أيار 18
قراءة في تبدلات النسق اللغوي والمعرفي لقصيدة النثر
 
 
    شهد عقدا السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم ازدهاراً كبيراً لقصيدة النثر جاورت به وعلى نحو ملفت للنظر قصيدة العمود وقصيدة التفعيلة، وباتت القصيدة النثرية تطرح أسئلتها وتتم مداولاتها بين منبر وآخر، بوصفها شكلاً لا مفر منه لتجربة الشاعر العربي الحديث ولاسيما في مرحلتي الحداثة وما بعدها اللتين صحبتهما تحولات تاريخية وحضارية كبيرة، إذ لم تكن قصيدة النثر بمنأى عن هذه التحولات، بل بدأت في اختيار مقولاتها والتخلص من العبء الكوني الذي دعا إليه مؤسسو القصيدة النثرية عبر الانحياز الى ما هو مرئي ومحسوس، والذي يُعد الخطوة الأولى صوب تغيير الآليات التي انطلقت منها، ثم بدأ بعد ذلك الالتفات الى ما هو ذاتي يتكاثر، إذ دفع ذلك الشعراء الى البحث عن الدلالات الذاتية والى الرفض والسخرية والمفارقة، كما جدد من تمسكهم بالأشكال الجديدة للتعبير الشعري، بديلاً عن الأشكال الموروثة لكون الشاعر قد فقد اليقين بأي نظام أو قالب يحد من آفاقه وتطلعاته .
وبهذا يمكن القول أن أول عناصر حركة التجديد في الشعر الحديث تتشكل من جدلية بينة في حتميتها ولزومها، الطموح الإنساني الى التجاوز والتمرد الإيجابي الخلاق فالشعر الحديث في مجمله ليس إلا دعوة الى القيام بعملية تجاوز مستمر لكل مخلفات الزمن التاريخي والميتافيزيقي من الحيز المكاني الواقعي؛ ففي منظور الشاعر الحديث لا شيء من هذه المخلفات يمكن أن يكتسب قدسية الثبات أو شرعية السكون في الواقع الذي يخضع لحركتين انتقاليتين في المكان والزمان تدفع به دفعاً تطورياً متنامياً، ليستشرف اصقاعاً جديدة ومحطات مغايرة، ولعل أكثر ما يعاني منه الشاعر الحديث رؤيته الى الزمن وقد تجمد في محيطه الواقعي على أنماط ومفاهيم بعينها. لقد سعی الشاعر الحديث الى إخراج شعره من الفضاءات اللغوية ذات الطابع الحسي الى لغة غير متداولة مستفيداً من لغة الحياة اليومية وتحويلها الى لغة الشعر، وهذا ما ينطبق تماماً على شاعرنا المبدع عبد الزهرة زكي في كتابه: (في نبض العالم / سيرة الاعمى وقد رأى كل شيء)*، فالقصيدة عنده عملية فنية يشحذ فيها الشاعر كل طاقاته الذهنية والنفسية والتعبيرية ثم يستخدمها في تقديم صورة
 
لمشاعره الثابتة حول موضوعاته التي يطرحها داخل النص، إذ يصور الأشياء ويلتقط ظلالها الهاربة لكي يجعلنا نحسها كما يحس بها هو، (قصيدة الشجرة مثلي):
 
لي حياةٌ خاصةٌ من الألفةِ
مع كل شجرةٍ وقفتُ عندها
في كل شجرة ٍ،
حتى في تلك الأشجار العظيمة في انتشارها وسموهّا،
حتى مع وارفِ خضرتها،
أتحسسُ شجناً ما في أعماقها،
وفي صمتها،
وصبرها على قسوةِ الإنسان
وعبث الريح و استبدادِ الشمس.
  
