أيار 18
     إن كتاب (إلى أين أيتها القصيدة؟) الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة للشاعر والناقد والأكاديمي الدكتور علي جعفر العلاق له سمته الخاصة، وهي سمة عملت على تغيير فكرة راسخة لدي في أن السرد السيري في ادبنا العربي عادة ما يخلو من الإثارة والجذب لارتكازه على احداث واقعية تخلو من المتخيل الذي يأخذنا إلى عوالم سماوية في الأدب، والسحر المفرداتي الذي يصنع الدهشة في اذهاننا؛ ذلك ان هذا الكتاب يشد المتلقي ويجعله ملتصقا بصفحاته وأجوائه وغير قادر على الخروج من دائرة منطلقاته بسهولة ويسر بما يتمتع به من الأسلوب المتقن لأدواته، والاداء الفني والتحليلي الرصين وما تتسم به لغته من جزالة العبارة وبلاغتها التي ساهمت بإضافة بعد أدبي جمالي متفرد، جعل من الكتاب ذا قوة جاذبة ومغرية، ومحفزة للتلقي غير المشوب بدواعي الملل، الذي يتسرب عادة في مثل هكذا مواضيع من خلال التفاصيل التي لا تقدم للقارئ ما يثير رغبة المواصلة في فسحته المعرفية، وهو بذلك علامة مضيئة في احداثه وطريقة سرده ومختاراته الذاكراتية من قبل المؤلف البارع في انتقاء ما هو مهم ومؤثر وضروري  للقارئ السيري.  
ما نقرأه سيرة مختلفة وشيقة، ليست سيرة ثرثارة ولا يتخللها الاسهاب والاطالة، فصاحبها لا يسجل فيها إلا الملفت للنظر والمشوق، وهو يقلل من الحكي عبر خط مستقيم لا حياد عنه من الولادة والطفولة إلى الشباب والشيخوخة، فيما عدا تركيزه على فترة نشوئه ضمن العائلة وحيثيات انتقاله من احدى قرى الكوت إلى بغداد، وبعد ذلك أخذ يقفز في سيرته بين فترة واخرى بخفة ورشاقة، يسجل ما يفكر فيه دون أن يهتم بالتتابع الزمني وهو يركز على الجمع ما بين السيرة الذاتية وظروف التجارب الإبداعية للمؤلف، فضلا عن نماذج من ابداعاته التي يتخللها حضور للنقد الادبي على نحو مضمر خفي، وقد اتبع العلاق سبلا لذلك فكان  يقف وقفة مع معلم تمنى له ذات يوم وهو في الصف الخامس الابتدائي أن يكون من ذوي الاقلام ووقفة مع أول لقاء له بالفنان وديع خونده وهو مازال تلميذا ليطلب منه أن يلحن له اغنية كتبها بنفسه كي تغنيها زوجته المطربة مائدة نزهت، وغير ذلك تعرفه وهو في المرحلة المتوسطة على الشاعر مظفر النواب ليأخذه من دون أن يدري إلى جوهر الشعر فيتحقق من أن لغته العربية هي وقوده القابل للاشتعال في أية لحظة، وكيف أن الحديث بها والكتابة بحروفها يشكل حلم لذيذ لا يفارقه، فعمل على تفعيل مؤونة ذلك الحلم لتكون بداياته وهو ما زال يافعا في المتوسطة والثانوية وينشر قصائده في ( العاملون في النفط وألف باب والأديب البيروتية والاقلام والشعر المصرية) باحثا عن شكل شعري لائق بما يحمله في داخله من الاحتدام والتوتر البليغ الذي شعر به جبرا ابراهيم جبرا في بداية تعرفه عليه.
