أيار 18
 ليس من المستغرب أن يبني الكاتب مادته من معطيات علم النفس وما أنتجته الدراسات النفسية من تصنيفات لمختلف النماذج والشخوص، مما يدفعنا إلى الابتعاد من مصطلح "التداخل" بين الأدب وعلم النفس للوصل إلى مصطلح "الاتحاد" بين الأدب وعلم النفس.
ولأن الأدب محوره المركزي هو الإنسان بكل تقلباته وتذبذباته ومخاوفه، كان على الرواية أن تغوص عميقًا جدًّا في بنية الإنسان الخفية التي تتستر خلف بعض السلوكيات والممارسات التي توحي بما قد يتوارى خلف الشخصية الإنسانية، من هنا فإن الكاتب حين يرسم شخصية معينة يتقمص دور المحلل النفسي الذي ينطلق من أفكار الشخصية وهواجسها حتى يتوصل إلى مجموعة من التصرفات والأفعال تناسب هذه الأفكار والهواجس وتكون نتيجة لها لا ليعالجها إنما ليُضيئها ويحولها إلى مادة أدبية مركبة.
وبناء عليه، فإن رواية "رجل من أرق" لنبيل مملوك(1)، تركز على الجانب المظلم من النفس البشرية التي تتحكم بها مجموعة من العقد والأزمات وتتبع مراحل تكون هذه العقد وتشكلها بأسلوب بسيط وسلس يشد القارئ إلى البطل ليتعاطف معه، ويعيد تحديد موقفه تجاه محيطه ويقيم المعطيات الواقعية بنظرة تحاكي الإنسان وتحاذي مشاعره لترفع من شأن الإرادة الإنسانية.
أدى الكاتب دور المعالج النفسي لشخصية البطل وغيره من الشخصيات، ومنحَها الظروف الملائمة للبوح بكل ما يختلج في أعماقها من مكبوتات ورغبات لم تفصح عنها في حياتها بدءًا من طفولتها وصولًا إلى عمر الشباب، وأولى للطفولة اهتمامًا كبيرًا وخصص لها الجزء الأكبر من الرواية، وهذه المرحلة عبر عنها فرويد في كتاب (الكبت) بقوله : "العقد النفسية أو بمعنى آخر كل الانحرافات الجنسية التي تظهر في حياة الإنسان مردها الطفولة – ففي هذه الفترة من حياة الإنسان تكون النفس لينة أشبه بالعجينة تتأثر بما يحيط بها من نزعات."
من الناحية السردية، نجح الكاتب في ترك الشخصيات تكشف عن مكنوناتها بذاتها، بحيث كان بعيدًا من التدخل في كلامها وحواراتها، فكان أسلوبه مباشرًا في عرض الحوار، وجعل كل شخصية على مقربة من القارئ حتى يواكبها ويتتبع مراحل حياتها وما تبعها من تأثيرات اجتماعية ونفسية وهذا يعني أن الشخصية هنا تمارس دور الراوي بضمير الـ أ"نا"، تقدم نفسها من دون الحاجة إلى راوٍ يقدمها في السياق الروائي.
 ومنذ بداية الرواية نلمح الحرية التي رسمها الكاتب لشخصياته لا سيما شخصية البطل إذ تسلم زمام الكلام عن نفسه والتعريف بشخصه، فكان هو المحلل النفسي لذاته، استنطقها الكاتب بطريقة تلقائية، فالبطل في مستهل الرواية يقول: "عليك أن تسمعيني... بصوت عال مليء بكل أشكال الغضب وأطيافه، قلت لها ذلك من دون أن أتوخى تلقي أي ردة فعل عكسية، أو مشابهة للفعل الذي اقترفته. في نهاية المطاف، أنا هنا، في عيادة للأمراض النفسية." (ص7)
إلى جانب أننا نلمح تعدّدًا في الأصوات، فكل صوت له أزمته وعقده وتجاربه المريرة والتي أثرت في تكوين الشخصية النفسي والاجتماعي، فالكاتب وزع الأدوار على شخصياته، وكل شخصية أطلقت العنان لأفكارها وهواجسها، وعبرت عن أساليبها في التعويض الخاصة بها، فالبطل في حديثه عن نفسه يصور حالة الضياع وعدم الاستقرار الذي يعيشه: "لجوئي إليك... نعم اللجوء إليك، فأنا أتقصد استخدام هذا الفعل... فعل اللجوء، لأنني عاجز عن إيجاد الملجأ." (ص8) كما عبرت البطلة "نورا" عن تمردها على والدها الذي سلب منها حريتها، وفرض تقاليده عليها: "المهم أنني ساعة الانقضاض على تقاليده، وعلى دينه الأعوج، لمعت في باطني فكرة الرحيل/ الهروب إلى فرنسا، إلى قسم علم النفس العيادي..." (ص25)
إلا أن الرواية أعطت للبطل مساحة أوسع للتكلم كونه محور الرواية، لكنه لم يلغِ مساحة الشخصيات الأخرى، وجعلها متساوية من حيث التأزم، فكل الشخصيات تعاني من اضطرابات نفسية كان سببها الأسرة، وكل الشخصيات استطاعت أن تبرز مشاكلها بمساحتها الخاصة، حتى غدت الرواية معرضًا لمجموعة من العقد النفسية اجتمعت في عمل أدبي واحد. والأصوات على رغم من تعددها فإنها تسير باتجاه واحد، تسلك المسار نفسه، مما يجعل الرواية بها حاجة إلى صراع متوقد يثقل الموضوع أكثر حتى لا تتحول الرواية إلى ما يشبه سرد المذكرات.
