أيار 18
حين تلمس خزف الفنان حيدر رؤوف، ينتابك شعور بأنه مسافر عبر الزمن، وصل توا من بابل القديمة خاصة حين تعرف علاقته بالطين والاساطير والخليقة والاديان وعلاقته الوثيقة بالزجاج وصناعته، وعن الكيمياء الاولى التي عرفتنا بعظمة الاكتشافات البابلية، حتى ان اغلبها مازال ساري المفعول باعتراف العلم الحديث، لذا فنحن نتجه الى الحفر في مرجعياته الخزفية والواحه الطينية الى ما اكتشفه في بحوثه المعمقة واشتغاله في عمق تاريخ بابل وهو يلمس طينها في نهر الفرات الذي تنام بابل على ضفتيه منذ فجر الخليقة. معرضه الاخير على هامش الاحتفال بالذكرى الـ 63 لتأسيس منظمة أوبك والذي أقامته وزارة النفط في 2023على ارض معرض بغداد الدولي، يكشف استفادته من معرفة البابليين منذ القدم، عن طريق اثارهم، وان الانسان خلق من الطين وان الحياة الاولى خرجت من الماء الممزوج بالتراب، فتكون الطين الاول، والالهة خلقت البشر من الطين، لذا فالطين له منزلة كبيرة عند البابليين كما جاء في اساطيرهم مثل أسطورة بدء الخليقة، والاساطير الاخرى، لان الطين مادة مطاوعة وسهلة ورخيصة نسبة الى توفرها في الطبيعة، وهذا الطين حمل لنا أسرار الحضارة كلها بالرقم الطينية والكتابة المسمارية، والملاحم والآداب والتعاليم جاءت مثبتة على الواح الطين، وعملوا من الطين التماثيل والمنحوتات وما يدور بوجدانهم وما يمثل عقائدهم، ومناطق وجودهم في الوسط والجنوب هي مناطق سهلية طينية، وحضارة بابل حضارة طينية، والطين مادة اساسية لعدم توفر المواد الاخرى مثل الصخور، ببناء المنازل والمعابد والكتابة على الالواح وصنع الاواني الفخارية المستعملة في الأكل والشراب، لا بل حتى صنعوا اوانيَ كبيرة نسبيا بمثابة توابيت لدفن الموتى وهي عبارة عن جرار كبيرة مجوفة لدفن الموتى كما اثبتت الاكتشافات الأثرية، وأصبح الطين هو كل حياتهم في عقود البيع والشراب والبيوت والمعابد وكافة الاستعمالات الاخرى في حياتهم اليومية. وها هو الفنان المعاصر حيدر رؤوف يعيد الية الفن ولكن بأشكال مختلفة. اضافة الى ذلك كان البابليون متقدمين في أكثر العلوم المهمة، بالرياضيات وعلم الفلك وحتى نظرية فيثاغورس هي بابلية حسب الكشوفات، وعلوم بالجغرافيا ولديهم خريطة تشير الى القطب الجنوبي، وعلوم الصناعات المتنوعة مثل صناعة الصابون والتخمير والمعادن واستخلاص العطور والنسيج، وتطور لديهم علم الكيمياء بشكل واسع، وكل المواد التي استخرجوها من باطن التربة عالجوها بعمليات، من خلال حرق النباتات وتصنيعها، وكذلك الاعتماد على الاحجار والحصى والرمل.