وعندما تأخذنا نزهة الكتاب نحو بساتين أزاهيره الوارفة بالمعرفة نجد انفسنا نتعلم الكثير وهذا التعلم يرشدنا إلى أن الصحافة والادب والعمل الاكاديمي يمكن أن يتعايشوا في بيت واحد، وأن اقرب عمل لروح الشاعر هو العمل في الصحافة الأدبية وهي لا تؤثر أو تتأثر إن زاول صاحبها الاشتغال الاكاديمي وتمرس على تكرار الدرس لطلابه بعد أن حافظ على تجدده المستمر والمتواصل المستند إلى نبض الحياة والناس في مران ولياقة لا انقطاع فيها وهذا يعني أن عمله في الجامعات لم ينسه مخيلته الإبداعية التي انطلق منها وهو محمل بالحماسة قابضا بقوة على خامة الكتابة وعارفا بنسيجها وتداعياتها، وهذا يتضح من عنوانات الكتاب التي اختارها بدقة ووزعها بطريقة احترافية وعمد ايضا إلى تكثيف مادتها الادبية لتستوعب ما يقدمه من حكايا وأخبار ومعلومات تاريخية عمد إلى ذكر أهمها وأكثرها كشفا وإضاءة لجوانب شخصيته، ولا بد من التنبيه هنا إلى ضرورة ألا يفهم القارئ أن هذا الكتاب هو كتاب في التأريخ، وان كان فيه شيء من تأريخ وأحداث، يؤرخ فيها المؤلف للمحطات الفاعلة في حياته وكان يقدمها بأسلوب اشبه بالأسلوب القصصي المليء بالمعايشة الإنسانية وهو يذكر اسماء مهمة وشخصيات لامعة أدبيا كان على تماس متين معهم يجمعه واياهم حياة متدفقة تجعله ينقل انطباعاتهم الوجدانية ويعبر عن عواطفهم ويعطي صورة عن اسهاماتهم التي قامت بدور فاعل في اغناء الثقافة العربية وفقا لما كانت تملكه من إبداع في مجالاتها المختلفة، وفي هذا الكتاب معالجة لفن السيرة كجنس أدبي، يجمع بين السرد القصصي والتأريخ والنقد الصريح للمواقف والاحداث وتشخيص الضعف والهوان وكشف الخبايا بما يخدم النص، إلى جانب كل ما يحيط بالشخصية من افراد لهم خصوصيتهم، ولهم ان يمثلوا سيرة أجيال من الأدباء مازالوا يعيشون ويتحركون على هذه الأرض، يتوارثون الهموم، والإحباط، ونحن ربما لا ننتبه إلى انهم قد يكونوا منسيين في اغلب الأحيان، متوارين عن الأنظار، غارقين في لجة عميقة من أحلامهم وطموحاتهم المتحققة أو المنكسرة، وكان للعلاق ما يربطه معهم كما ذكرت علاقة صداقة شخصية أو أدبية أو علاقة زمالة لها بعدها الايديولوجي، فالبعض منهم كانوا شعراء له في نتاجهم رأي ودلالات أمثال أدونيس وحسب الشيخ جعفر ومحمد الماغوط وحميد سعيد وسركون بولص والبياتي وفوزي كريم وبلند الحيدري وسعدي يوسف، وكان هناك ذكر للادباء الذين تعرف عليهم في مهرجانات المربد وتوطدت علاقته بهم عن طريق السفر امثال كمال ممدوح وفاروق شوشة وإبراهيم أصلان وفؤاد بدوي وسامي خشبة ويحيى الطاهر عبد الله ومحمد ابراهيم ابو سنة وجابر عصفور وصلاح فضل وعز الدين إسماعيل وهناك من كانت له معهم علاقة مهنية ووظيفية الى جانب الوظيفة الثقافية امثال الدكتور محسن الموسوي وعبد الرحمن الربيعي وياسين طه حافظ وعبد الجبار البصري وغالب هلسا وخيري منصور ومحمد عفيفي مطر ويوسف عبد المسيح ثروت وحاتم الصكر وحسب الله يحيى وعائد خصباك، وممن كان لهم الدور الاوفر في ع442لاقاته معهم وهم ادباء من خارج العراق  الدكتور عبد العزيز المقالح، وكمال ابو ديب والدكتور ابراهيم السعافين وهناك اصدقاء جمعه معهم العمل خارج اطر الثقافة ولكنهم على درجة من الوعي والمتابعة لنتاجه ومنهم سفيان الخزرجي وخالد الداحي ومحسن الكيلاني وغيرهم الكثير فالكتاب يحفل بأسماء وشخصيات مختلفة.
