أيار 18
   لقد كان الأدب، وما يزال، فنّا يستوعب حياة الإنسان ويحتضن تصوراته وحضارته. وهكذا، يمكن للأجناس الأدبية، في عمومها، أن تقدّم للقارئ تصورا عن ثقافة سائدة، بآلامها وآمالها وهواجسها. ومن ثمة، فإن الرواية، بوصفها عملا أدبيا سرديا، لا تخرج عن هذا المعنى، وبخاصة لمّا كانت جنسا مفتوحا يستوعب أجناسا أخرى كالشعر والخطبة وغيرها، ولعل هذا ما يفسر تنوع الجنس الروائي واختلاف الموضوعات التي بات يقاربها، ذلك أن التخييل الروائي يسعى إلى تشييد كينونة مغايرة للعالم، تراهن على عوالم موازية ممكنة تقترح حيوات جديدة يعيشها الإنسان بسلطة الترميز والتخييل.
ومن هذا المنطلق، تشكل القراءة، بوصفها تفكيكا لبُنى النص وتتبعا لمعانيه، مفتاحا منهجيا يسعف على استقصاء الدلالات الممكنة في النصوص، لا بعدِّها دلالات نهائية ومحدودة، وإنما بوصفها دلالات مقترحة ومحتملة. وعلى هذا الأساس، فإن مقاربتنا لرواية "أحلام" للروائي المغربي إبراهيم حريري ترى في مفهوم القراءة الوسيلة المنهجية الملائمة لغايات الدراسة وأهدافها.
  • القراءة بوصفها مفهوما:
تتطلع هذه الورقة إلى استكشاف البنى العميقة لنص رواية (أحلام)، وإلى الانطلاق من معالم البنية السطحية، ونقضها وفك حبائكها، وذلك بتتبع خيطها الناظم الذي سيتيح للدراسة بلوغ البنية العميقة لأجل التأسيس لنص جديد منفلت من النص السابق، وذلك باستيضاح أوجه التلازم بين عدد من المفاهيم الواردة في متن الرواية، وهي: الجمال والقسوة والأحلام. يقول عبد الفتاح كيليطو: "من الصعب تصور نص سردي أو مقطع شعري لا ترد فيه إشارة صريحة أو ضمنية إلى السفر. وحتى إن لم يرد ذكر لرحلة ما، تظل هناك تلك التي يقوم بها القارئ من عالمه المألوف إلى عالم غريب تُشرع أبوابه بتزامن مع فتح الكتاب. رحلة القراءة تستدعي تكيُّفا مع عادات النص وشعائره، وتتطلب بالتالي مجهودا ذهنيا ليس باليسير". بهذا المعنى، فإن القراءة مغامرة شاقة، محمودة العواقب، بدايتها معلومة، ونهايتها رمادية بتعبير صاحب رواية "أحلام،" تبدأ ببعض الأسئلة وتنتهي بالكثير منها.
بالانطلاق من الفكرة السابقة، ستقارب هذه الدراسة الموضوع استنادا إلى فرضتين اثنتين، تفضي الأولى إلى الثانية، حيث نعد في البداية أن النص لا يسلم إلى معانيه الثانوية خلف اللغة إلا بالبحث والتنقيب والاستكشاف، ولا تشكل الكلمات إلا آثارا، بتعبير جاك ديريدا، تشير "في الأوان ذاته، إلى امحاء الشيء وبقائه محفوظا في الباقي من علاماته"،(1) وتفصح الفرضية الثانية عن كون معمارية النص المتوارية تترابط عناصرها بعضها ببعض، تبلغ إحداها إلى الأخرى بما يُنهي إلى صياغة نص جديد يشبه الأول ويختلف عنه في الوقت نفسه. إذن، فأي قراءة ممكنة لهذا النص؟
  • أحلام الرواية وأحلام الذات الفاعلة:
لقد افتتحت رواية (أحلام) بفصل: "الظلال الرمادية للحرب"، وكما هو معلوم، فإن كل عنوان يشكل مفتاحا ونصا موازيا، الأمر الذي يبعث على طرح الأسئلة الآتية: لماذا الظلال؟ ولماذا الرمادية؟ ولماذا الحرب؟ في السياق ذاته، يُستهل هذا الفصل بعنوان آخر، وهو: "أمام الغرنيكا" تلك اللوحة الفنية للرسام الإسباني بابلو بيكاسو التي جسدت مأساة الحرب الأهلية الإسبانية بشكل إبداعي قوامه الريشة والألوان. ما العلاقة إذن بين الغرنيكا وعنوان الفصل؟ قد تتضح بعض ملامح هذه العلاقة إذا ما علمنا أن هذه اللوحة تتشكل في معظمهما من رسومات باللون الرمادي، ذات ظلال وعتمة. وعلى الرغم من ذلك كله فهي تنتمي إلى الفن والإبداع، تنتمي إلى الجمال، عكس الحرب التي لا تفضي إلا إلى القسوة والخراب. فأي علاقة، إذن، بين القسوة والجمال؟ وهل يمكن القول إن من الجمال لقسوة؟ ثم ما علاقة هذا كله بعنوان الرواية: "أحلام"؟ وما علاقته بمساراتها وذواتها؟ لننطلق من الأحلام، ليس من العجب أن يكون عنوان الرواية كلمة مفردة هي أحلام، وليس العجب، أيضا، أن تكون أحلام، في نظري، أهم ذات في الرواية، تلك الفتات التي تمني النفس، منذ أول الاستهلال، بأن تلاقي أباها وتحتضنه، أبوها الطيار الذي غيّبته رمال الصحراء لمّا وقع أسيرا خلال حرب الرمال. إذن فالعلاقة بين العنوان وشخصية الرواية باتت واضحة، إن الرواية تحمل عنوان الذات الرئيسة. هكذا تبدو الأمور ظاهريا على الأقل، إلا أنها أكثر تعقيدا في الحقيقة، ولكي نفهم هذا التقابل بين العنوان والذات، دعونا نبحث في معنى الحلم أولا. غني عن البيان القول إن الحلم هو ما يراه الرائي خلال نومه. ولكن، من المفيد الإشارة، أيضا، إلى ما يمثله هذا الحلم في ارتباط بحالمه. إن الحلم مستوى ثان من الحقيقة، واقع مواز غير واع، يكون "بالنسبة للنائم "حقيقة" تستمر حتى اليقظة، حقيقة لا يُشك لحظة في أمرها. فالحلم يبدو واقعا ملموسا وليس بمقدور النائم أن يتبيّن زيف الصور التي تلم به وتخدعه إلى أن تحل اليقظة فتتبدد الأوهام ." (2 ) وفي منحى مغاير، قد يكون الحلم دالا على الطموح والغاية، الهدف والمرتجى، ما يتوخى الإنسان بلوغه مستقبلا. بالمعنى هذا، يمكن القول إن أحلام، تلك الفتاة الشابة، تعيش بين عالمين متناقضين، عالم الألم وعالم الأمل، فهي الحزينة من فقد والدها، التواقة للقياه. يقول السارد: "وحيدة بغرفتها المطلة على الشارع، جلسَت أحلام تنظر إلى الناس"،(3 )، ويقول في موضع آخر: "راودها ذات الحلم في أن ترى أباها. منذ وعت وهي تبحث عنه، بحثت في الزوايا المظلمة، في البيوتات الغارقة في عتماتها، بحثت بين السطور، بحثت عند العسكريين، بحثت عند المدنيين، خاوية الوفاض تعود مكللة بخيباتها".(4 ) فالحلم، إذن، حلمان في واحد، حلم المنام وحلم اليقظة، حلمان رهانهما واحد، العثور على الأب، ذلك الحلم المستقبلي الذي يبقى رهين التأجيل والإرجاء إلى حين، لا يخفف وطأته، والحالةَ هذه، إلا الحلم المنامي المزيف وتربية الأمل في أن تتحول الحياة المأمولة إلى معيشة، والمأساة إلى ملهاة. لقد كان بحث أحلام في "الزوايا والمظلمة، وفي البيوتات الغارقة
في عتماتها، بحثت بين السطور، بحثت عند العسكريين، بحثت عند المدنيين، خاوية الوفاض تعود مكللة بخيباتها".(5 ) فالحلم، إذن، حلمان في واحد، حلم المنام وحلم اليقظة، حلمان رهانهما واحد، العثور على الأب، ذلك الحلم المستقبلي الذي يبقى رهين التأجيل والإرجاء إلى حين، لا يخفف وطأته، والحالةَ هذه، إلا الحلم المنامي المزيف وتربية الأمل في أن تتحول الحياة المأمولة إلى معيشة، والمأساة إلى ملهاة. لقد كان بحث أحلام في "الزوايا والمظلمة، وفي البيوتات الغارقة في عتماتها" هروبا من الظل إلى الضوء، ومن الرمادية والضبابية إلى البياض والصحو، ومن التواري إلى الانكشاف، حيث يوجد الحبيب الأول: الأب محمد بن صالح، هروبا من عتمة حرب الرمال وآثارها القاسية، طلبا لبعض السلام، بعض السكينة والإحساس بالذات. هكذا، إذن، تبدو معالم العلاقة بين أحلام، عنوانا وذاتا، وبين الظلال والرمادية والحرب. فماذا عن القسوة والجمال؟
