من ذلك المحيا، ليتسرب من الجسد...لينسل من صمت الغرفة.. ليسرح بعيداً.. ومثل ملاك هائم، مثل طير يصغي لغريزة اهتدائه الى مكانه، يمضي النور حراً، آخذاً معه طيفاً من الجسد الراقد بأمان وسلام الى ان يصل به الى هناك، الى البصرة، المدينة التي تحيا فيه ويحيا فيها حتى وهو هنا، يتماثل للشفاء في المستشفى الملكي بلندن] ـ الرواية، ص341
الموقف الثاني يدين بشدة الطارئين كلهم، بعد عام2003، الذين يقتلون أهل البلاد باسم الدين والوطنية، اذ ان إصابة آدم كانت بعد الاحتلال مباشرة بفعل قوى دينية متطرفة. وان استمرار حياة آدم وإصراره على وجوده في البصرة، يمثل القيمة الإنسانية والاجتماعية والحضارية للبصرة، ولكل جزء وفرد في العراق. ويلاحظ ان هذه الفقرة هي الوحيدة التي ربطت بين العنوان على الغلاف وثيمته على الصفحة الأخيرة.                
ثالثاً: منابع للرؤى/(ثقافة) تتوجه لنا ثقافية الرواية عبر الاتجاه الثالث والرابع للروي، اذ ان الخط الأول لفوزي وآدم، والخط الثاني لراوي الأحدث ومدونها، والخط الثالث للكم والنوع الكثير من المعلومات المجمعة في:
ـ تصادم الفهم الثقافي بين آدم وفوزي، وآدم وأهله، وفوزي وناز، وفوزي ونهال.             ـ ترويج المعلومات الكثيرة عن الفلاسفة والشعراء والأدباء والتجار الأبرز والأطباء الأمهر والمصممين الأدق، بتاريخ العراق من سنة1958حتى سنة2007  
ـ احتشاد الرؤى المعاصرة وحتى المتجاوزة لها، في محاور الأحداث المتعلقة بتواريخ الشواهد والمشاهد، التي وفرتها الرواية لنا عبر الوصف. وهي تنتشر بجسد الرواية من السطر الأول حتى نهاية الصفحة 341
وثمة خط روي رابع يتمثل بثقافة جامعة بين أبطال السرد وعناصر الكتابة، والمؤولات الثلاثة السابقة، تضمنها الكتاب المزمع تأليفه من قبل آدم، والممكن نشره من قبل فوزي، الذي بقي مخطوطاً بيد آدم وبأمانة فوزي. لعل الروائي أراد به ان يوحي لنا، أن روايته التي وصلتنا هي مقترح رواية، لأن زمن الروي عن العراق لم يستكمل شرطه الإنساني والاجتماعي والسياسي بعد.
عبد الزهرة زكي، رواية (غريزة الطير) دار الرافدين، بغداد، 2023، ص40