 .
المؤلف وبوعث الكتابة
1ـ القراءة وبناء العقل الإبداعي: يعمل العلاق في هذا الكتاب على خلق تواشج فكري مع القارئ فيجعله يدرك مآلات نتاجه الإبداعي كي يكوّن تصورا عن شغوف تطلعاته وقراءاته وكيفية نمو بذار الكتابة لديه، إذ لا توجد كتابة أدبية متفردة دون قراءة نهمة تستوعب كل شيء ولا تتحجر أو تتقوقع عند قراءات بعينها، بهذه القراءة الحرة يُبنى عقل الكاتب، فحينما يستوعب هذا الكم من القراءات وتستقر في اللاوعي، ستخرج في هيئة كتابات تختلف بطبيعة الحال عن المادة الخام المتمثلة في القراءة، وعن بناء العقل الإبداعي الخاص به يقول المؤلف " كانت الستينات مشهداً ثقافياً وإبداعياً بالغ الغنى والحيوية. وكنا أبناء ذلك الجيل، متعطشين إلى القراءة بشكل عصي على الوصف. كتابات طه حسين، ومحمد مندور، ومحمد غنيمي هلال، ومحمد النويهي تشدّني أكثر من سواها؛ فقد كانت تشكل أفقاً ألامس من خلاله ما تبتكره مخيلة العالم، وعقله. ثم لحق بصف هؤلاء العمالقة جيل لا يقل تميزاً عنهم، ومن أعمقهم نبرة: عز الدين إسماعيل، وغالي شكري، ومحيي الدين محمد، ثم جابر عصفور، وصلاح فضل، ومحمد عبد المطلب الذين يمثلون اندفاعة جريئة قربت النص العربي من ضوء المناهج الجديدة ومقتربات التحليل غير المألوفة". (ص118 من الكتاب).
إن لكل كاتب بواعث تؤصل موهبته وتستجلي طقوسه وهو يكتب أو ينظم الشعر ولذلك اعتنى العلاق بالكشف عن اسرار قصائده وبدايات نبوغه الشعري، وهو ما اوصلنا بداهة إلى طريقته فهو يتعمد استخدام النمط التجريبي في استعمال اللغة وفي ذلك يقول: " أنني كنت أسعى في بداياتي وبهوس أحياناً، إلى كتابة قصيدة في إطار الوزن العمودي لكنها مختلفة، بل مشاكسة لما هو مألوف حتى داخل النمط العمودي نفسه: محاولة للإفلات من العروض إلى اللغة ومن الذهن إلى المخيلة. أعني من صلابة الوزن وجفاف المنطق إلى ليونة المجاز واندياحه. وقد أحسست أن تجارب شعريةً كالتي كنت أكتبها لا تجد الإصغاء الذي تستحقه في ذلك الهرج الستيني الصاخب الذي يستند في الكثير من مكوناته إلى الإعراض، حقاً أو باطلاً، عن كل ما يمت بصلة إلى الموروث الشعري".