 أما عن زاوية الرؤية الخاصة بالكاتب، فنلاحظ أن الكاتب خارج النص الروائي، استتر خلف شخصياته، وابتعد من الأحداث، لذا كان خارج العملية السردية، ذلك أن الشخصيات التي توزعت أدوارها على المسرح الروائي بها حاجة إلى الكلام، إلى البوح بمكبوتاتها، فأفسح المجال أمامها للتعبير عن رغباتها حتى الرغبات غير المشروعة وكأن العمل الروائي فضاء علاج للاضطرابات النفسية عند الشخصيات.
والراوي يساوي الشخصية الحكائية، وفي هذا النوع من السرد: "تكون معرفة الراوي هنا على قدر معرفة الشخصية الحكائية، فلا يقدم لنا أي معلومات أو تفسيرات إلا بعد أن تكون الشخصية قد توصلت إليها، ويستخدم في هذا الشكل ضمير المتكلم."(لحمداني، 1991، ص47)(2).
واللافت في طرح العقد النفسية هو غوص الكاتب في أدق تفاصيل الحياة اليومية التي يمر بها الطفل، والتي لم تكن موضع اهتمام يومًا، وهذه التفاصيل هي التي أسهمت في حفر فجوة عميقة بين الأم وطفلها، بل إن هذه التفاصيل دفعت بالقارئ إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الإنسان وعائلته، كاسرًا بذلك الصورة النمطية للأم والأب بجسارة، ووصل في تصويره للواقع الاجتماعي إلى أقصى حدود الواقعية ليعري المجتمع ويلغي الفكرة المثالية للأسرة، فقد تكون الأسرة أحيانًا هي مصدر لأمراض الإنسان النفسية، "بالنسبة إلى علم النفس، ليس السكن في مكان واحد يعني أسرة واحدة موحدة، فصحيح أن الرابط البيولوجي عامل مؤكد للانتماء الأسري، لكنه ليس شرطًا أكيدًا لتأمين رابط قوي بين أفراد الأسرة.."(الموسى،2017 ص219)(3).
إن ما يميز هذا العمل أن الكاتب رسم لشخصياته أن تكون جميعها شخصيات متأزمة تائهة ومضطربة، كأن القارئ يعيش في عيادة طب نفسي تمر أمامه مختلف النماذج التي عاشت في ظل الانكسار والاستضعاف والقمع، حتى الطبيبة التي تعد مصدر شفاء كانت تعاني من كبت جنسي وعاطفي، وهذا ما أوصل الشخصيات إلى مفترق طرق بين الموت أو تقبل الواقع النفسي والاجتماعي لها، وبالتالي فإن الأمل بالشفاء والتخلص من تأزمها منعدم.
