أيار 18
نزهة الصباح في الشوارع
 
  تلاحق المؤسسات الاجتماعية للسلطة الرمزية التي لم تغب، بل حضرت للسلطة وتمركزت. ونتاج تمركزاتها هو الشعرية التي تصفع بقوة تضاهي قسوة السلطة، وهذا ما يعرفه الشاعر صلاح الحمداني.
أساطيره مواليد الرمزيات والمجازات، بعد أن استلها من موانع موضوعية وتخلفها بشفافية الله، وليونتها التي تمنح تعددات المعنى الذي هو الحلم بلا أعمدة تخيلية ثقافة السلطة المطاردة للمعنى الفائض بالهايبتوس ملاحقاً شرودات مع بروز ما يسببه الانتصار على الخذلان المعروف في حياة المنافي.
نعم حبيبي
الصباح يتفسح في الشوارع
وأنا لم أنعس منذ سنين
انزعي غضبك
وألقيه مع ملابسك على عتبة الباب
ودعي نهديك يرتخيان
واتركيني اقتحم شهواتك محصناً
بمرارة الفراق
حلم تخيلاته صادمة وفيها ارتعاش صادم. يبرق بالتوسل والنداءات السرية، تبث للأنثى الجوع المكتوم منذ بدء تاريخ الذكورة. هو يشتهي يقودها ويغويها نحو الصحراء، حتى يتعرف جيداً على لفحات الشمس للجسد المبلل برائحة الاشتهاء، يقودها ويغويها ويضم كل ما تمتلك بين ذراعيه وهو يتمدد في ظلال الصحراء. يغني لها وترقص هي مضمومة كلها له، تعطيه ما يشتهي وتعطى ما تريد هي، تفوح رائحته، وبلل الجسدين يعطيان فور اللذة ويفقد كل منهما سيطرته على ما يحب، يتدفق المخزون وتصير الصحراء أجمل وذات شعرية كالغناء والرقص والحنين.
سيأخذه الارتعاش نحو النعاس، لأن الأنثى خلعت غضبها وتدفق الفرح المحفوظ في طيات الجسد المبللة.
يريد من الانثى أن تتجلى كالشجرة في خريفها، تنزع كل ما عليها وتتعرى كي تبدو أجمل وأكثر اثارة للاحتضان عند عتبة الباب. النداء دعوة للمعشوق، من أجل ارتخاء نهديها. ويبث شفرة وقحة تعلن جنون العاشق الصحراوي الذي انقاد مغوياً حتى يتوسل بها لاقتحام شهواتها محصناً بمرارة الفراق.
"لماذا كانت امي تبكي كلما جاء المساء"
الجغرافيات ضاجة بالسرديات وحافظة للتواريخ مع كل ما اختزنته والصحراويات هي المستكينة والمتخاذلة لحظة غروب الشمس وابتداء انكسارات الانثى. لان الغروب يستدعي الاستذكار وحضور الغائب، الأب الذي فقدته الام، والمساء تفعيل لجسد الأنثى يحرك الشحنات فيه ويذكر باشتهاء الغائب.
المنفى في الأنثى عظيم وجليل، يعطي الفحل شعريته الضائعة عن طريق حضور متخيّل، يولد في جسدها استذكارات واستعادات تمارسها على وفق ما اعتادت عليها المرأة التي اختزنت منذ البداية مهمة تطويع الجسد الانثوي على المران واللعب في حلم مبلل الفخذين ويمنح المتخيل طاقة التقاط الصور التخيلات للانثى العارية، والملتمة بثوب لونه المساء بألوان مبرقة من تحت سترة الحلم الفردوسي، بعد تساقط أجنحته، لأنه مكتف بعمود واحد، يستند اليه كي يقف طويلاً.
حيث اغوتني الانثى برائحة جسدها وقادتني طبعاً، ليناً ومرناً، مستعجل، مهوساً لالتقاط حلمي المبثوث برائحتها المنثورة كأنها الهواء الصحراوي الغروبي. اعطيت لها ما اريد وأعطتني حلم الاعمدة وتواسدنا معاً، ذراع كل منا وسادة الرخاوة والغوص بلذائذ الاحلام وغفونا في ظلال المنفى الصحراوي.