وبهذا استطاع الشاعر عبد الزهرة زكي أن يؤكد حضور وفاعلية التحول الشعري والتي تتضافر فيها التقنيات التعبيرية والتشكيلية في تكوين بنية القصيدة وتوليد دلالاتها المشعة لتدفع بالنص الى الانتظام في تشكيل يتصاعد فيه التوتر والاحتدام ونلاحظ أن بعض الشعراء يعمد إلى ممارسة الترميز الدال على الصور الذهنية المعادلة للواقع، وهي إحدى الطرق الخلاقة لكتابة نص ممسكاً بزخم دلالي كبير لتعميق الرؤية الفنية والجمالية للقصيدة ومنحها لغة عفوية عبر إقامة التوازنات الدلالية بين البنية والصياغة ومنهم الشاعر عبد الزهرة زكي في قصيدة ( عين القلب):
قال مبصر لأعمى:
أنت ترى بقلبك ما لا تبصُره بعينك
 
فقال الأعمى:
ويمكنك ان لا ترى بعينك ما لا تبصُرهُ بقلبِكَ
 
في حين نجده يقدم اللغة بنكهة يستمدها من طابعها التراثي لا في اللفظة والعبارة فحسب بل في الصور التي ترد في السياق وتخصه من دون أن تعزله لتبقى صوره مشدودة الى حياة الناس الذين تعبر عنهم فيقول:
 
تقولُ الحكايةُ العربية ُ القديمة
إنه اعمى
لا يعرفُ ما النور،
ومن لا يعرف النور، لا يعرف ما الظلام.
لكنه،
في كل مرةٍ يكون فيها
في جوف الظلامِ ليلاً ،
فانه لا يخرجُ الا وفي يده سراج.
 
أنه الواقع بكل ماديته فلا تكلف ولا غرابة ولا صور خيالية بعيدة المنال، فهو دائماً ما يبحث عن إيجاد علاقات نصية ولفظية بين مستويات الخطاب الشعري واللغوي لتتيح له تكوين نسيج تعبيري متكامل يكشف أوضاع النص، اذ نحا منحى لغويا يستدرج فيه القارئ للمشاركة في النص وجعله يشعر بأن الرؤيا الشعرية لديه تتكشف وتفصح بصفاتها ووضوحها عن شفافية عالية للغة؛ فلقد كان الشاعر موفقاً في اختيار المفردة وناجحاً في صياغة التراكيب والتصرف بالدلالات والملاحظ عنه أيضاً أنه يرى الأشياء كما هي ويقولها شعراً على حد تعبير الشاعر الفرنسي بـول كلوديل؛ فالشاعر هنا ينتخب لغة تنتمي الى خانة ( الغربة والتمرد )، أنها لغة وجودية مكتظة بالوجع والاحالات الواقعية، توشك أن تكون لصيقة به ومنبثقة عنه، لأنه محتدم بالغضب دائماً و شديد الإدانة لواقع مرير يعيشه وما ألفاظه إلا جزء من الموقف الرافض الذي يخلق المفردة والصورة المعبرة على نحو أكبر عن حالة الشاعر، إذ يقول :
 
قالت العربُ: يقع الحافرُ على الحافر.
وهذا أيضاً تعبيرٌ آتٍ من بلاغة المبصرين.
إنما لو كان الأثر يبقى
لكنت قد استغنيت به عن عصاتي في الطريق.
 
إن قصائد الشاعر عبد الزهرة زكي أخذت بخلق حالة تأثيرية تستدعي في لحظة من اللحظات حضور الكثير من الدلالات الرمزية، ومن ثم فإنها تفرض علیه نظاماً خاصاً للعلاقات بين المعاني والرموز وتحدد درجة التقارب بينها، فمثلاً نظام الجمل الشعرية يقوم على حركة داخلية تتسع وتضيق بحسب اتساع تلك الرموز والدلالات مبرهنة على أن استخدامها يخضع لمجموعة من المعايير والسياقات الخاصة باستخدام أساليب اللغة أصلاً، فهو لا يخاطب الآخر بوصفه ذاتاً منفصلة بقدر ما يخاطبه ويحاوره بواسطة فضاء يحيل الى الذات منطلقاً من أحداث ووقائع حصلت ربما مع الآخرين وفجرت ما يماثله في نفسية الشاعر، فيقول في قصيدته (صامتان):
 
مبصَرُ وأعمى
كلاهما
معاً ماضيان في الطريق صامتين
في الخريف
ليس ما يتكلمُ إلا ورقُ الأشجار.
 
