أيار 18
  
  في السادس والعشرين من كانون الأول 1933 ساعد أحدهم كاثرين سوزانا بريتشرد، المريضة والنحيلة، لتنزل سلم السفينة الى رصيف ميناء فريمانتل. قبل هذا، في لندن، خلال عودتها من رحلتها الى الاتحاد السوفييتي، علمت من عنوان رئيسي في جريدة بأن زوجها الكابتن هوغو ثروسيل VC قد انتحر في البيت في غرينمونت. لقد تم في الميناء، على الرغم من وضعها الصحي الضعيف، تم تفتيش أمتعتها تفتيشا دقيقا. إدعى مفتش المسافرين المسؤول عن تفتيشها بأنه قد "جرى التحقق من أمتعة السيدة ثروسيل بمراعاة الخصوصية وبدون أي إجراء غير لائق خارج السياق القانوني"(1)، ولكن أزيلت عدة مواد من أمتعتها وصودرت. أشار تقرير لفرع تحقيقات الكومونولث في 12 كانون الثاني 1934 الى أنه قد "تم العثور فقط على ثلاث روايات مكتوبة بالروسية. كان عندها أيضا نسخ من مراسلات الصحافة الأجنبية، هي ضمن قائمة الممنوعات عندنا، وقد صودرت"(2).
إن جاك بيسلي في كتابه الرئيسي الثاني عن كتابات بريتشرد يخضع للمساءلة تثمين دروزيلا ماجيسكا لإلتزام بريتشرد بالواقعية الاشتراكية. تنص ماجيسكا في (منفيون في الوطن) على أن " كاثرين بريتشرد ذهبت سنة 1933 الى الإتحاد السوفييتي وعادت ملتزمة بالواقعية الإشتراكية... لم يكن هذا تغيرا مفاجئا أو دراميا بالنسبة الى كاثرين بريتشرد، بل هو تقوية وتأكيد لجانب موجود أصلا في عملها"(3). ينتقد بيسلي بسخرية عمل مسؤولي قسم تفتيش المسافرين "في ذلك اليوم المشرق المشمس في فريمانتل" الذين كانوا مسؤولين عن تفتيش أمتعة بريتشرد:
"إن المسؤولين، المهملين، قصيري البصر، الذين كانوا من دون شك متلهفين للذهاب الى بيوتهم ليجتمعوا مع عوائلهم في العطلة، لكن هذا لم يمنعهم من أن يكونوا يقظين للإمساك بكائنات كانت ستغزو البلد وتنتشر فيه انتشار الأرانب، والعصافير، والزرازير، والثعالب، وضفادع الطين، ونقاد الأدب، لأنه قد أخفيت هناك، في أمتعة السيدة كاثرين بريتشرد ثروسيل، ببراعة، لعنة أدبية أجنبية، قرحة تدعى الواقعية الإشتراكية سرعان ما ستعلن كاثرين سوزانا بريتشرد أول ضحية لها"(4).
يوجد فهم مقبول عموما بأن مهنة بريتشرد الأدبية كانت متأثرة بالتزامها السياسي وأن عملها، خصوصا رواياتها الأخيرة، تضرر بشكل جذري ببروغاندا مائلة وبمحتوى وعظي. إن الميل الى نقد روايات بريتشرد بهذا الأسلوب يمثل التوجه العام للنقد الأدبي في تعليقه على الكُتّاب الشيوعيين، وفكرة الانشغالات ومتطلبات السياسة المتعارضة بالضرورة مع الكتابة كانت مأخوذا بها في الحلقات الأدبية على نطاق واسع. هذا الميل أدى الى فهم عام للكُتاب الشيوعيين، أمثال بريتشرد، بوصفهم معطلين بنتاج نظرية أدبية ازدهرت في استراليا وخنقت طاقاتهم الإبداعية.
إن اللجوء غير المناسب للعديد من المحاججات النقدية بخصوص كتابة بريتشرد، وأيضا، بخصوص عمل أي مؤلف منخرط في الحركة الشيوعية حول العالم في ذلك الزمن، بأن تميل هذه المحاججات الى استخدام مصطلح الواقعية الاشتراكية بطريقة قليلة الاحترام أو إقصائية. مع ذلك حين يكون المصطلح محللا عن قرب يتفق قليل من المفسرين على معناه الصحيح وأقل منهم يبقون مختارين لأن يضعوه في سياق تاريخي معين.