لا بد من الإشارة إلى أن العلاق يعي جيدًا الطريقة التي يريد رسم عوالمه بها كتابيًا وأن يختار لكل عالم طريقته الخاصة، ولذلك هو لا يلبث أن يتحدث عن ايام اشتغاله في مجلة الاقلام بمنصب رئيس التحرير فيها ويذكر من ارتبط بهم ارتباطا مهنيا وشخصيا من كتّاب وشعراء وكان اولهم عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وغيرهم ممن استطاع أن يخلق معهم جوا للصحافة الأدبية يجعلنا نستشعر حيثياته ونحن نقرأ الكتاب وهو لا ينأى بعيدا عن ذكر رؤاه وأفكاره التي تخدم النتاج الادبي فيقول :" أحسست بعد انتقالي إلى مجلة الأقلام أن كابوس العمل الوظيفي قد ولى، لا سجل تواقيع ولا أختام ولا دفاتر حسابات. تعرفت في عملي الجديد على أسماء كبيرة مثل عبد الوهاب البياتي، سعدي يوسف اللذين كانا عضوين في هيئتها الاستشارية. وكانت هيئة التحرير تتكون من عبد الجبار البصري رئيساً بينما كان عبد الرحمن الربيعي يعمل سكرتيرا للتحرير. ثم اتسعت هيئة التحرير. يوسف عبد المسيح ثروت، غالب هلسا، وخيري منصور ومحمد عفيفي مطر من أهم الأسماء التي عملت في مجلة الأقلام، ما زلت أتذكر غالب بدفئه الطفولي وثقافته المستنيرة وعينيه الحائرتين دائماً، كما لا يمكنني أن أنسى خيري منصور، فقد كان عالماً قائماً بذاته، كان شاعراً في كل شيء سلوكه وكتاباته، وأحاديثه. كانت لغته، داخل نصوصه وخارجها، تنم عن ثقافة واسعة، وشديدة الحيوية، ولا تخلو من إيماءات حسية ماكرة على الدوام. أما محمد عفيفي مطر فقد كان يبدو دائماً، وكأنه نسيم يتناهى إليك من أودية الماضي، وما فيها من خضرة وعمق. كان رغم كثافة شعره المشتبك بالرؤى والإحالات موغلا في نبله وشفافية روحه". 
إن القراءات المتشعبة والثقافات المتطلعة نحو قمم التنوع الفكري تنتمي إلى أزمنة وحضارات وأماكن مختلفة، وأكثرها لا يوجد بينها روابط متينة، لكنها في العقل الذي يستوعبها تنصهر وتذوب فيما بينها وهذا يثبته ما قاله العلاق عن اشتغاله في الحرم الجامعي فله وقفات جميلة واحساس مفرط برهافته يصفه لنا فيقول:" أما التدريس الجامعي فيشكل فضاء رابعا يكمل الفضاءات السابقة ويكتمل بها. إنه احدى متعي الكبرى. اعتدت أن أجد في محاضراتي المبكرة، ما أجده في مطر صباحي يتنزه في مدينة نظيفة. ولأنني اختار الصباح دائماً وقتاً لتلك المحاضرات، فإن هذا التشبيه لا مبالغة فيه. كنت التقي، كل يوم ببدايات نهار يندفع أمامي مشوباً برائحة الحبر وهواء القاعة، أنا والتفاصيل التي تتكرر باستمتاع لا ينفد.
إصبع الطباشير تتآكل، دون ملل في كل لحظة. جيل متلهف يتشكل امامي كل يوم. بينما تتنقل عيناي الغائمتان بين همهمة ممتعة وسماء ترتفع وتتسع آخذةً معها بعضاً من صخب الناس أو غبارهم الخفيف. وأنا منصرف بحماسة وفرح إلى الكتابة، وما تقتضيه من احتشاد وطقوس لا يمكن للكاتب العيش، متناغماً مع ذاته، بدونها". (ص231 من الكتاب).
للعلاق آراء مهمة كثيرة كان مبعثها ذلك التنوع في الكتابة الذي يتطلب معرفة رحبة بأشكال التعبير المتباينة، ولا يتوقف عند شكل بعينه، بل يعدل بين الأشكال الفنية بحسب ما تقضيه طبيعة الموضوع، وهذا ما فعله مع كل عمل قام بكتابته، كما صرح بذلك في ثنايا الكتاب.
