أيار 13
   أفرزت الحياة الاجتماعية والتنظيمية ثلاثة حقول كبيرة، حددت الإطار التي يمكن للـ: الثقافة - المعرفة - السلطة، أن تتصاهر فيها، وهذا الإطار هو العقلانية، ومن دون أن تكون العقلانية طريقًا لذلك ستملأ هذه الحقول حقولًا أخرى. وبما أن كل حقل من هذه الحقول له هويته، قواعده، قوانينه، أسسه، وتشعباته، سيكون من المفيد أن نركنها إلى مبدأ عقلي تجريبي قادر على تجديد نفسه وإعادة صياغته بما يتماشى والتطورات الاجتماعية والثقافية. إذ لا يمكن تصور حقل الثقافة أو المعرفة والسلطة مثلًا إلّا مقترنًا بمنهجية اجتماعية قادرة على تبادل الخبرات فيما بينها، وقائمة على العلم والتجربة والفهم الذاتي، أي ثمة بنية منظمة تجعل الحقول الثلاثة في تصاهر جدلي تخضع للـ "القواعد والقوانين والمعايير". التي تفرضها العقلانية كإطار يوّحد مجال العمل بينها.
يعرف بوردو الحقول بأنها "فضاءات مشكّلة من المواقع (أو المراكز) التي تتوقف خاصيتها على المكان الذي تشغله في هذه الفضاءات، والتي يمكن تحليلها في استقلال عن مميزات شاغليها (التي تحددها جزئًيا)، هناك قوانين عامة للحقول"(1): وهناك قوانين خاصة بكل حقل تحدد مجاله وتضبط ميدان اشتغاله.
 وللوهلة الأولى تبدو أنها حقول مستقرة على مفاهيم وإجراءات يمكن توصيفها بدقة، خاصة في المجتمعات الغربية، التي جربتها عمليا سواء في الدرس الأكاديمي أم ميدان الثقافة المجتمعية. وهذا ما يجعلها تؤسس قاعدة بيانات يمكن العودة إليها. إلا أنَّ النقد لا يقف عند هذه الحقول الثلاثة كما لو كانت متجردة من العوامل التي أسستها والتي لحقت بها. وأول توصيف يمكنه أن يدلنّا على أهمية العلاقة بين الثقافة والمعرفة والسلطة، هو أنها تنتج معرفة متشابكة كما يؤكد ليفي شتراوس تبعًا للظروف الموضوعية التي تمر بها البلدان، ومن بينها المكونات الجغرافية، والثقافية، والسياسية، والقومية. فما خضعت إليه إيطاليا وفرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، ودول أوروبية أخرى بعد الثورة الفرنسية 1789، جاء نتيجة التغييرات الجذرية التي أحدثتها حركة النهضة أولًا ابتداء من القرن الرابع عشر والخامس عشر وصولًا إلى الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر،1789 فأسست لذلك أرضية لتطور أوروبا على شتى المستويات بما فيها الفلسفة والعلوم والثقافة، الأمر الذي أنشأ قواعد وقوانين ونظم مختلفة للثقافة وللمعرفية وللسلطة، عمقتها الثورة الفرنسية حيث أسهمت في تجديد حقول الثقافة والمعرفة والسلطة، ونقلت المثقف والثقافة من الصفة إلى الاسم، بعد حادثة الضابط دريفوس وبيان أميل زولا  الذي نشر في جريدة (الحرية) قال فيه لأول مرة "نحن المثقفين" وكان يعني أن المثقفين يملكون اسمًا وليست الثقافة صفة وحيدة لهم. وكان ذلك لأول مرة في التاريخ حينما أصبح المثقف بهوية ثقافية محدد وليس بهوية الطبقة التي ينتمي إليها.
إن ما نعنيه بالثقافة في محيطنا الشرق أوسطي، هو أنَّ الأحداث والمتغيرات التي حدثت في هذه المنطقة على الرغم من أنَّها مسؤولة عن تحديد المفاهيم والقواعد للثقافة والمعرفة والسلطة، إلا أنَّ مسارات البناء الاجتماعي اللاحقة لم تتطور بما يوازي ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية. الفترة التي شهدت نهوضًا تنويريًا عمّ مختلف البلدان العربية. ولم يستمر هذا الوضع كما نعرف لأسباب كثيرة ومنها إضعاف دور الثقافة والمثقفين وربط الثقافة بالسلطة التي حولتها إلى صوت أعلامي لها.