المهم أن نتذكر بأن نظرية الواقعية الاشتراكية تفردت في أنها نشأت كخطة سياسية وقُصد منها أن تطبق على ممارسة النتاج الثقافي وليست عملا فكريا قصد منه أن يكون منجزا. لقد صيغت وجرى الدفع اليها في بلد يعيش انقلابا سياسيا هائلا وفي زمن يتصف بعدم استقرار كبير في عالم السياسة. لهذه الأسباب فإنها جرى تعريفها في الوثائق الرسمية تعريفا صارما تماما، ولكنها من جانب آخر أثبتت أنها نظرية مطواعة ومتقلبة. بسبب الفشل في معرفة هذه العناصر حيث يقدم العديد من نقاد الأدب تفسيرات غير ملائمة للواقعية الاشتراكية في عمل بريتشرد.
أود أن ألقي نظرة سريعة في البداية على تطور الواقعية الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي. تأسس اتحاد كُتّاب الاتحاد السوفييتي بقرار من الحزب بتاريخ 23 نيسان 1932 وعقد المؤتمر الأول للاتحاد في آب-أيلول 1934. قدم أندريي زدانوف سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في يوم 17 آب 1934 للكُتّاب المجتمعين أول ملامح نظرية إجبارية للنتاج الأدبي:
"لقد وصف ستالين الكُتاب بأنهم مهندسو الأرواح البشرية. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني، في المقام الأول، معرفة الحياة لوصفها وصفا صادقا في أعمال الفن، لوصفها ليس مدرسيا، وليس بطريقة خالية من الروح، وليس بوصفها "واقعا موضوعيا" ببساطة، بل لوصف الوقائع في تطورها الثوري. علاوة على ذلك، إن الصدق والصلابة التاريخية في الوصف الفني يجب أن يكونا مرتبطين بمهمة التحول الأيديولوجي وتثقيف الشعب العامل بروح الاشتراكية. هذا المنهج في الأدب والنقد الأدبي هو ما ندعوه منهج الواقعية الاشتراكية"(5).
حتى ولو ركزت الخطابات الأخرى على أهمية الحرية الإبداعية والمنافسة، فإن خطاب زدانوف قُبِل من دون سؤال كأمر من المكتب السياسي(6). إن النظام الأساسي لاتحاد الكُتّاب السوفييت أقر بوضوح تام التزام الاتحاد بممارسة الواقعية الاشتراكية.
يتتبع سي فوغان جيمس الفرضيتين البارزتين اللتين يسلم بهما مؤرخو الأدب عن أصل النظرية التي أصبحت الواقعية الاشتراكية، وهو يجادل معارضيها بأن الواقعية الاشتراكية هي التجلي الثقافي للسياسة الستالينية. وبكلمات أخرى فإن الواقعية الاشتراكية ابتكرها ستالين، وزدانوف، وغوركي، وجرت دعوة الفنانين للالتزام بها في أوائل الثلاثينيات عن طريق الاتحادات الفنية.
إن الواقعية الاشتراكية بالنسبة الى أنصارها تطور على نطاق عالمي في الأدب الذي يبرز خصوصيات محلية فقط، وبعيدا لكي تكون نظرية جديدة.
إن الواقعية الاشتراكية ينظر اليها بوصفها أكثر من مجرد تمثيل، ضمن سياق أيديولوجية ماركسية لينينية، لتطورات فنية على النطاق العالمي لنهوض البروليتاريا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. هذه النظرية لم تسمى أو تعرًف حتى 1932-1934(7) أصبحت الواقعية الاشتراكية هي "الأسلوب" الرسمي للأدب السوفييتي. آنذاك، ومنذئذ، فإن مشكلة التحديد بالضبط لما تعنيه الواقعية الاشتراكية وما تُكوِّنه نظريةً أدبيةً، هي مشكلة صعبة. إن النظرية وقد وضعت في حقل الواقعية التي نُظر اليها بوصفها نشأت من الحركات الفنية الواقعية للعشرينيات والتي كانت تتوافق مع المادية في الفلسفة، وهكذا استقبل الكُتّاب الماركسيون الإقرار الرسمي للحزب ليكون صحيحا.
