أيار 18
روائي لا تعنيه الواقعية بقدر ما يعنيه الإنسان
 ابتدأ غائب طعمة فرمان مشواره الإبداعي مع الشعر، فكتب القصيدة قبل أن يكتب القصة ثم تحول إلى كتابة الرواية فكانت (النخلة والجيران) عام 1966 أول رواية له، وهي تحفل بمناح شكلية وسردية تدلل على أن هناك مرحلة تجريبية تمخضت عنها ولادة كاتب روائي لا تعنيه الواقعية بقدر ما يعنيه الإنسان، ولا يستهويه تصعيد الحبكة بقدر ما تستهويه اللغة في بعدها اللساني كأشكال تعبيرية وطرائق كلامية في شكل حوارات ومونولوجات، تجعل القارئ في تماس مباشر مع عالم الشخصيات وهي تعبر عن مكنونات دواخلها. وهو ما أكدته روايته (خمسة اصوات) التي كانت كسابقتها (النخلة والجيران) بسارد موضوعي ووجهة نظر ايديولوجية بيد أن هناك أمرين جديدين جرّبهما الكاتب لأول مرة؛ الأول تجلى على المستوى الكتابي بفضاء وصفي ذي ميزة لسانية غير طبيعية، والآخر توضح على المستوى القرائي بفضاء سيميائي، فيه العنوان الرئيس تجميعي (خمسة أصوات) وعنه تفرعت العنوانات الفرعية في شكل فصول تحمل ترتيبا عدديا غير منتظم من الأول إلى الخامس وتنتهي بجمعها في آخر فصل مرة أخرى بـ(خمسة اصوات).
وتلخص دور السارد الموضوعي - الذي تقلصت مهامه السردية بسبب مركزية الوصف غير الطبيعية - في مجرد التناوب على مسروداته الخمسة لتكون حصة كل شخصية في السرد متفاوتة عن غيرها، فكانت حصة الشخصية الاولى (سعيد) اثني عشر فصلا والشخصية الثانية (ابراهيم) خمسة فصول والثالثة(شريف) سبعة فصول والرابعة (عبد الخالق) خمسة فصول والخامسة (حميد) ستة فصول. وقد عد النقاد هذا التفاوت دليلا على توال موسيقي، بسببه تعددت الأصوات بحسب الناقد فاضل ثامر(1) وتعددت الرؤى وليس الأصوات بحسب الدكتور شجاع العاني(2). ومن الجدير ذكره أن الأستاذ فاضل ثامر عد (النخلة والجيران) تمرينا أوليا لكتابة (خمسة أصوات) بوصفها هي ورواية (الرجع البعيد) لفؤاد التكرلي أولى روايتين عراقيتين توظفان البوليفونية الصوتية بينما عد الدكتور شجاع العاني رواية (النخلة والجيران) اول رواية متعددة الاصوات بسبب ما فيها من توظيف للعناصر البوليفونية كالحوار والمونولوج والشخصيات الممسرحة. وهذان رأيان يتطلبان وقفة لان كل ناقد منهما متخصص وله مسوغاته. ولعل السبب في اختلاف الناقدين حول هذه الرواية يكمن في أنهما عُنيا بسيميائية البعد القرائي عنوانا ومتنا، مهتمين بالطريقة التي اتبعها السارد وهو ينتقل من شخصية إلى أخرى وقد أعطى لسعيد الثقل الأكبر في التعبير عن منظوره الايديولوجي.
إن توظيف الكاتب للوصف بطريقة غير طبيعية هو الذي يجعل المكان عنصرا خارقا لواقعية الرواية فيغدو العالم الموضوعي غير واقعي وصفياً لكنه منطقي بوجهة نظر إيديولوجية. وهو ما يجعل القارئ موهوما بالبعد اللساني للصورة الوصفية التي فيها يبدو المكان متكلما يسرد قصة الشخصية من جهة، ومتصورا من جهة أخرى غياب السارد صوتا واستقلال الشخصية حضوريا، لكن المفارقة أن هذا الخرق المكاني في رواية (خمسة اصوات) ليس سوى إيهام يعزز دور السارد الموضوعي ويمكنه من توصيل وجهة نظره الإيديولوجية عبر مسارات مختلفة منها: انشطار العالم السردي، إذ على الرغم من تعاكس توظيف الوصف بصورة غير طبيعية داخل خطاب واقعي، فإن كلا من الوصف والسرد صارا متناغمين وطبيعيين، بدءا من المستهل وفيه يصف السارد سعيدا وصفا بانوراميا بضمير الشخص الثالث، وهو بلا حول ولا مشيئة إزاء موجودات تمركزت فصارت ذات إرادة وعنفوان(تقاذفته الأزقة مثل أرجل إخطبوط هائل كل زقاق يسلمه الى زقاق اخر مثله ازقة تتشابك. تتفرع وتضيق. تدور حول نفسها. ومناظر تتكرر وبيوت متلاحمة الجدران وابواب حافية وابواب على عتبات وشناشيل ملونة بالوان حزينة مثل جو المواكب الدينية واطفال يتراكضون وقطط شاردة)(3). فلا طبيعية الوصف جعلت المكان هو الفاعل السردي بينما غدت الحيوات خاضعة له مسلمة لمشيئته.