                                                                                                  حيدر رؤوف
 واستطاع البابليون تصنيع الزجاج من خلال الحصول على المادة القلوية من حرق النبات وهي المادة الصاهرة للزجاج وكما نعرف ان أصل الزجاج هو الرمل وهو متوفر بشكل طبيعي في بابل. اما الالوان فانهم صنعوها من النحاس والكوبلت واوكسيد القصدير واوكسيد الانتموني الاصفر الطبيعية وتعدينها اضافة الى جلب بعض المواد من مناطق غرب العراق، لانها بيئة خصبة بالمواد لتصنيع الزجاج ،وكل حساباتهم الكيميائية التي اشتغلوا عليها مازالت سارية لحد الان كما اكد العالم الالماني هرمان سيكر في بحوثه الرصينة التي تدرس الان قد اعتمدت على المواصفات البابلية، بعد ان ترجموا الرقم البابلية في المانيا عثروا على أصل نظرية عمل الزجاج .والمتتبع للاثار البابلية يجد مدونات على الرقم الطينية تحمل خلطات مهمة لصناعة الزجاج ،وهي مطابقة لصناعة الزجاج اليوم، مع اختلاف التسميات .وكذلك طريقة التصنيع لتجهيز الزجاج المتمثلة بالصهر والمزيج والحرارة وتبريد المواد، لقد كانوا مهرة بشكل فائق. والفخار فيه ميزة مقاومة الزمن، لأنه محروق بدرجة حرارة ألف درجة، ونوع الطين والعناية المهمة بالطين وتصفيته من الأملاح وتصفيته من الشوائب ومزجه بمواد غير لدنه، تساعد على مقاومته للصهر، والزجاج بطبيعته مقاوم للظروف الطبيعية، وان ثباتها لحد اليوم يعني ان الخلطات البالية كانت صحيحة وعلمية حتى استطاعت مقاومة الظروف ووصلتنا بهذا الشكل المبهر الناصع. هذه المقدمة التي اشتغل وفقها الخزاف حيدر رؤوف سيما وانه قضى فترة ليست بالقصيرة في اثار بابل جعلته متعلقا لا بحميمية فائقة بالأساطير البابلية ،المروية بسرد قصصي مشوق يحمل اهدافا سامية ،عرفنا من خلالها تفسيرهم للظواهر الوجودية ،والالهة وعلاقتها بالبشر، وان هناك الهة كبارا وانصاف الهة، واجتماع مجلس الشورى، تقرر مصير البشر والملك كيف تؤخذ الشرائع ،مما اتاح له التعايش مع الاسطورة وتخيل وجودها والاقتراب من عالمها الساحر، مثل اسطورة دموزي ونزوله الى العالم السفلي بعد ان غضبت عليه الالهة عشتار وكيف يخرج من جديد ،في اسطورة تشير الى دورة الحياة بين الشتاء وعودة الربيع بنباتاته اليانعة. كل ذلك جهد في تجسيده بأعماله، مستلهما الأساطير البابلية الخالدة. الاساطير التي نقلت لنا جغرافية المكان وطريق عيش البشر، وطريقة تفكير الكاتب في ذلك الزمان وعن كيفية تفسيره للحياة التي عاشوها. هذه المعايشة جعلته ينظر الى الانسان ،وكأنه يعيش زمنا متشابها، لان الانسان على مر العصور يخاف من الظلمة ومن الصوت العالي ،ويرعبه المرض والعوارض الطبيعية ،لذا عمد البابليون الى اختراع الالواح بصيغة النذور بألوانها الفيروزية ،فكل بابلي حين يريد تحقيق مايريد فانه يذهب بلوحه وقد كتب عليه(مراده) ويعلقه بالمعبد ،املا في تحقيق مطلبه، اذن هي نذور واماني مؤجلة يتمنى البشر تحقيقها ،وهذه الحاجة موجودة لحد الان ويعمل البشر على طلبها باساليب ليست ببعيدة عن اساليب الواح الطين القديمة ،وايضا لجأ البابليون الى خزن الوثائق في مكان مقدس امين ،مثل عقود التجارة وعقود البيع والشراء ،واقدس مكان لديهم هو المعبد ،هذا الموضوع اصبح من المواضيع الاثيرة لدى رؤوف ، لان الرغبات باقية وامل تحقيقها موجود ايضا، اشتغل عليها بطريقة حديثة خاصة في جانب اللون وبعض الحركات الجديدة ،وملمس اللوح كذلك ،ساعيا الى الوصول للمشاهد ،بنظرتين الاولى ان هذا اللوح قريب من بابل والثانية انه لوح حديث ومعاصر ،فهو لا ينسخ اللوح القديم بل يصنع لوحا معاصرا يشير الى مواضيع الحياة الازلية ،فما كان يفكر به الانسان القديم ،موجود لحد اليوم، ويسعى الإنسان المعاصر الى فك الرموز واضافة اجوبة جديدة ازاء الاسئلة التي تمتد الى ما لانهاية في الكون الواسع. كل ذلك نجده مجسدا في اعماله الحديثة بألوانها وتزجيجها، والتكوين المعاصر الحديث الذي يشير الى الامكانية الكبيرة في تخليق اشكال نذورية معاصرة برموز بابلية وحروف سومرية، ومن الملاحظ ان الفنان حيدر رؤوف حين يشتغل على الجداريات البابلية او الاشورية فانها بأحجام كبيرة تضاهي الموروث التاريخي، اما الخزف المعاصر فانه باحجام فنية صغيرة او متوسطة تصلح للعرض في القاعات الفنية، لأنه من المعروف ان الخزف يمتاز بثقله نسبة للطين المفخور بكتل كبيرة. الفنان حيدر رؤوف يزين جدراننا بتحف بابلية تمزج بين التاريخ القديم والاشارات المعاصرة، مطوعا الطين بحرارة الابداع ليبقى حارسا لبابل حريصا على الارث والابداع وحافظا له من الاندثار.