 
معرفة الكاتب لذاته
إن ما يخبرنا به هذا الكتاب له دلائله التي تضفي اعتقاد راسخ بأن الأديب الذي نحن نطالع سيرته هو من الأدباء المؤثرين، إذ يتضح لنا جليا أنه صاحب نفس مرهفة، لا تفكر في الصراعات والدسائس وانتهاز الفرص واستغلال الناس والكيد للخصوم، إنها ذات حساسة تؤثر في الناس وتوجههم من خلال تعزيز المثل العليا فيهم وكشف الواقع من حولهم؛ فالأديب لا ينقطع عن واقعه ويتعالى عليه، وأيضاً لا يعرف أن يستحوذ عليه، وبالتالي فإن من يريد أن يصبح كاتبًا عليه أن يعرف أي طريق عليه اختياره.
هناك إشارات تبين توجهات العلاق ومواقفه وإحساسه بما يحيط به مجتمعيا وسياسيا وإن كانت إشاراته لا تتعدى بث مواجعه وتفاعله مع الاحداث لكنه ينقلها لنا بطريقة تجعلنا نتألم ونشعر بالأسى ولكننا نلتذ بما نقرأ ونتماهى مع عمق الفجيعة ومن ذلك ما كتبه عن يوم دخول الاحتلال الامريكي للعراق من دون ان يذكره بمسمياته صراحة لكننا تنبهنا انه يتحدث عن فجر هذا اليوم عندما ذكر انه عام 2003.
وفي جانب آخر من الجوانب التي تطالعنا وتترسخ بشكل قاطع لدى المتلقي عن شخصية الكتاب هو حرصه على اقامة صداقات حقيقية لا زيف فيها، وكانت من الامور الملفتة للنظر على مدار صفحات الكتاب في داخل العراق وخارجه وهي صداقات لها بعدها القيمي على المستوى الشخصي والادبي والمهني ولم تكن علاقات عابرة أو هامشية وهي تعبر عن وشائج مألوفة لدينا، فالمهموم بالثقافة ليس له من علاقاته الا أناس لديهم الاهتمام نفسه سواء في الوسط الأدبي أو الجامعي، وكان ينقلها العلاق في لحظات ترتبط بمناسبتها ووعيه بأهميتها وشعوره إزائها برغبة التحليق عاليا ليضمنها وجدانه بمحبة ووفاء في تجربته الكشفية الصادقة هذه ويثبتها بأمانة المؤرخ الأدبي المسؤول، وبتحليل الناقد المدرك لأهمية عمله، كما يضفي عليها انطباعاته  الخاصة وتحليله السايكولوجي المستقل من خلال ملاحظاته وتتبعه لمسار كل شخصية منفردة بظروفها ومصيرها في الحياة ولأن المؤلف، كما أشرنا، عاش مع بعضهم فترة صداقة حميمية وسنين من الصحبة الأدبية، فقد اكتسى حديثه عنهم مسحة عاطفية، تميزت بحرارة التعبير وعفويته .