نحن الآن نعيش وضعًا مضطربًا، نتيجة بقاء معارفنا محددة ومقيدة بما أنتجته العقلية الحاكمة طوال خمسين عامًا بمساندة السلطة الدينية التي يمتد تأثيرها إلى أربعة عشر قرنًا، والسبب هو أنَّنا لم نراجع مقومات هذه البنى التي تتحكم بنا، ولم نتوجه إليها نقديًا، ولم نحرك ما يدعي البعض أنَّها ثوابت صيانية تمسك بتفكيرنا وتقيده. في حين أن العالم الغربي وحتى الأسيوي والأمريكي، قد أحدث تغييرات جذرية في بنى الثقافة والمعرفة والسلطة القديمة، بعد كل مرحلة حروب مر بها، عندها تغيرت طرائق التفكير، وأساليب العيش والنظم السياسية وتنظيم الاقتصاد ومن بينها تنظيم الثقافة والمعرفة والسلطة. تتغير الرؤية للثقافة، وما شهدته هذه البلدان من تأثير الحروب على بنيتها ومكوناتها، جعلها تركن إلى العقلانية، وتترك الطروحات الدينية واللاهوتية جانبًا، معتمدة على الأثر الكبير الذي أحدثته الثورة الفرنسية في بنية المجتمعات. ومنذ عصر النهضة والدول الأوروبية تنزع عن جلدها وإنسانها أثوابها الفلسفية القديمة، وتستبدلها بما يجعلها متحركة في التاريخ. وإذ بدأت بعزل الدين عن الدولة، واعتمدت بنية المجتمع المدني، لم تقف عند هذا الحد، فما يزال عصر النهضة يولد عصورًا جديدة، كعصر التنوير، وعصر العولمة، وعصر الحداثة، وعصر ما بعد - الحداثة، وها هم يدخلوننا العصر المرقمن.
إذًا ما هي حدود الثقافة، حدود المعرفة، حدود السلطة، التي نتحدث عنها هنا؟ بالتأكيد لن تكون هذه الحقول معزولة عن العلاقات مع ما يناظرها في البلدان المتقدمة. إذًا كيف يكون التعامل بين المثقف والسلطة في منطقة الشرق الأوسط؟ وكيف تكون مسارات الثقافة، المعرفة، السلطة في مجتمعاتنا؟  هذه الأسئلة وغيرها لا نملك من داخل بنية مجتمعاتنا أجوبة واضحة عنها، لأنّها أسئلة تتعلق بتحريك هذه الحقول وليس بتجميدها أو الحد من تأثيرها. إذًا نحن أمام إشكالية التحديد الواضح للمفاهيم في مجتمعاتنا، كي نجيب عن أسئلة فيما إذا كانت هذه الحقول حقول مولدة يمكن الاعتماد عليها لبنية مجتمع شرق أوسطي حديث، أم أنها بنيت على وفق تصور ديني ولاهوتي ولغوي وسلطوي قديم؟، وما زالت على ثابتها لم تتغير.
إذًا ما الطرق والوسائل التي تعيننا على جعل هذه الحقول مؤثرة في بنية مجتمعاتنا؟ هل نستعير لها مفاهيم من الثقافة الغربية، كي نصف بها ما تعانيه ثقافتنا ومعرفتنا وسلطتنا؟، أم أننا نعود كلّما أمكن ذلك إلى جذور هذه الحقول؛ أي إلى الثقافة واللغة العربية، وإلى الدين والفلسفة كأساس للمعرفة، وإلى الحاكمية وقواعدها كأساس للسلطة؟
 
 ما المفهوم الذي يعيد تسمية هذه الحقول؟
يعني المفهوم فلسفيًا "المطابقة بين المعنى (الفكرة) والوجود (الحضور)، مطابقة تشبه المطابقة بين الجسد والروح"(2)
في ضوء ذلك يصبح مفهوم الثقافة، مفهومًا واقعيًا متحققًا، أي أن الأفكار الثقافية ستجد لها حضورًا في المجتمع بحيث تبعث الحياة عن طريق الممارسات الاجتماعية، فالتحقق المادي للثقافة شرط وجوب مجتمع يعي ذاته، ستكون الثقافة مصدرًا من مصادر هذا الوعي، ومفهومًا اجتماعيًا يطور منظومات المجتمع التي تحدد هوية ذلك المجتمع. ومن هنا تلعب الثقافة في المجتمع دورًا بنائيًا، بعد ذلك لا يمكن فصل ثقافة أي مجتمع عن مكوناته، فالعامل الاجتماعي سيطبع الخاص الثقافي بطابعة التكويني، كما تطبع الثقافة المجتمع بخصوصياتها، أي أنَّ للخاص دورًا في بنيَّة المجتمع، هذا التضايف بين مفهوم الثقافة ومفهوم المجتمع، به حاجة إلى سلطة معرفية قانونية ومؤسساتية، تديم العلاقة بينهما، وتشذب النواقص، وترمم الخلل، كي تمهد لبنية جدلية أعمق بين الثقافة والمجتمع