ماذا سيفعل هذا الجسد؟ ما سبب حضوره والاخرين غياب؟
كيف ستبدو الرجولة لو لم ننسخ بعري طفولتها
ابي وحده يمتلك ربما جواباً على السؤال
لكنه مات ولم اره
بقيت امي
تعودت على غيابي
تعرف الوقوف على ساق واحدة في السّراب مثل النعام
التقط نثار أحلامي بالمتبقي والملم ما اريد لها من تأويلات، هي الانثى التي يطاردها الشاعر ويغويها " ماذا سيفعل هذا الجسد؟"
لكن الحالم يتساقط مدفوعاً وراء بلل ظلال الشمس المنكسرة على رمال اكتاف وديان الصحراء. الريح صحوة الفردوس، وجسد يقف متباهياً بذكورته، تهرب الانثى بعيداً، لكنه يصطاد رائحة جسدها ويغفو عليه ثقيلاً وعميقاً.
قادني صلاح الحمداني بكلماته المرتجفة وهي تقف وجلة وسط المساء لتقرأ رسائل لمن غاب مطروداً ومنفياً. ولا ينسى عودته لفراشه كل مساء بملابس بيضاء، تفوح منها رائحة انثى مبللة بعطر الانوثة وكلاهما يستفيدان ما اعتاد عليه من سرديات تأخذهما نحو الغواية وهما يطلقان سردية واحدة تتعالي منها النكته التي هي سردية الانثى، التي تقف مندهشة امام ابواب البيوت المفتوحة، على امل عودة الغياب من حروب كلها خسارات.
لغة صلاح الحمداني هي قاموس الكتابة التي تعيش مثل الكائن، تعطيه وتاخذ منه لغة صباح بيت العالم، ولان هايدجر يعني بالكلمة وسيطاً تبادلياً وتواصلياً بين العاشق والانثى، بين الفرد والجماعة وهو الشعر المرتفع متسامياً بعلم الفنون معاً، وبدفقة واحدة، الشعر والغناء / والرقص / والانشاد وفي هذه البؤرة يلتمع الاصل البدئي او البكري الاول الذي وجد بين الشعر والغناء والرقص.
المساءات ازدحامات بما سجله التاريخ من مدن لا معقولة، ومرويات لها اسطورية، تتسع فيها مرويات شهرزاد، بمعنى استدعاء الشرق وشفاهيته بإيقاع هادئ، فيه رنة لونها ازرق ... الشرق ازرق تركض نحو، شهرزاد وتختار لوناً لجسدها النشوان الذي تحن لمتع الاوقات كلها.
الجوع حنين لتسالي الليالي الباردة.
" تعري نهديك معاً، حينما فهمت أنى وصلت الى عمر يجعلني لا أدرك ان ربيعي كان بائساً" النافذة فتحة، ورمز تقوى دلالته، هي مقترنة بالأنثى التي شكلت طاقة منها. كلاهما الانثى والنافذة يركضان نحو المساء. يومئان لفراش متروك والنافذة أكثر الرموز توظيفاً بالشعر في تجربة صلاح الحمداني والبريكان ورعد عبد القادر وسعدي يوسف وصادق الصائغ الذي كتب نصاً شعرياً كونياً شحنه بالايروتك وكلما قلبته القراءة كشفت طبقة معان جديدة. النافذة هي الانثى الصامتة والفكر يتسلل اليها. لكن الحمداني اختار نافذة الغريب التي يسطو منها على المختفي وراءها.
النافذة مشرعة، والمرح على ما يبدو متضائلاً في هذه المرآة المعلقة على الحائط. لطخات من الشمس فوق مناشف رمانية اللون. اوان مذهبة يعتلي فيها هواء مصنوع بأطر تمسك نعومة النور.
فضاء مكشوف، ممتد ومتسع، النافذة واسعة تحتضن ما هو مرئي. ويطفر الرمز الجنسي الممتد على مناشف ذات لون احمر وتعرية الصدر اعلان رغبة جامحة ولا تقاوم وتتجاور مع النافذة المشرعة، حاضنة لنهدي الانثى. أكثر رمزيات الاثارة في الجسد الانثوي، يمنح ويعطي ويحفز، وتظل رمزيات الرجل يقظة لان صدر الانثى مفتاح التسلل نحو الخصر والنزول، حيث ينتفض اقتراب اللذة. وتتضح رموز صلاح الحمداني وكأنها مخلقة بذكاء عبر امتدادها معاً، من اجل اشتغال الجسد وتوفره على الفوران.