وعلى الرغم من أن لغة الشعر الحديث تتسم بالبساطة في أحيان كثيرة، إلا أن الكلمة في القصيدة أخذت تومئ الى ما وراء المعنى حتى وصلت الى حد التوحد مع لغة الحدث اليومي العادي المألوف والتي تؤكد على أن لغة الشعر الحديث تمنحه وسيلة في منتهى الدقة والقوة الى تقديم الحقيقة وليس سواها للقارئ، وتذهب الى أبعد من ذلك حين تشكل معجمه التصويري، والذي يُعد عنصراً مهماً من عناصر بناء القصيدة لأنها تركيب أسلوبي يعتمد الفن اللغوي قاعدة جوهرية في هذا البناء، أنها لغة شعرية ذكية تدل على أن شاعرنا يحسنُ الصياغة ويجيد اختيار اللفظة المؤثرة والناطقة بروح التفاعل المتبادل بين الفكرة والرؤية الحسية، وبهذا أصبحت الصور تنطق بالحس وتتجاوب تجاوباً وجدانياً مع متلقيها:
 
وإذ نجا من انفجارٍ قريب آخر
فقد حدّق حواليه
وتحسس بكفَّ مرتجفةٍ
كل موضع من جده ،
وقبل أن يطمئنَ
فانه رمى عصاه جانباً،
وهرع الى حيثُ صوتِ صبي يستنجد.
  
فهو يختار المفردات البالغة التأثير كما أنه يعتمد على الجمل المتوترة التي تصب كلها في اتجاه جمالي وفكري واحد حتى أن الكلمة عنده تكتسب كما يقول البياتي صفات الكائن الحي، إذ تضغط وتنثوي فيها عوالم كبيرة ورؤى وذكريات وهي أحياناً رموز ومفاتيح لأشياء نسيت وترسبت في أعماق الروح وفي أحيان أخرى تصبح دلالات على أشياء غير موجودة. فتكاد طروحاته الشعرية تتفق بالإجماع على ضرورة أن ينفرد الكلام داخل النص بسمات استثنائية تنتقل به من حقل التعبير العام المحكوم بقصد ثابت الى حقل واسع الدلالة فيه إشباع للمعنى وتحرر من الثوابت والجمود، فالقصيدة عنده ترجمة لتلك الصراعات الحادة التي تكتوي بها ذات الشاعر، تدفعه باستمرار للبحث عن صيغ وأساليب جديدة للإفلات من هذه الصراعات فهي تمثل وثيقة تحرير ذات الشاعر من هموم اللحظة التي يعيشها.
فجاءت نصوصه زاخرة بالمعاني العميقة التي تتماثل مع فكره الإنساني جاعلاً لغته منصفة للواقع المعاش، إن كل نص من النصوص لديه يستدعي من المتلقي عمقاً تأملياً لاستقراء الثيمة الموجودة فيه:
 في انتظار ورق جديد يولد
فيكسوا الشجرة،
ولا أراه،
أنفقُ أيامي ملولاً وكئيباً
ادوسُ خلالها على ورق شجرٍ ميت
وعلى مضضٍ
امضي في الطريق.
  
تتشكل البنية النصية التوالدية بسبب ان الحدث اللغوي ليس منبعثاً من العدم، بل نجده نابعاً من أحداث متعددة ذات صبغة تاريخية لغوية نفسية اجتماعية .... فتتناسل منه أحداث لغوية أخرى لاحقة له، لذلك يمكننا القول بان هذا النص موجه الى متلق حاذق ومثال ذلك نص (ديكارتي):
 
تخدعه الثقةُ الطائشة
إنه مبصَرُ
ولكن ما اكثر ما يضعُ خطوته
حيث لا ينبغي له ان يضعها
يؤلمني هذا
كلما صادفتُ خطوة
وقد زلت بصاحبها،
أو نلّ هو بها.
 
فالنص هنا يمثل سلسلة متتابعة من العلامات اللغوية أو الشفرات المدونة التي ترتب في سياق لغوي يلمس القارئ عبره مدى تجانسه.
 
في حين يذهب الشاعر الى تعميق المستوى السردي للغة الشعرية وهذا ما أفضى الى جملة من الدلالات والصور والمشاهد، وصنع تقنية متوترة للغة تتمثل في تعدد أصوات النص، وتهميش الذات، وهيمنة ما هو سردي ووصفي على وحدات النص، ويتجلى ذلك في نص ( ليت الشجرة ) إذ يقول :
 