وأعني أن تكوين المعرفة، يتطلب تكوين مؤسسات راعية لها. وسنجد عبر الممارسات الثقافية أن للثقافة دورًا أبعد من تنظيم هوية المجتمع، هو ذلك الدور الذي نقل المعرفة من أفعال الطبيعة الميتافيزيقية وجعلها أفعالًا اجتماعية، إما عن طريق تراكم الممارسة الاجتماعية، أو عن طريق الثقافة نفسها التي لعبت دورًا كبيرًا في نقل الموضوعات الطبيعية وجعلها موضوعات اجتماعية دينامية، قابلة للفهم والممارسة والتجربة العقلية. هذه الدينامية التفاعلية بين الإنسان والطبيعة تمت عن طريق الفكر الثقافة الذي أصبح تعويضًا مباشرًا عن الفكر الديني اللاهوتي للمعرفة. ويمكن إيجازه هذه النقلة من دور الطبيعة الفيزيقي إلى الثقافة الاجتماعية الدينامية، بالنقاط الاتية:
  1. تساهم العلاقة بين الثقافة والمجتمع في تحديد هوية وفلسفة الدولة. هذا التحول أحدثته الثورة الفرنسية حين أشعرت المواطن أن له حقًا في الأرض والقانون والعمل، وأن الدولة ليست للأمراء والبرجوازيين والطبقة المرفهة.
  2. تسعى العلاقة بين الثقافة والمجتمع إلى تحديد نَّظم الحداثة التي ينشدها المجتمع. وتعبر هذه النقطة من نتائج عصر النهضة، خاصة في ألمانيا وإنجلترا، من أن الثقافة لم تعد إنتاج الكنائس وكتبها الدينية، فقد خلقت المطبعة دورًا تنويريًا ابتداء من القرن الثالث عشر، في إيطاليا وتعد رواية (الكوميديا الإلهية) 1308أنموذجًا لهذا الثورة في التفكير. حيث أصبحت الطباعة قوة فاعلة بعد الثورة الفرنسية واعتمد عصر النهضة على طباعة الآدب والروايات والفلسفة وأبعد كتب اللاهوت إلى زوايا الكنائس، ورافق هذه النهضة التي أحدثتها المطبعة ما أحدثه البارود الذي عرف أول الأمر في الصين قبل الميلاد، وانتقل إلى أوربا عن طريق الشرق الأوسط، عام 1240، وانتشر في ألمانيا، التي طور الصناعات المحتفلة بما فيها الصناعة العسكرية مقترنًا ذلك بنهوض النزعة القومية للأمة، واعد روجر باكون أن البارود إلى جانب الفن، من "قوى الطبيعة الخفية". وكان الصناعة الحربية -بما فيها صناعة آليات الحرب في الحرب العالمية الأولي- دورًا في تحديث أوربا.
  3. أعادة بنية المكونات القديمة للثقافة المحلية وصيرورتها منسجمة وطبيعة الحداثة الاجتماعية كالمكون الأنثروبولوجي والميثولوجي كي تكون جزءًا من الهوية الوطنية. ويعد هذا العامل الأساس الذي نهضت عليه الحداثة الأوربية، خاصة إنجازات ليفي شتراوس في الأنثروبولوجيا البنائية.
  4. تؤسس الثقافة وعياً مزدوجاً: وعي التراث أو القدامة، ووعي المعاصرة أو الحداثة، وهذا يعني أنَّ الثقافة كمؤسسة للمعرفة، مُحَدِدّةً لهوية ذات الدولة، لا تلغي التاريخ العام لها، إنّما تقويها عبر العلاقة مع الثقافات الأخرى، وفي هذا يمكن القول: أنَّ بنية أية معرفة مؤسساتية للدولة مبنية على أساس تداخل الخاص المحلي بالعام العالمي.. فالثقافة تيار يجري كالنسغ في البنية الاجتماعية، فيغديها كي تصبح مفهومًا لسلطة تمتلكها ذاتها الجماعية، أي سلطة المعرفة، وتتحقق ذلك بطريقة تحديدها لحقول اشتغالها.
 
 ما السلطة؟
إذا فهمنا أن الثقافة ممارسة اجتماعية، قادنا حقل اشتغالها إلى شبكة واسعة من العلاقات مع السلطة، ومن هنا تنوعت وتعددت التعريفات لها، وتشابكت مهماتها مع حقول معرفية أخرى، بما فيها حقول وقواعد وقوانين مؤسسات السلطة نفسها. وأبسط تعريف للسلطة هو أنها مؤسسة للحكم، تعتمد الكلمة، والمدينة، والقانون، كما شخصها أفلاطون في الجمهورية، أي نظم الحرية وعلامات ضبط الحياة اليومية، والقانون ومجالات تنظيم العلاقة بين السكن والعمل والاتصالات، والعلاقات المالية، وتنظيم الدخل ومسالك أخرى.