النافذة رمز أنطولوجي تتسع الكونيات وانظمة الخصوبة ولها حيوية الحضور في المنفى حيث يمنحها المنفي كل ما هو عالم به، لان الكلمات في كتابات صلاح الحمداني تحوز صفة الشعرية وتتغير.
صباح الخير يا أمي / النهار يتدلى على النافذة / صباح الخير يا امي / اراك تتأرجحين بصحوتك / واملك قد اوقفه الحراس الليليون / وحدها خرز سبحتك تطقطق في عتمة الرواق
نهار جديد افترشت الشمس السماء والأرض عندما استيقظ الابن وهلل بالخير على صباحها الجديد الذي يشف عن حياة فيها اختلاف، والصحوة تتأرجح على جسدك، صامتة انتِ تداعبين مسبحتك وخرزاتها تطق، ليست لعبة، بل طقس ديني تتفاعل فيه الأحزان والانتظارات الطويلة للاب الغائب الذي تتكوم بسببه الاوجاع والاحزان المسائية. لحظة الام الموجوعة والابن المدفوع نحو المنفى، لكن الام مع تهاليل الخير باقية بالألم ومراثي غياب الأب وثوبها الرامز على التشارك بالغياب، ثوبها المنقط بورد الحداد. لكن وجهها المضاء بالشمس وخيرات الصباح تراكم التراب على وجهها. وهي مرتبكة باستمرار ملء الحياة. لكن الابن يكرر سؤاله معبراً عبر كل الأسئلة على صعوبة حياته واختباراتها. لكن تظل الأسئلة متكررة لأنها تمثيل لأنطولوجيا الحياة: ما هو شكل صباحك الآن؟ هل نمت بما فيه كفاية كبار العمر؟
هل حلمت، اية سورة قبل النوم قرأت؟
أنا أتذكر ابتسامتك
مع هذه الغيوم المشدودة بالحائط
وأتذكر ضياعي
وأهدابي المبللة بالغبار
في لحظة وداعنا الأخير
حلمي ثقيل يا امي / ص42
 
لا نافذة لديه غير المتخيلة. انها لا تكفيه كي يرى الام / التي غاب عنها الاب وهي معلقة به ولم تغب ابتسامتها، ما زال يراها واضحة مع ضخامة الغيوم السوداء الملتصقة بالحائط، محيط مشبع بالحزن النقاط السوداء العالقة بثوبها لا تكفي خسران المرأة للذائذها، الفضاء كله حزين، الغيوم التي تلبسها الحائط وصار اسود. بلحظة قراره لاختيار الضياع والهروب عن الحياة التي غيبت الكثيرين. اختار ارادة القوة النيتشوية وسيحصد حلم المنفى بكل اعمدته.
لكن المخيلة حافظة مشهد الام المفجوعة بالمساءات التي تضع الباكي بقوتها والغبار يبلل اهدابها في طقة خرزة مسبحتها وهي تستمع مقولته التي لا تقوى على نسيانها حلمي ثقيل يا امي " ماذا بقي من ايقونة الوطن التي رسمها شعور الفقدان؟ ماذا يربطني بذلك العالم المألوف والعجيب؟
 هل سأستأنف فيه الرحلة الاولى؟
ام انقطع عنه اهتداء بطيف المنفى العنيد؟
 اليس بوسع المنفي الا ان يتصور حياة الاخرين الذين تركهم وراءه على درجة عالية من الاستثنائية والشذوذ. وهو لا شك محق حين سقط الوطن بين مخالب همجية، ويبتلى بحروب همجية مروعة، فيما الحياة هناك لا تتوقف على الرغم مما يعترضها من اهوال. فالناس، لا ينفكون.. يسعون ويشقون ويقاسون ويتأملون ويتأثرون ويموتون.
الغريب.. حلمه في المنفى، سارح فيه وسط حركة اسمها المنفى، هي الكلمة الفاصلة فيها للرأي والموقف.. مثال المنفى بروميثوس حامل النار ومثل ابن الوطن سيزيف المجند لغاية غيثية . المنفي كائن يسكن خراباً ويخلق في دوران اسطورية.
ان ذاكرة الجسد والهوية والنفي هي مفاهيم مترابطة تتعلق بكيفية تجربة الافراد وادراكهم لأنفسهم ومكانهم في العالم.