  • جمال القسوة وقسوة الجمال:
يقول السارد على لسان كاترين، إحدى ذوات الرواية: "لم كل هذه القسوة؟ (كانت تشير إلى الغرنيكا)".( 6) جرت العادة أن نصادف، أحيانا، مفهوم القسوة في الإبداع، كما هو الحال مع المسرح السريالي، مسرح القسوة لمبتدعه أنطوان أرتو، حيث تصير القسوة عنوانا للفن، بوصفها نوعا من اللذة التي تتحقق عبر الإبداع، وكذلك حال اللذة التي يمكن أن تتولد عن الألم، ساديا كان أم مازوشيا. إن حديث كاترين عن القسوة، وهي تشير إلى لوحة الغرنيكا يجعلنا نطرح السؤال عن الرابط بين القسوة والألم؟ وبين الجمال من حيث كونُه وليد الإبداع والتناسق؟ والحق أن الرواية ما فتئت تزاوج الحديث عن هذين المفهومين بامتزاج رفيع، حيث نجد الكاتب يقدم للقارئ معاناة أسرى حرب الرمال في قالب جمالي أولا، وهو الرواية، بما هي منجز أدبي جمالي خالص، كما أن السارد، في المقام الثاني، ينقل قسوة الحياة التي تعيش في كنفها الذوات، وبخاصة حين الحديث عن أحلام بن صالح، وعن جميلة الوافي أمها، وعن محمد بن صالح الأب. وغير خاف أن الأحلام، عادة ما تسمى أحلاما عندما تكون جميلة، وإن كانت عكس ذلك سميت كابوسا، لكن الآن التقت أحلام الذات، بكابوس الواقع وقسوة الحرب، ثم إن جميلة الوافي (الأم)، وإن كان اسمها جميلة، لغرابة الصدفة، إلا أنها تعاني من الألم والقسوة. يقول السارد: متحدثا عن جميلة: "بمكياج خفيف لا تخفي التجاعيد فقط، تخفي مسحة الحزن البادي على وجهها، وتخفي تلك الهالة السوداء تحت الجفنين من أثر السهاد أيضا"،( 7) لقد نالت نصيبها من الكمد وإن كانت جميلة، ذاقت مرارة الفراق وألم الفقد وعاشت على أمل لقاء مرتقب. إن الحديث عن الجمال، وعن القسوة، يدفعنا استلزاما إلى الحديث عن قسوة الجمال. وهل يمكن أن يكون للجمال قسوة؟ يقول السارد: "كانت الصحراء عبارة عن مدى لا نهاية له. لهيبها قائظ نهارا وليلها واطئ البرودة، والسماء تزينها النجوم ليلا فتزيدها مهابة أو يضيئها البدر فتصير مثل كتاب عملاق مفتوح وأنت تنظر بين كثبين رمليين"،( 8) الواضح من هذا الكلام أن الصحراء فضاء منفتح على حالين، حال للقسوة والرهاب والمخاوف، وحال للجمال والمتعة، فالصحراء، بشساعتها، قادرة على ابتلاع أي كان والقضاء عليه، ولكنها، من حيث جمالها، تبدو كلوحة فنية مشرعة على اللانهائي، حيث النجوم تزين السماء، والكثبان الرملية ممتدة في الأفق. لقد كانت الصحراء بجمالها حيزا متوحشا، يحتضن القسوة والبشاعة، قسوة الحرب والأسر، وبدل الاستمتاع بها، صارت مشتلا للخوف والهلع، يقول محمد بن صالح: "ليل الصحراء الشاعري لم أجده هنا. كل ما وجدته في هاته القاحلة هو الخوف. فالشاعرية تحتاج للألفة وأنا هنا وحيد"،( 9) بل حتى عندما تختلق الذات الألفة عبر الذاكرة، يقول بن صالح "يتراءى لي في هذا الليل الهادئ ثغرها الشهي، يذكرني ليالينا الهادئات تحت ضوء القمر"،( 10) فإن هذه الألفة، على الرغم مما تبديه من متعة وسكينة، إنما هي ألفة مزيفة ومصدر للحزن والتعاسة والمعاناة النفسية، التي تتولد لدى ذات بن صالح التواقة للقاء محبوبتها. وهكذا، تتشاكل المآسي، وتختلط قحولة الصحراء وقسوة جمالها، بجحيم الذكريات الذي يتحقق في