سنجد أنفسنا إذًا أمام تعاريف كثيرة للثقافة بلغت حسب تصنيف اليونسكو 160 تعريفًا، وهذا بحد ذاته يشكّل إشكالية من ثلاث شعب:
الإشكالية الأولى: أن الثقافة تجد نفسها في انفتاح دائم على متغيرات المجتمعات والفلسفات والتجارب فضلاً عن ميادين الإبداع المختلفة، ومن هنا لا تستقر على تعريف محدد. يحد من تنوعها واستيعابها للأشكال الحديثة من أفعال الثقافة.
الإشكالية الثانية: أن الثقافة الغربية عانت مثلما عانت الثقافة العربية من عدم وضوح المرجعات لها، هل هو المرجع الفلسفي اليوناني، أم هو المرجع اللغوي، أم هو المرجع الديني اللاهوتي؟ أم هو المرجع العملي الاجتماعي؟ وستبين هذه المراجع المختلفة دورها في تحديد الهوية الثقافية للمجتمعات الغربية.
الإشكالية الثالثة: مرت المجتمعات الغربية بتطورات فلسفية مختلفة، كل تطور يطرح مفهومًا جديدًا للثقافة مختلفًا به عن مفاهيم مرحلة سابقة، ووجدت جامعة كمبرج في موسوعتها أن: هذه التطورات انعكست إيجابًا على تطور مفهوم الثقافة ككل.
 لنقرأ بعض مفاهيم الثقافة ربما تلقي الضوء على تعقيداتها بالنسبة لثقافتنا العربية.
 
ما الثقافة؟
تدل "الثقافة" في اللغة العربية من الناحية الاشتقاقية على الفطنة والذكاء، أي على ملكات الإدراك والتمييز والحكم التي ينفصل بها الإنسان، وهو كائن طبيعي بالإصالة، عن عناصر الكون الطبيعي."(3). الثقافة إذن حقل تقويم، عندما تكون الثقافة فطنة، وذكاء وأدراك وتمييز وحكم، يعني أنها حقل يقوّم ما هو معوج في المجتمع، بمعنى أدق تصنع الثقافة ممارسة تقويمية للمجتمعات فتعدل من مساراتها المعوجة الخطأ. وتصوب الخلل وتضع الحلول.
أما المثقف، في هذا المعنى المحدد للثقافة، فهو ميدان "الصناعة والإبداع والابتكار والخلق والاكتساب والتهذيب والتطوير والتحسين...الخ. ومن ذلك قول العرب" ثقّفَ الرمح، هذبّها مقومًا ما بها من الاعوجاج قد يكون هذا الاعوجاج فطريًا طبيعيًا، أو يكون خللًا اجتماعيًا وسياسيًا، فالمثقِّف هو من يُقَوِّم ذلك الاعوجاج الطبيعي والصناعي بألة، سميت قديمًا: ثقافً، وتسمى حديثًا الكتابة والكلام.
 يقول الشاعر العربي:
إذا عضّ الثقاف بها اشمأزت       تشجُ قفا المثقِّف والجبينا
 
بمعنى تكون الأشياء الطبيعية معوجة في الأصل."(4). فتقومها الثقافة وتعدلها وتضبطها. ولكن ما هو الجذر اللغوي لكلمة ثقافة؟
ان قواميسنا وكتب مصادرنا الأساسية، تخلو من كلمة ثقافة، كما تخلو ثقافتنا العربية الشفاهية منها أيضًا، فعندما يلتقي الدنيوي بالمقدس، يجري تعويم الثقافة العامة للناس وجعلهم يرتبطون بالثقافة التي تعتمدها الأديان والأعراف. لذلك لم تكن كلمة ثقافة معروفة بمعناها المعاصر، في أي قاموس عربي، بل كانت كلمات مثل" دين، عقيدة، مذهب، أدب، نحو، علم، صناعة، فن، حكمة، معرفة، عرفان، ..، هي الشائعة "ذلك أن لفظ ثقافة، ومثقف، ومثقفين، إنّما هي ألفاظ من بين ألفاظ جديدة عديدة، ظهرت في الخطاب المغربي العربي الإسلامي المعاصر إثر" مثاقفتنا للآخر" لتكون مرادفًا في العربية لكلمة Culture وIntellectuals. علمًا أنَّ هذه الكلمات الإنجليزية والفرنسية مستحدثة هي الأخرى في الثقافة الغربية فهي نتاج الحداثة الأوروبية(5). وظهرت كلمة ثقافة أول الأمر في اللغة الفرنسية. في القرن السادس عشر. ويشير هذا المعنى إلى حقلين دلاليين متميزين هما: حقل الفلاحة والإنتاج الفلاحي