تشير ذاكرة الجسد الى الطريقة التي تحتفظ بها اجسادنا المادية بذكريات التجارب والعواطف والصدمات الماضية. يشمل ذلك الاحاسيس والحركات وردود الفعل الجسدية الاخرى التي تسببها محفزات مواقف معنية. ولذاكرة الجسد تأثير كبير على الصحة العقلية والعاطفية للفرد ولها وقع على احساسه بالذات.
كما حبيبتي، حينما تطل بوجهها
كأنها حُلمهُ ندى/ يتخاطفها ضوء النهار/فاذا كانت أجمل السماوات تلك التي تتسع لتأملات المحكوم/ لا يعني ان اوحش المراكب/ تلك التي لا توصل المنفيين اليابسة.
المنفى مختلف عندما يراه المبدع بعدما جاع اليه طويلاً وحلم به كثيراً، وظل يلاحقه حتى دخل الى احلامه التي ننتظرها. وكل من عايشه وكتب عنه مغايراً عن الذي سبق ما قاله الفنان موسى الخميسي مثلاً.
 لا زهرة لي تفتح ولا حلم ينتظرني
عيد منعطفاته الآسرة
قد اكتملت صورته، وانغلق بعده الفضاء
ان منفى الأيام المطرودة يرحل عني
والعراق مشرع الأبواب كما السماء
اكتمال المنفى ... وخراب الوطن
نحن اليوم تراب.
 الشعر قادر على إعادة ابتكار العالم وتخليقه مثلما يريد الكائن ويحلم به الإنسان وبالإمكان القول ان الفنون والإبداعات التي كانت لحظتها متمكنة على تخليق ما يعجب الانسان.
ما قاله غوته " إذا كان الفن ترحلاً نحو الآخر، فلن يكون البيت او الوطن ابدالياً الفاتحة المنفى كما قال أدونيس الذي التقط بحساسية الشعر طاقة الفلسفة الهايدجرية عندما تحدث عن معنى السؤال حيث قال: " لا قدسية الا قدسية البحث السؤال والمعرفة.
لقد عرفت الاسماء المنفى ولا مختلف فيما بينها. لكن الوجع أكثر تبايناً لفقدان المه حيث المدن لا تتماثل والمتروكة محمولة بكل حزن الكائن. لكنها لا تتماثل مع ايثاكا التي سكن فيها هوميروس. المدن متشابهة، متماثلة، لكن ايثاكا فيها اختلاف قليل وبسيط، هي جزيرة ما زالت تحن الى الشاعر هوميروس. وما ابتكره في الإلياذة. في نصوص صلاح الحمداني كلام خفي/سري والقارئ مندهش لاستمرار بقاء الجمال والسريات. وهذا هو الكلام الحاضن للشعرية الممتلك لها وهو يردد ما يريده الجمال وتحلم به الحياة بكل اعمدتها وتقوله للمنفي حتى يتعرف على السعادة التي يهواها العاشق، لكنه يحافظ على صمته الجوهري.
ان الشاعر عاشق لمدن عديدة واماكن خزنتها الذاكرة، بغداد مدينة المدن الكبرى. معهما تكن بغداد أحبها صلاح بالشعر الذي هو بالنسبة له كلام وصور. وكأنه وسيلته الوحيدة، لأنه يتكلم كثيراً.
هل للمساء الحزين اقتران بذاكرة الام، وما تنطوي عليه من وجع وألم وحزن ثقيل؟ الخزان يغذي مساءات المرأة ويجعلها متوترة بالمراثي والبكائيات. لان المرأة هي الخسارة الوحيدة في الحياة، الفقدان والتعطل الشهوي تكريس طاقة الاستذكار واستعادة المرويات وما اكثرها وأعظمها، لكن تنحصر بالمتخيلات البكرية المقترنة مع الاقتران الشاب الذي صار حضوراً يعطي عبر بلله ويمنح الحياة أجمل ما تنطوي عليه من متع تظل يقظة تعيش زمناً طويلاً وعميقاً ولا تنسى الام لحظات المساء المستعيدة للذائذ، ليست لذائذ الام التي عاشت في نصوص صلاح الحمداني، بل هي حضورات طاقة الجسد الانثوي كله. ويضفي التعايش صفة الحلم الخاضع للسيرورة، ذات العلاقة بجسد الانثى وذاكرتها التي لا تتعطل. وتكرر استعادة الحنين المستمر هو يقظة الاشتهاء الذي لا تنساه ذاكرة الانثى / الام، ويعني الاشتهاء الذهاب نحو تراجيديات الفقدان والمباكي، هي الوحدة التي تمنح المرأة ديمومة الحضور والبقاء وحركة تجدد الذاكرة الباقية حتى الازل وانا استلمت عبر معاودة قراءة نص. ليس بعيداً عنها، وانما أيقظ سرديات البدئية الاولى في ابتداءات حضارة الشرق المرتسمة بوضوح الصور الشعرية النابضة بالجمال والحب، الارتباك والارتعاش، حتى لحظة الجسد الناضج.