وكما لاحظ داميان غرانت:
"كلمة الواقعية... يجب أن تكون بالتأكيد الأكثر استقلالا، الأكثر طواعية، الأكثر إستثنائية من بين المصطلحات النقدية. لا شيء يبرز عدم استقرار الكلمة المزمن بروزا أكثر وضوحا من ميلها غير القابل للسيطرة الى جذب كلمة أخرى، أو كلمات، مؤهلة لتقديم نوع من الدعم الدلالي"(8).
وهكذا فإن جمع "الاشتراكية" و"الواقعية" يعطي معادلة مثيرة للاهتمام.
يلاحظ إدوارد براون:
"بما أن المصطلح اشتراكية له مضمون إيجابي ولكن ليس له معنى أبدا كالمستعمل للأدب فإن معنى "الواقعية الاشتراكية" يمكن أن يعمل بنجاح في التطبيق ومن خلال التوجيه، ويكون في النهاية على وفق تعريف السلطة له"(9).
لقد وُصف مطورو الواقعية الاشتراكية بأنهم مخططون حسابيون، يركزون على كونهم "مهندسي الأرواح البشرية"، وينطلقون بمحض الاختيار، كثوريين عاطفيين غير مهيئين، يسوقهم شيء قريب من الذعر لإقامة شكل من أشكال السيطرة(10).
إذن، هل كانت بريتشرد، أم لم تكن، واقعية اشتراكية، وما كان لهذا من توريطات لكتابتها؟ لقد كانت سنة 1933 السنة الأكثر اضطرابا في حياتها. إنها السنة التي سافرت فيها السفرة الأولى والوحيدة الى الاتحاد السوفييتي والسنة التي أقدم فيها زوجها على الانتحار. حتى لو كان الأمر تطلب سنة أخرى أو نحو ذلك قبل أن تُدعم الواقعية الاشتراكية رسميا ومن ثم تُفرض في الاتحاد السوفييتي، فمن المعترف به على نطاق واسع بأن تأثيرها في اتحادات الأدباء، بما فيها اتحاد الأدباء الأجانب الذي قضت فيه بريتشرد وقتا طويلا خلال زيارتها، قد ترسخ جيدا بحلول العام 1933. كانت تلك سنة بداية جديدة لكتابة بريتشرد ، حيث انتقلت بها من كونها كاتبة رومانسية مهتمة بالتراجيديا البشرية عموما، الى كاتبة واقعية اشتراكية ملتزمة. أعتقد أن علينا قبول تأكيد ماجيسكا بأن بريتشرد أصبحت على صلة بالواقعية الاشتراكية خلال زيارتها الى الاتحاد السوفييتي وقد تبنتها بحماس وسرعة بوصفها تناولا صحيحا وقيما للنتاج الأدبي(11). بينما يوجد دليل بسيط لإثبات هذا تاريخيا، إذ يكشف التحليل النصي لأول نتاج طبع بعد عودتها، وهو (روسيا الحقيقية)، الى أي مدى طبقت فيه انتماءها الى النظرية كما طبقت فيه النظرية في كتابتها.
عند عودتها الى أستراليا وجدت بريتشرد نفسها في ظروف مالية صعبة، وقد قبلت بابتهاج العرض الذي تقدمت به اليها جريدة (ملبورن هيرالد) لنشر سلسلة مكونة من أربعة عشر مقالا تذكر فيها بالتفصيل ملاحظاتها وما اطلعت عليه في الاتحاد السوفييتي. ظهر (روسيا الحقيقية)، وهو كتاب يضم هذه المقالات مجموعة، في العام 1935 صدر عن (مودرن بوبلشرز) في سيدني.
لقد تم مدحه من قبل الصحافة الشيوعية كما مدحته نيتي بالمر في (كل شيء عن الكتب) بوصفه رواية وقائعية ونزيهة للحياة في الاتحاد السوفييتي. حقا لقد قدم الكتاب رواية متألقة عن الجمهورية الاشتراكية الناشئة بفصول تسرد كل شيء من المزارع التعاونية الى المسرح.