شكل نعيم وجمال، وتختلط اللذة بالألم، والجمال بالقسوة، وهنا يقول السارد: "في تلك الليلة المقمرة، ودون سبب، الذكريات تتوالد على المساجين وفق بواعث لا إرادية، تَذَكّرنا إبراهيم السعداوي وعزيز، تذكرنا بالجنرال الذي يأتي من الرمال ويغرق في الرمال، يطلق رصاصته على رؤوس أصدقائنا ويمضي". (11) يظهر، من كل ما سبق أن للجمال قسوة من نوع خاص، قد تكون الفضاءات القاسية واضحة المعالم، ولكن أن يكون الجمال قاسيا، فهذا شيء عجب. وهنا نتساءل: هل هذه العلاقة الوحيدة التي تقوم بين الجمال والألم؟ بالتأكيد لا. لقد قدمت لنا الرواية الجمال من زاويتين؛ فالأول مصدر للألم، والثاني مصدر لتلافي الألم ونسيانه، فهذه الغرنيكا تخلد معاناة مئات الأسر وتحتفظ بآلامهم، وهذه أحلام بن صالح تستمع لمايسترو أوبرا مدريد كونرختو دي أرانخويث باستمتاع لتداري جروحها، وتتناسى معاناتها. تقول: "أنا ما بين الغرنيكا وأرنخويث أنا ما بين القوة في نقل العنف لإدانته، وما بين الجمال الذي يسعى لتجاوز العنف كم أنا ضائعة الآن. أنا جذلى. كم أنا فرحة".(12) هكذا، يحل الفن محل الألم، مداراة القسوة بالمتعة والجمال، واستبدال عنف الواقع بعنف الفن، بعنف الجمال، أو لنقل، إننا أمام نوع جديد من التداوي، التداوي بالجمال، بالفن، وبالأدب، وبالابتسامة، هكذا قالت أحلام بن صالح: "تعلمت أن أستنجد بالابتسامة كلما سال دمي في الدواخل [...] ليست ابتسامةَ البله بل ابتسامة المداراة والبحث عن إخفاء الألم".(13) خاتمة: تفضي قراءة رواية أحلام إلى استخلاص عدد من المعطيات يمكن إدراجها في الآتي:
 ‌أ-  تظلّ الرواية مسرحا حيّا تحيا من خلاله الذوات الفاعلة وتضطلع فيه بمساراتها السردية التي يجد فيها القارئ عالما موازيا لعالمه المرجعي.
‌ب ـ يشكل مفهوم القراءة آلية منهجية تعين القارئ على استكشاف بنى النص العميقة انطلاقا من قرائن لغوية تؤثث البنية السطحية للنص الروائي.
‌ج-  لقد أثبتت قراءتنا لرواية أحلام أن هناك خيطا رفيعا نسجت الرواية، من خلاله، علاقات محبوكة بين مفاهيم قد تبدو متباينة، وهي الأحلام والفن والحرب والقسوة والجمال.
 ‌د-  يبرز البحث لمفاهيم السابقة أنها مفاهيم ترد في الرواية أعمق مما تبدو عليه في استقلال عنها. وبموجب ذلك، تتضح أهمية فعل السرد في إكساب المفاهيم بعدها الفلسفي النوعي، الذي يضفي على بساطتها بعدا معنويا آخر أكثر عمقا ودلالة. ‌
هـ - لا يمكن الحسم في المدلولات التي توصلت إليها هذه القراءة على وجه الإطلاق، بقدر ما نؤكد كونها مجرد استقراء لأثر المعنى اللامتناهي، حيث يبقى تأويل النص متاحا على الدوام وفق منهجيات القراءة والتأويل المتباينة.
 
 الهوامش:

(1) عبد الفتاح كيليطو، بحبر خفي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2018، ص 19.

(2) جاك ديريدا، الكتابة والاختلاف، تر: كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب ط 1، 1988، ص 27.

(3) عبد الفتاح كيليطو، الغائب، دراسة في مقامة للحريري، دار توبقال للنشر، ط 3، 2007، ص 10، (بتصرف).

(4)  إبراهيم حريري، أحلام (رواية)، سليكي أخوين، المغرب، طنجة، ص 20.

(5) المتن، ص 32.

(6) المتن، ص 11.

(7) المتن، ص 22.

(8) المتن، ص 17.

(9) المتن، ص 16.

(10) المتن، ص 25.

(11) المتن، ص 24.

(12) المتن، ص 39.

(13) المتن، ص-ص 47-48 (بتصرف)