وحيدة في الحقل / وحيدة في الفراش / ترتب الفصول كما تشاء / وتضحك من نصوص افكارها / عارية في الفجر / اعتادت على تعليق المساء على نفسها / تعدل هندام احلام الرجل الذي سرقته منها الحرب.
استجماع كل تكررات الام في نصوص صلاح الحمداني تتجوهر في ذاكرة المتلقي نوعاً من الاساطير الامومية التي التمعت مثلما في سرديات البدئيات وظهرت لنا قريبة للغاية مع الام الكبرى السومرية وتجاوراتها مع الفرات وبروز الاله العظيم انكي. وما ذهب اليه الشاعر صلاح الحمداني لم يسبقه شاعر من قبل، وأعني بذلك في سعيه لالتقاط اسطورة الام وتحديد اطارها الابتكاري وتتمظهر في كل مرة مثيرة للدهشة، لان طاقة الشاعر نجحت بكل ما يتمظهر عليه من مهارات بالتوصل لحدود ازمنة قديمة وحديثة، الماضي والان. ورسم وقفاً فيه شيء من التوازن عن علاقة الذي كان والذي هو الان. وهذا امر مثير جداً، يكشف عن موقف فلسفي فيه وضوح المتغيرات كما اشار لذلك المفكر " هويز " الذي وضع السائد من العلاقات الاجتماعية وراءها يستحق ان يكون ابتداء وتقف وراءه كل الاحلام.
لا يستطيع المتلقي المنشغل بالاسطورة تجاهل ميثولوجيا الام التي هي جوهر البكرية في ترسيم اطارات العقائد والطقوس والمزاولات في اي مكان كان بحيث تبرز اسطورة سردية مكونة من اسئلة ودائماً ما تتمظهر الاسئلة متزايدة عن الاب الذي يستحق الانتباه له، وكأنه يستدعي بالضرورة لما هو جديد من الاسئلة التي يستولدها الجديد الحداثي من روايات الام المفجوعة بالمسائيات وانتاجها مع ما يظهر عليها من ابتكارات في الابتداءات الحضارية وما عليها ويضفي لها وعليها في جغرافيات الشرق الثابت والمتحرك. من هنا اتضحت اسطورة الام الحزينة مساءات هادئة، ليست رتبية، بل مرنة تكفيها كلمات صلاح الحمداني لترسم لنا ما يكفي المتلقي للتعرف على عناصرها ومكوناتها، من اجل ان تظل مماثلة لأساطير وغير مختلفة عنها.
الأم سماوية، مجدها المقدس منحها كل صفات الفراديس ولذا كانت دائماً ما تظل متعالية، تنبوية، لها شرفات ترى عبرها كل ما هو صعب ومعقد. لكن المعطى المؤنث يثير الهوس في ثقافة الجندر وحضورها الفعال وقد تصدمنا عبر طاقة متكررة امام ما تنطوي عليه مرويات الاسطورة في شخصية الام كما هو مبين في هذا المقطع من نص " ليس بعيداً عنها".
 
وحيدة في الحقل
وحيدة في الفراش
ترتب الفصول كما تشاء
وتضحك في غور افكارها
هاربة في الفجر
اعتادت على تغليق المساء على نفسها
تعدل هندام احلام الرجل الذي سرقته منها الحرب
تفتح الستائر، ليخرق الضوء مرآة دولاب الغرفة
ثمة قميص لرجل
وصندوق صغير اصفر للذكريات يغلق بمفتاح اعتادت ان تصيح بالفراغ
لا عذر لمن تسيبيح غيابك.
 
  • حلم بلا أعمدة/ ديوان للشاعر صلاح الحمداني، صدر عن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق 2023