وثمرات ذلك الإنتاج "فهي مشتقة من أصل لاتيني قديم هو (Cultura) التي تعني فلاحة الأرض" من جهة وحقل العبادة الدينية (Clute) وطقوسها وقواعدها من جهة أخرى. أي ثمة بعدين للثقافة الدنيوي والقدسي"(6). وهما بعدان موجودان في الثقافة العربية الإسلامية أيضًا، هذا يعني أنَّ جذر الثقافة جذر ميثولوجي تشترك الشعوب جميعها في إنتاجه. أصبحت الثقافة كلمة " واسعة الانتشار عندما استعارها إنسانيو عصر النهضة من حقل الفلاحة واستخدموها ابتداء من القرن السادس عشر، على أغلب الآراء مجازيًا للدلالة على "ثقافة الفكر" أي على فعل تنمية قدرات الفكر والعقل والروح"(7) في سوسيولوجيا الثقافة ثم راجت في القرن الثامن عشر، عبارات مثل: "ثقافة العلوم" و"ثقافة الآداب" و"ثقافة الفنون" الذي أصبحت فيه رمزا لثقافة الأنوار. ولكن لا ترد كلمة ثقافة إلا متبوعة بخبر. ولم ترد منفردة ألا في نهاية القرن الثامن عشر -قاموس لا لاند "(8). الناس استعاضوا عنها بكلمات أخرى مثل: تربية وأنوار وتعليم وتهذيب وآداب وفنون وحضارة أنها حركة ارتقاء من الحضارة الى المدنية.
 وتعني الثقافة "دراسة العلاقات القائمة بين العناصر المكونة لطريقة حياة بأكملها". كما تعني " السيرورة العامة للتطور الفكري، والروحي، والجمالي" و"انتاج وأشكال ممارسة النشاط الفكري، وتحديداً النشاط الفني" و"الثقافة بوصفها طريقة في الحياة".
 الثقافة هي أيضًا "ذلك المستوى الذي طورت فيه الفئات الاجتماعية نماذج مميزة للحياة، وقدمت شكلاً معِّبرًا عن خبراتها الحياتية الاجتماعية والمادية" كما يشخصها: ستيوارت هول وتوني جيفرسون.
 والثقافة "تدرس الأبعاد الضمنيَّة للنصوص الأدبية في التاريخ" دوليمور وسينفيلد.
والثقافة تعني أن "الرجال والنساء يصنعون تاريخهم الخاص، ولكن ليس في ظروف اختيارهم" ماركس.
 وتعني أيضًا "نمط الإنتاج بوصفه مركزًا حقيقيًا للتشكّيل الاجتماعي وتكوين الخطاب" انتوني ايستهوب.
 
         حاول كلكهوهن وكروبر – غي روشيه 1876-1960  منذ أربعة عقود من الزمن إحصاء التعريفات التي وضعها العلماء والفلاسفة والمفكرين للثقافة في كتاب خصصاه لهذا الغرض، فوصلا إلى حوالي 160 تعريفًا، غير أنَّ أقرب الحدود التي وضعت للثقافة إلى الدقة والشمول، هو التعريف الذي وضعه عالم الاجتماع غي روشيه عندما ذهب إلى القول :" أن الثقافة منظومة رمزية للتواصل بين أفراد الجماعة الاِجتماعية، كيفما كان حجمها، مثلها في ذلك، مثل أحد مكوناتها وهو اللّغة، وأنَّها أيضًا منظومة للانتساب والانتماء إلى هُويات تعمل الثقافة على إنتاجها والمحافظة عليها وتكريسّها، إنَّها القالب الذي ينصهر فيه أفراد الجماعة انصهارًا، كسبهم سمات وخصائص مشتركة في التفكير والإحساس والفعل، المتشكّلة إلى هذا الحد أو ذاك، والتي تصلح لأن تكوِّن من الأشخاص الذين يتعلمونَّها ويشتركون فيها جماعة خاصّة ومتميّزة"(9).
وخصائص تعريف غي روشيه تتمثل بما يأتي:
النسّقيَّة، نسقية الثقافة كونها بنية، أو منظومة قيمية رمزية تتضمن المعرفة الأفكار وأنماط التعبير وقواعد الأفعال والسلوكيات ومن ثم العلاقة التي يقيمها الأفراد المنتسبون إليها.
التَشكَّل حيث يشير إلى أن الثقافة – بما هي كيفيات مشتركة للتفكير والإحساس والفعل- تضعف وتقوى في مدونات وقواعد الحكم والسلوك والفعل وهكذا تشكّل الثقافة بمؤسساتها وقواعدها، الوجود الإنساني.