الأشجار تلهُمنا النسيان، كما تحفظ لنا الذكرى
مرات، وقد كبرتُ ، كنت أعود الى الشجرة . طريقي إليها تقطُعُه ذكرى غائمةٌ لا وضوحَ فيها. وحالما أبلغُ الشجرةَ التي كبرتْ هي الأخرى أيضاً، فإنّي ألمسُ بأصابعي جسدَها ، وقد بات متغضّناً، لأتحرّى فيه ، ما بين غضونِه، عن أثرٍ ما من تلك الندوبِ التي خلفتها كلماتي عليها، فلا أقفُ على شيء.
 تعتمد اللغة الشعرية هنا على توليد الذاكرة الدلالية عبر الماضي، وعلى الجمل الشعرية المتوالية، وعلى استثمار السرد في قراءة المشهد. اللغة هنا حكائية مبسطة تتعمق أحياناً ببعض الصور والاستعارات، اذ نجده يكتب على وفق ما يعرف بتقنية المقطع (الضربة ) ، إذ يكتب الشعر بوصفه ممراً صغيراً مؤدياً الى المعنى، أي أن النص يحتمل التوفيق من عدمه في أيصال المعنى، إذ يمكننا القول أن بنية الكتابة والقول هي الكفيلة بتمييز القصيدة عن سواها مما يتشابه معها من الكتابة الشعرية. وهنا نحاول أن نطرح سؤالاً مهما، وهو ما الفرق بين المعنى الشعري والمعنى النثري؟ 
 
يعني أن المعنى الذي يقدمه الشعر هو معنى شعري أما المعنى النثري فتختص به كتابات أخرى ليس الشعر واحد منها، إذ يمكن تشبيه بعض المقاطع الشعرية عند الشاعر عبد الزهرة زكي بالمصباح عندما يتوهج فيرسل ضوءاً براقاً ساحراً، وبهذا تكون اللغة منتجة للمعنى، المعنى الذي يظهر منزوياً بمكان معين فيستحضره عبر اللغة مما جعل العلاقات اللغوية التي تؤسسها تنسجم انسجاماً تاماً مع المعنى المحدد الذي يريده. واحياناً يذهب شاعرنا الى بناء القصيدة على قاعدة من الصور الفنية التي توحي إليه بها مخيلته وافقه الواسع، وبهذا تتكئ اللغة الشعرية على التصوير لتناسب هذه اللغة الصورة الفنية التي هي بالأساس تستقى من ينابيع الخيال لأننا نلجأ الى الخيال أحياناً كبديل لبؤس الحياة ويأس الواقع، وكأن اللغة هنا أشبه بحلقة الوصل لإيصال الصورة لغة موضوعية واصفة تتحول فيها اللغة الى أثير، يقوم الشعر بتطهيرها من الابتذال ويرتفع بها ليكشف عن طاقاتها ومكنوناتها.
 
فالقصيدة مكانة مرتفعة شأنها في ذلك شأن اللوحة والتمثال، وهذا الاعتماد في الشعر على مجموعة الصور الفنية الموحية والمستندة الى الخيال تعطي حرية القول بالوظيفة اللغوية للشعر، ويمكن أن نستشهد في ذلك بقصيدة (ناظر القلب):
 
ظل النايُ صامتاً
بين شفتي موسيقىَّ أعمى
فيما كان بالُه هائماً
في بيت الحلاج
العينُ تبصرُ من تهوى وتفقده
وناظر القلبِ لا يخلو من النظرِ
 
إن اللغة الخاصة التي شكلها الشاعر عبد الزهرة زكي هي من مفردات غير مطروحة وخارج التداول، وقد منحته ما يمكن أن يسمى اللغة الجديدة. لقد دخل الشعر الجديد مجال التركيب اللغوي الذي لا يمكن أن يحد بـ(تشبيه أو صورة)، أن طموح الشعر الجديد أن يطلق اللغة الى أقاصيها ويدخل مناطق لم تكتشف سابقاً تكون محايدة في علاقتها بالعالم والأشياء، وهو بهذا ينقلها الى المتن عبر ما تثيره هذه اللغة من المكبوت والمنسي والهامشي لتحقق بذلك الشاعرية في الكتابة. كل هذا يحسب لجيل من الشعراء وكأنه مكتشف الزوايا جديدة في اللغة، وعليه مهمة الاستمرار في البحث داخل اللغة ليكشف عن معان أخرى لصوغ لغة جاذبة للقارئ ومكتشفة للعالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد الزهرة زكي (في نبض العالم / سيرة الأعمى وقد رأى كل شيء) دار الشؤون الثقافية – بغداد 2023