 غائب طعمة فرمان
  وبالوصف تصبح موجودات العالم الموضوعي ناقمة على الشخصية ومتضادة معها واكثر قربا منها واحتكاكا بها تضادا وعداء، كالقميص والعباءة والثياب السود (كانت جيوش الظلمة تتجمع.. من داخل السوق المسقف ليسود سلطان الظلام وكان المقهى وراء ظهره قد همد)(4). وبسبب هذه التضادية التي عكستها الصور الوصفية احتلت الأشياء مكانها كفواعل داخل السرد بينما تنازلت الشخصيات عن فاعليتها بطريقة غير منطقية، وبدا السارد الموضوعي مشطورا بصورة تمويهية بين وصف فواعله (موجودات مكانية) ووصف فواعله (الحية) مغيبة وخامدة. اما اهداء الروائي عمله إلى (أصدقائي في صراعهم مع أنفسهم ومع الآخرين) فإن فيه دلالة على نوع آخر من الانشطار، تجسد في شخصيات الرواية الخمس التي كلها رجالية تجمعها الثقافة والخمرة وتفرّقها الردة الثورية والتبعية الاستعمارية، فغدت على مستوى الوصف مهزوزة النفس ومسلوبة الإرادة واقعة تحت ضغط عالم لا يرحم، مثل سعيد الذي قهرته الهيلكوبتر وهي تريه بغداد الغريقة من الجو، فعرف أن العالم هو (كل شيء قابل للفرجة حتى مآسي الناس والبيوت المغمورة بالماء والناس المشردين)(5). والخمرة هي التي تتحكم فيه (الخمرة التي تتمشى في اوصالي الان ارتخاء، أعجز عن رفع يدي رؤى صامتة على خلفية مظلمة كالليل ذكريات سيل عات من الذكريات.. ان هذه القطعة من الارض ستلحد فيها في الساعة الفلانية من اليوم والشهر الفلانيين .. ستكون مفتح العينين ولكنك ميت وستتكلم مع الناس ولكنك ميت ستاكل كما ياكل الاموات)(6). وقهرت شريف تناقضات باب المعظم بينما قهرت الخمرة حميدا، فصار يداوي بالإدمان استياءه من العالم حوله وعدم توافقه معه (كرع جرعة اخرى في ياس من امره وكراهية وبذات الاشياء تتضخم في خياله وتكشف عن عدم احتمالها وتزرع في نفسه النقمة اللاإرادية مثل فواق جاء غير مدعو وصارت للأشياء ظلالها ومحموميتها وتوهجها الاسود وكأن دخانا اخذ ينتشر في ماقيه ويغلف كل المنظورات ويجعل الليل ليلين)(7). وهذه اللاطبيعية في سلب الانسان إنسانيته والحاقها بالأشياء هي تغليب لعنصر المكان على حساب عناصر السرد الأخرى، مما يوحي للقارئ بغياب السارد واستقلال الشخصيات وبمنظور تعبيري متعدد بينما الحقيقة هي أن التضاد لساني بين: 1/ لا واقعية الوصف و2/ واقعية السرد مما عزز مركزية السارد الموضوعي بشكل غير مباشر من خلال المنظور الايديولوجي للعالم.
ولا يأتي الوصف المكاني قارا، بل هو مفعم بالدراماتيكية وبما يحقق مزيدا من اللاطبيعية، فتغدو الموجودات المكانية أكثر أنسنة وسطوة على الحيوات المسرودة وأشد قسوة عليها كمثل صورة النهر كحبلى في مكان مقفر أو رسم المحلة كائنا مريبا (كل محلة من هذه المحلات عائلة واحدة موزعة على بيوت قد يتخاصمون فيما بينهم ويتناطحون ولكنهم في الشك بالغريب سواسية)(8) أو وصف بناية الجريدة التي عمل فيها سعيد وابراهيم كعجوز تقادم عليها الزمن او مقاهي شارع الرشيد وازقته والنهر الذي يحاذيها والخمرة ولا طبيعية اثرها (كانت تستل إرادته بخفة وتضع مكانها إرادة أخرى طافت في رأسه أفكار جديدة مثل نيازك صغيرة كانت تمر في سماء نفسه بسرعة خاطفة ثم تختفي. خلقت الخمرة آلاف البوادر والاحلام باشياء جديدة ثم ماتت في الحال طيوف الاشياء لذيذة تركض في دروب شرايينه بسرعة لا يلحق بها عقله المتاني المهموم)(9).