التشارك. هو مشاركة الجماعة بأنَّهم يحسون أنَّهم يشتركون في إنتاج التفاعل بين الأفراد. فالثقافة تنبع من سجل الوقائع الاِعتباطية لأنها ظاهرة جماعية تتكون من اجتماع الأفراد في إطار أنماط اعتمادهم المتبادل وأشكال تقسيم للعمل الاِجتماعي.
والاكتساب يعني أنَّ الثقافة تكتسب دومًا بالتربية والتعليم والتنشئة الاِجتماعية"(10).
 
 
ما المثقف؟
 يكتسب المثقف دلالته من الـ "ثقافة"، والثقافة لا يمكن القبض على دلالتها إلّا في علاقاتها بالطبيعة والحضارة والمدنية والممارسة والأنوار، والتقدم، والزمن، والتاريخ. وهذه المفاهيم تدخل في مفهوم الحداثة، ولها تاريخ يتشكل مع تاريخ الحداثة، ومع تشكل تاريخ الكون الاجتماعي الحديث". إذن، "فكل مفهوم هو علاقة، ولكل مفهوم تكوُّن وتاريخ" 
هذه عينة من التعريفات العامة للثقافة. ومع كل هذه التعريفات بقيت الثقافة صفة وليست اسمًا. ولنا أن نعدد ما شاء من الصفات الثقافية، الثقافة البدائية، الثقافة الطبيعية، الثقافة الوطنية، الثقافة الاشتراكية، الثقافة العلمية، الثقافة الأدبية، كل هذه الصفات والنعوت يعكس ضعف دورها، وقلة الاهتمام بها والسبب يعود إلى جملة عوامل نذكر منها:
  1. إن المثقفين ليسوا طبقة ليسوا فئة متجانسة ضمن طبقة معينة، إنّما هم شرائح موجودة في كل الطبقات الاجتماعية، ففي الطبقة البرجوازية مثقفون وفي الطبقة العمالية مثقفون وفي الطبقة الرأسمالية مثقفون وهكذا تتعدد شرائح المثقفين بتعدد شرائح الطبقات الاجتماعية. لذلك لا يمكن توصيفهم بأية صفة من الصفات الطبقية.
  2. ما يحدد العلاقة بين شرائح المثقفين هو الموقف من قضايا الإنسان، حقوق الإنسان، العدل، الاستبداد، العنف، البيئة الخ، عندئذ نجد مجموعة من شرائح المثقفين تلتقي عند هدف معين وتتبني في ضوئه موقفًا يسجل باسمهم.
  3. ثمة تقارب واضح بين فئات المثقفين عندما تكون مصالحهم مشتركة أو متقاربة، فمثلًا نجد ثمة تقارب بين مثقفي البرجوازية الصغيرة، ومثقفي الطبقة العاملة، ونجد التقارب أيضًا بين مثقفي الرأسمالية ومثقفي الأرستقراطية والأسر الرأسمالية، ونجد التقارب بين النساء والفئات الاجتماعية الأخرى، تبعًا للمشروع النسوي أو البيئي.
  4. بالنسبة لمجتمعنا، كانت شرائح المثقفين هي شرائح الثقافة الوطنية، بمختلف مستوياتها، فلم تكن الفواصل الطبقية في مجتمعنا حادة بحيث تعزل مثقف يساري عن الطبقة البرجوازية، وليس عندنا شرائح متميزة للمثقفين الرأسماليين أو الأرستقراطيين، وهذه تعود إلى طبيعة وتركيب المجتمع العراقي.
 
دور الثقافة والمعرفة التقنية
 نعني بالمعرفة العلوم الإنسانية، والعلوم الإنسانية تعني التنظيم العقلاني للموارد الثقافية، وتنظيمها في مجالات يمكن استثمارها. ومن هنا ركز عصر النهضة ومن ثم الثورة الفرنسية وأخيرًا عصر التنوير على أن تكون المعرفة سلطة. لأنها بنت أسسها على مجموعة من الممارسات الفاعلة، منها: التقنية، واعتماد العقل التجريبي للانتصار على الخرافة، ومن ثم سيطرة العقل على الطبيعة، وجعلها خالية من أفعال السحر. وبفعل سلطة التقنية المعرفية، تكون المعرفة غير ملزمة بأية حدود، فهي لا "تعرف حدودًا لا في استعباد الخليقة، ولا في المسايرة تجاه سادة هذا العالم. وتستخدم المعرفة كل أغراض الاقتصاد البرجوازي في المصنع، في أرض المعركة، في المدينة، في العمل، في البيت، في العلاقات، من أجل ترسيخ مبدأ التعامل معرفيًا مع الحياة. ومع ذلك لا تكون المعرفة متاحة للجميع، فهي دائما في أمرة الذين يقومون بشيء ما، أيًا كانت أصولهم لأنّ التقنية تتمتع بشيء من الديمقراطية تتوازى مع النظام الاقتصادي الذي تتطور معه. إنّ التقنية أساس هذا العلم، أو المعرفة"(11).