الخط الزمني للرواية يسير استرجاعيًّا بلا انقطاع، مما يبقي القارئ في إيقاع زمني ثابت، وعلى الرغم من أن الكاتب استهل روايته ببداية شائقة، رفع فيها مستوى الشخصية إلى أعلى درجات الانفعال، فإنه سرعان ما انتقل السرد إلى استحضار ذكريات البطل على لسانه، وبذلك دخلت الرواية خط الزمن الماضي، بتسلسل بطيء قليلًا أوقع الكاتب في فخ التكرار، وإن كانت الرواية تقوم على التحليل النفسي للشخصيات - وهذا ما يتطلب عملية إخراج الشخصية لمكبوتاتها -  إلا أن انعدام عنصر الحركة في الأحداث واقتصار السرد على عرض الذكريات خفف من حالة الانشداد إلى القصة، وأخفت وهج الحماسة لمتابعة الرواية.
لكن الإبداع السردي عند الكاتب ظهر بسرد الأحداث من دون التقيد بالترتيب المنطقي لها، إذ إن الرواية بدأت بحديث البطل وهو في عيادة طبية نفسية، ومن هناك بدأ يسترجع ذكريات طفولته، فزمن السرد مختلف عن زمن القصة من هنا أحدث الكاتب "مفارقة زمن السرد مع زمن القصة" والمقصود بذلك: "إن زمن القصة يخضع بالضرورة للتتابع المنطقي للأحداث بينما لا يتقيد زمن السرد بهذا التتابع المنطقي." (لحمداني، 1991، ص73) أي أن المفارقة الزمنية حين لا يتطابق زمن القصة مع زمن السرد.
عند الوصول إلى النهاية، تتكشف أمامنا فجوة بينها وبين البداية وجسم الرواية، فعلى امتداد العرض، تتخذ الرواية منحًا عاطفيًّا واقعيًّا بمواقف تصادمية بين الشخصيات، لكن معالم الرواية تتبدل حين يدخِل الكاتب ملامح من الرواية البوليسية حيث بتنا نلحظ ظهور الجريمة والعصابات والقتل، وهذه الفجوة خلقتها رغبة الكاتب في وضع نهاية مفاجئة للقارئ، فتحولت الرواية إلى رواية غموض لم يتوقعها القارئ مما شكلت حالة صدمة عند تلقيها، وعلى الرغم من أن هذا الأمر مشروع في الرواية، فإن طريقة توظيفه تتطلب نضجاً أكبر وفنية أدق حتى لا يشعر القارئ أنه ابتعد من مسار الأحداث، ذلك أن القارئ يجب أن يهيأ نفسيًّا عن طريق التلميح قبل الوصول إلى النهاية غير المتوقعة.
 كان الكاتب جريئًا في طرح أفكاره حول الأسرة والدين والجنس، وبالغ في الحديث عن هذه القضايا، على الرغم من أن الرواية العربية أعطت الكتّاب والأدباء صلاحية مطلقة في التعبير عن أفكارهم ونظرتهم إلى هذه الموضوعات، فإن الكاتب جعل الجنس هو مركز الرواية وجوهر العلاقة التي تجمع بين الشخصيات، وحددها كوسيلة دفاع وحيدة لمواجهة العقد النفسية المتراكمة، وجعل البدء بعملية التحرر النفسي وذلك بـ التمرد على العادات والتقاليد والممارسات الدينية الضاغطة، وارتأى أن تكون العلاقات الجنسية المتعددة هي النتيجة الحتمية لكل أنواع الاضطرابات الداخلية للشخصيات.
وهذا لا ينفي ما يتمتع به الكاتب من ثقافة واسعة وإلمام كبير بالشؤون السياسية والفنية والفكرية، فلا نكاد نقرأ صفحة حتى نجد ذكرًا للتاريخ العربي السياسي، ولأسماء لكبار الفنانين العرب مع الحديث عن أعمالهم، إلى جانب اقتباسات كثيرة تعود إلى أدباء مغمورين وكل ذلك كان يجري على لسان شخصية البطل الذي يوحي بخلفية البطل الثقافية الواسعة، بالإضافة إلى جانب إلمام الكاتب الكبير بمنهج التحليل النفسي حيث استطاع مطابقة البنية الداخلية المضطربة مع البنية الخارجية المتمثلة بالسلوك والتصرفات.
 
جنى قبيسي: كاتبة من لبنان، باحثة في مجال الادب العربي.
 
الهوامش
(1) مملوك، نبيل (2023). رجل من أرق (ط1). بيروت: منشورات زمكان.
(2) لحمداني، حميد (1991). بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي (ط1). بيروت: المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع.
(3) الموسى، أنور (2017). علم النفس الأدبي (ط2). بيروت: دار النهضة العربية.