وكلما زادت دراماتيكية الوصف اللاطبيعي، خمدت الشخصيات وتباعدت عنها حيويتها ازاء موجودات مؤنسنة بسلبية وحاكمية. وعلى الرغم من ذلك، فان خط السرد الواقعي لا يتضارب مع خط الوصف غير الطبيعي بمعنى أن التضاد بين اللغة الواصفة غير الطبيعية وسردية الواقع الموضوعي، لا يؤثر في مسار الحبكة وتطور الشخصيات على طول الرواية وعرضها، بل هو يولد شعورا بالخوف واللا طمأنينة التي منها تتشكل وجهة النظر الأيديولوجية.
والمتحصل من وراء دراماتيكية الوصف غير الطبيعي أن جسَّد الخطاب السردي واقعا مشهديا ممزوجا بوصف غير طبيعي فيه الأشياء فواعل مصورة وواصفة والحيوات مفعولات موصوفة. وهو ما يحفز السارد على التدخل ليؤكد وجوده بطرق مختلفة منها أن يفكر بأسئلة غير منطقية يضعها على لسان المسرودات. وقد يعمل العكس بأن يجعل المجردات هي التي تفكر كالضمير مثلا الذي بدا في هذا المقطع فاعلا يسأل (عجيب هذا الضمير الانساني مع انه يعيش في داخل الانسان الا انه لا يخضع لنظام جسمه ولا لقوته وضعفه احيانا يمرض بأمراض فتاكة بينما يظل في عافية الثيران جسميا وأحيانا يتحجر كالغرانيت في جسم ما يزال يحتفظ في الظاهر بطراوة الدم واللحم)(10) وهذا ما يضفي على السرد مزيدا من اللا طبيعية الموهِمة بالواقعية.
والمتولد من تضاد الشعري والفكري أن مركزية السارد الموضوعي لا تتمظهر إلا من خلال وجهة النظر الايديولوجية المعبرة عما في العالم الموضوعي من صراع نفسي واحتدام شعوري.
وعلى الرغم من أن هذا التضاد يبدو جليا في الفصول الأولى ويتناقص كلما تقدمنا في الرواية، فإن مركزية المكان ظلت حاضرة مع كل شخصية ينبري السارد لسرد قصتها من دون أن يتنازل المكان عن دوره ومن دون أن يغفل السارد لحظة أن يستعيد مركزيته منه. وما مداومة المكان على تأكيد مركزيته سوى تعزيز للصور الواصفة غير الطبيعية ونفي لأن تكون للشخصيات فاعلية سردية مستقلة.
ولأن التعبير عن الشخصيات ونظرتها المستاءة من العالم هو مراد الوصف غير الطبيعي، لم ينس السارد دوره الواقعي من أول فصل في الرواية إلى آخرها. ولم يترك موقفه على صعيد اللغة بل عززه عبر نقل نواياه من نسق لغوي إلى نسق آخر مازجا لغة الحقيقة باللغة المشتركة متحدثا عن المسرودات بصيغة وصفية خاصة به.
 
الهوامش:
(1) ينظر: الصوت الاخر: الجوهر الحواري، فاضل ثامر، (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 1992) وينظر: البناء الفني في الرواية العربية، مصدر سابق، ص403.
(2) ينظر: البناء الفني في الرواية العربية، مصدر سابق، ص210 ـ226. يقول الناقد:(لرواية متعددة الرؤى تقوم على التسليم بوجود اوجه عديدة للحقيقة أو على تعدد اشكال الوعي للحقيقة الواحدة وعلى التعدد الحسي في إدراك هذه الحقيقة وهذه الرواية تعتبر ثورة كبيرة في الفن الروائي تواكب أحدث الانجازات العلمية كنظرية اينشتين في النسبية).
(3) خمسة أصوات رواية، غائب طعمة فرمان (بغداد: دار المدى، ط2، 2008)، ص7.
(4) الرواية، ص47
(5) الرواية، ص170
(6)الرواية، ص21
(7)الرواية، ص81ـ82
(8) الرواية، ص8
(9) الرواية، ص81
(10) الرواية، ص56