من هنا، وفي ضوء ما يحدث في العالم يعاني مفهومنا للمعرفة من قصور نظري وتطبيقي، فالمعرفة لدينا، في أفضل وجوهها هي المزاوجة بين الموروث الديني الماضوي والتقنية الغربية الحديثة، لإنتاج مجتمع توفيقي لا ينتمي كليًا للماضي حتى تتضح صورته، ولا للحاضر حتى يلتحق بالركب الحضاري. فمعرفة مثل هذه تبقى مشلولة ومتحجرة في بنية عقل عربي إسلامي متخلف، غير قادر على رسم أية سياسية لحداثة المجتمعات العربية. ومن هنا فالتوفيقية لمثل هذه المعرفة هي جزء أساسي، إن لم نقل العمود الفقري للسياسات القائمة على البعد القومي والديني والفئوي، وأخيرًا الطائفي والمحاصصاتي، هذا المنحى من الممارسات السياسية يشعر إن هو فقد القومية فقد الدين، وإن فقد الدين فقد القومية واللغة، فكيف إذا ما أصبح الفكر الديني متخليًا عن قوميته ليلتحق بقومية أخرى؟ سنجد المعرفة تتأرجح بين أنظمة متخلفة، تُرمم مؤسساتها كلما أصابها خلل في بنيتها بمشروعات ترقيعه، تتصل بالخدمات الهامشية وليس ببنية الدولة، ولا بفلسفتها. كما لا تتبنى علمًا وثقافةً ومعرفةً قائمةً على تصورات الحداثة. هذا المشكل استمر معنا منذ بداية نشوء دول الشرق الأوسط بعد معاهدة سايكس بيكو، وتعمق إلى حدّ المأساة بعد هزيمة حزيران عام 1967، ثم ترسخ بحدوث الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.. لينصب موضوع المعرفة في منطقة الشرق الأوسط ومن بينها الدول العربية كله على اعتماد ثقافة التخلف أساسًا لبنية التقنية العلمية في مجتمعاتنا. ومن يقرأ العقود الثلاثة بعد أحداث حزيران عام 1967 سيجد أن سبب هزيمة حزيران ليس ضعف السلاح ولا عديد الجيوش العربية، إنَّما في المنظومة المعرفية التي اقتيدت بها هذه المنطقة، إلى الهزيمة، وفي مقدمتها هوية الأنظمة السياسية وطبيعة تفكيرها التنموية والثقافية، مما سهل على أميركا أن تجد الذرائع -وهي كثيرة- لأن تبدأ بمشروع الشرق الأوسط الجديد، مبتدئة باحتلال بغداد عام 2003 ومن ثم تنصيب القوى الإسلامية كقوة معرفية دينية وقومية على قدرات العراق، ثم ما أصاب المنطقة من تشرذم كمحصلة   معكوسة للربيع العربي، "إن المجتمع العربي ما زال يتعامل مع واقع مستجد؛ ينتمي إلى أزمنة حديثة بأدوات ووسائل تنتمي إلى أبنية ثقافية قديمة، وهذا ما يؤول بالفعل الاجتماعي العربي إلى أن ينتهي إلى نتائج غير التي يخطط إليها"(12). فجمود الأبنية العربية الثقافية والمعرفية يقود دولنا إلى اعتماد خطاب ثقافي متخلف وغير قادر على تأسيس رؤية معرفية تنسجم وحجم المشكلات الاجتماعية التي نعانيها. وخلص عدد من الباحثين كما يشخصّهم الدكتور سهيل الحبيب، من بينهم: عبد الله العروي، محمد اركون، محمد عابد الجابري، خليل احمد خليل، وأدونيس، إلى "أن الثقافة هي المحدد لتخلف المجتمعات العربية وتقدمها، الأساس الحاسم في اكتساب الجماعات البشرية القدرة على الفعل الاجتماعي المثمر وكما يرى محمد عابد الجابري، فإذا كانت التنمية هي “العلم حين يصبح ثقافة” فإنَّ التخلف سيكون هو "العلم حين ينفصل عن الثقافة" أو هو "ثقافة حين لا يؤسسها علم"(13). أن النهضة العربية المزعومة "أعادت للماضي"، وليس للمستقبل، لأن المعرفة نأت عن العلم واتجهت صوب المقولات الدينية الماضوية التي وجدت أساسًا لإصلاح البشر من الشرور الاجتماعية والكونية، أي بناء السلم الداخلي للإنسان، وليس لبناء مجتمعات حديثة. وهكذا "فإن الثورات المسماة على التوالي(عربية) ثم (اشتراكية) ثم (إسلامية) قد فشلت كلها بطريقة دراماتيكية (مفجعة)، لأنها تفتقر إلى نمط في الفعل التاريخي مبني على عقل تحليلي ونقدي وعلمي متحرر- كما في أوروبا- من المسلمات الدوغمائية.."(14).