 
 خلق المتلقي الإيجابي
إن كل ما سبق من حديث عن التكوين الفكري للكاتب، وبحثه عمّا يريد أن يولد أعمالا عظيمة يتوارثها الأجيال بالقراءة والبحث هو سعي جاد للإفصاح عن اهم المحطات الناتجة لصرح الكاتب وانتاجه الثقافي وهو امر تمكن منه بجدارة، ولكن تبقى الحياة الواقعية وأحداثها هي باعث الكتابة الأقوى لدى العلاق ومن اهم مرتكزاتها تنشئة ذلك المتلقي الذي يقرأ ويناقش ويستنتج أشياء حول حياة الكاتب من طبيعة كتاباته واختلافاتها، ويجعل المتلقي يصدق على كلامه ويتفاعل معه، بل جعله يشيد النص معه وهو يتنقل به من مدينة إلى اخرى ومن عالم إلى آخر وهو يشحذ خياله وكأنه يسوقه معه، فالعلاق له تنقلاته ما بين بلده العراق واليمن ومصر وبيروت وستوكهولم، ولم يكن احساسه بالمدينة اقل وجدا من احساسه بالناس والمقربين إليه، فكان يصف كل مكان يذهب إليه بطريقة حميمة وذات مسحة تناسب موجوداته بدءا بمدينته الام ومرابع طفولته في الكوت إلى بغداد وصنعاء والقاهرة وغيرها من المدن التي لم يكن ذكرها لديه بدافع الترف والزهو والافتتان بكثرة تنقلاته،  بل للاستزادة من ملح ذلك التواصل معرفيا قبل كل شيء ومن ثم اجتماعيا وسيريا وقد ضمن كل ذلك نقلا امينا لحيوات وتقاليد واجواء الناس بأسلوب بارع  ولم يخلو كل ذلك حتى من النوادر والكلام الطيب المحبب والمفيد، ففي صنعاء نقل لنا عادات المقيل وهو مكان يلتقي فيه اليمانيون ويشكل مرآة عاكسة بحيوية فائقة لوعي الانسان اليماني ونباهته وموقفه من الحياة والناس والسلطة واحداث العالم ومن النوادر ما ذكره العلاق في هذا النص " كان مقيل الدكتور عبد العزيز المقالح يعقد، أحياناً، في شقة أبو ديب نفسه، إذ كان يعيش وحده في صنعاء وذات لحظة من الجميل، سألني إن كان لي طفلة أخرى عدا وصال وخيال. ولما أجبته بالنفي، قال وعلامات الدهشة المفاجئة تضيء عينيه الفرحتين: وأنا كذلك. عندي ابنتان فقط: أمية ورهام. وقبل أن أسأله عما يترتب على هذا الاكتشاف، قال إن لديه نظريةً يتأملها منذ فترة: كل مبدع له ابنتان! لكن ذلك يحتاج إلى مزيد من الإثباتات.
 - قلت له وكأنني أضيف له دليلاً جديداً: أدونيس له ابنتان.
قال: والماغوط لديه ابنتان أيضاً.
قلت: وممدوح عدوان كذلك.
وظللنا نتبادل الأدوار كلما أضفت له اسماً جديداً، أضاف أبو ديب اسماً آخر. وهكذا كان يزداد فرحاً بنظريته مع كل اسم يضاف إلى القائمة!
قلت له، لأضاعف من غبطته: وفلان أيضاً.
وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد ذكرت له أحد الأسماء النقدية المعروفة، ولم أكن أعرف أن بينه وبين صاحب الاسم نفوراً بنيوياً متبادلاً. انطفأ كمال أبو ديب فجأة، وهدأت تلك البحّة المميزة في صوته الغائم
ليقول: خلاص، لقد ضاع كل شيء، ضاعت النظرية. قلت له، في محاولة للعودة بالحديث إلى طابع الممازحة: إنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
-  ضحك ضحكة خافته".
ولأختم اشتغالي هذا بوصف جميل على لسان العلاق لأحدى المدن حيث قال: "كان الشارع الملتهب بالأضواء والغبار يقذف بي إلى صنعاء القديمة طين دافئ يلوح لي بعطره القديم من البيوت القائمة، ونسيم ذو ملمس خاص يتسرب إلى شقوق الروح فيغمرها بالبشاشة تارة ووحشة التأمل تارة أخرى. صنعاء القديمة ليست أبنية تعود إلى الماضي، أو تذكر به، بل هي ماض ممتلئ، يكشف عن مكنوناته للنهارات الجديدة وصخبها المربك. وهي ليست ماضياً هاجعاً هناك، دونما حركة أو إيماءة. بل هي على العكس من ذلك كله شحنة من عذوبة الماضي وحكمته وفوضاه، تندلع في تفاصيل الحياة اليومية مثلما النار، أو الماء، أو دبيب الرغبة".