 
ما العمل؟
 سأدون هنا مقطعًا مهمًا، أختتم به دراستي هذه، من كتاب الدكتور عبد السلام حيمر: "في سوسيولوجيا الخطاب"، وبعنوان فرعي (من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل):
 "المنفعة، وتقسيم الأعمال هي المفاهيم الأساسية التي تجعلنا نقطع مع الرؤية السحرية المثالية للسلوكيات البشرية بما فيها سلوكيات المثقفين. “كان الفعل الثقافي يتموقع في نقطة خارج الكون الاجتماعي تمكنه من السمو عن الانخراط العملي المحموم في لُعَبْ ذلك الكون المختلف، سموًا يستحيل من دون تأسيس مراقبة موضوعية لما يجري في ذلك الكون من وقائع ومسارات، وإنتاج معرفة موضوعية بصدده. إنها الرؤية السكولائية الى العالم التي لا توهمنا فقط بأن مفاهيم العلماء والمفكرين توجد مبدأ ممارسات الناس (بدلًا من اعتبار تطبعات الناس هي المبدأ الواقعي لممارساتهم، بل توهمنا فضلاً عن ذلك، بأن العلماء والمفكرين يكونون جماعة خارج المجتمع، وخارج التاريخ، جماعة تطفو فوق تيارات المجتمع، وتتسامى عن الانخراط في منظورات، ونزعات جماعته، وفئاته، وطبقاته. إنها أسطورة المثقفين الذين يطفون فوق المجتمع من دون مربط أو مرسى، تلك التي روّجتها سوسيولوجيا كارل مانهايم، التي عدّها بورديو نوعًا من السوسيولوجيا العفوية التي ينتجها المثقفون تلقائيًا من ذواتهم. وفي كل الأحوال لا يبدو العمل الثقافي من هذه الزاوية عملًا كغيره من الأعمال التي يضطر الإنسان إليها قصد الضمان إعادة إنتاج ذاته اجتماعيًا في الزمان والمكان، عملًا يسري عليه ما يسري على الأعمال البشريَّة الأخرى كافة التي ترتبط بها سلبًا وإيجابًا في إطار شكل تاريخي معين من أشكال تقسيم العمل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، من بين ما يسري عليه في إطار ذلك، اتسامه بقدر ما من النفعية التي تأخذ أحيانًا كثيرة، مظهرًا خداعًا، مظهرًا لا نفعيًا. ومن واجب السوسيولوجيا أن تنزع الأقنعة عن كل السلوكيات البشرية"(15).
 
ألقيت هذه المقالة في مهرجان كلاويز في السليمانية 2017. وكانت المادة الأساس للمحاضرة في منبر التنوير، عام 2022.
 
الهوامش:
  1. ورديو منقولا عن: مجلة فكر ونقد، ترجمة حسن احجيج، ونقله عبد السلام حيمر في سوسيولوجيا الخطاب، ص 441.
  2. د. محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيغل، منشورات مركز الدراسات العربية للنشر والتوزيع، بيروت- لبنان، ط1، 2008، ص 253.
  3. عبد السلام حيمر، سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين، منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت- لبنان، الطلعة الأولى، 2009. ص 15.
  4. مصدر الأسبق ص 15.
  5. سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين ص 17 و19.
  6. المصدر السابق ص 5
  7. المصدر السابق، ص 20
  8. سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين. ص 20
  9. عبد السلام حيمر. في سوسيولوجيا الخطاب. منشورات الشبكة العربية للدراسات، والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2008. ص 32.
  10. سوسيولوجيا الثقافة. ص30 بتصرف.
  11. دركهايمر، وادرنو، جدلية التنوير، ترجمة د.جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت- لبنان، ط1، 2006. ص 24.
  12. سهيل الحبيب، معالم في خطاب النقد الثقافي العربي المعاصر، عالم الفكر، ع 1، مجلد36، يوليو- سبتمبر 2007، ص 230.
  13. لمصدر السابق، ص 231.
  14. ما يقول عبد الله العروي في مفهوم العقل. نقلًا عن عالم الفكر ص 232.
  15. في سوسيولوجيا الخطاب، ص 427.