إن بريتشرد بالنظر الى لغة النص هي مراسلة وشاهدة على الأحداث أكثر من كونها شيوعية تزور بلدا شيوعيا. يُقرأ الفصل بالضبط كريبورتاج صحفي، وهذا لا يضع الفصول ضمن سياقها الأصلي كمقالات للنشر في جريدة فقط بل وباعتبارها "أخبارا" تقدم للقارئ روسيا والمطلوب فيها أن تكون "حقيقية". عناوين الفصول تشبه كثيرا العناوين الصحفية... "الرفيق الطفل وأمه يملكان حق الأسبقية" و" امرأة مهندسة تروي قصتها" و"العدالة الاجتماعية والمحاكم السوفيتية". قدمت بريتشرد نفسها بوصفها مسافرة " تختار طريقها الخاص بملء حريتها" و "تتجول بنفسها"(12)، هذا، كما لاحظ ديفيد كارتر، الذي يجيز لها بأن تكون " السائح الذي يكتب، ويكتب ليطبع. المؤلف الرائي وليس مجرد الناظر"(13).
 تنفر بريتشرد من أن تعطي رواية سفرية عن رحلتها، وبدلا من ذلك، مع ابتداء كل فصل يجد القارئ نفسه "في وسط الأشياء" في رواية أخرى أو قصة. إن تسلسل الفصول لا يتبع نظاما تاريخيا أو أي تصور لخط رحلة، بل كل فصل يقف بوصفه صورة قلمية موجزة عن الحياة الروسية، وبجمع الفصول معا تكون بورتريها للشعب الروسي ووجوده في اليوتوبيا الشيوعية. إن نص (روسيا الحقيقية) يقدم رواية دقيقة ومعبرة عما اطلعت عليه بريتشرد في الاتحاد السوفييتي.
من المفيد، بحثا عن تلميحات، أو ربما نقطة بداية لإنمائها الى الواقعية الاشتراكية، أن نبحث في التحقيق الصحفي عن نظريات ومنظرين تم اتخاذهم كمراجع في النص، والمرجع الأكثر تأثيرا وأهمية هو مكسيم غوركي الذي ظهر متأخرا في الكتاب، في الفصل الحادي والعشرين المعنون "الثقافة الأدبية في الاتحاد السوفييتي". هذا الفصل مثل باقي الفصول يتحدث بمصطلحات متقدة عن الشعب، والسياسة، والثقافة والحياة الاجتماعية في الاتحاد السوفيتي، يمجد اتحاد الكتاب السوفييت.
إن بريتشرد قد أغرمت بالطريقة التي كان بها الاتحاد المشكل حديثا تواقا لإقامة روابط بينهم وبين شعب الاتحاد السوفييتي العامل. تمضي في اقتباس طويل نوعا ما لأقوال غوركي وهو يسند الموقف السائد بين الكتاب لنظرية الواقعية الأدبية السوفييتية، إن تصريحات مثل "كلما كانت اللغة أبسط كلما كان أفضل" و"الحكمة الحقيقية تعبر عن نفسها أوضح" و"أغلب الكتاب السوفييت يقبلون الحقيقة البديهية من أن "الحقيقة أغرب من الخيال القصصي" ويعملون عليها حرفيا"(14) نموذجية للتصريحات التي ستستخدم فيما بعد لدعم الواقعية الاشتراكية المقررة والمقامة حديثا خلال سنة أو نحو ذلك.
تمزج بريتشرد في (روسيا الحقيقية) تشكيلة من الأنماط المختلفة للتعبير والتأليف، اتفاقا كما هو واضح، داخل مجلد يتحدي أي تصنيف سهل له. مع أنه يجب أن يكون منظورا اليه بوصفه ريبورتاجا فإن الادعاءات بأنه لم يَشُبْه شيء من الخيال الأدبي تمثل إشكالية باستخدام أدوات الواقعية الاشتراكية. إن تعريفات الأدب والنتاج الأدبي غير واضحة غالبا في نظرية الواقعية الاشتراكية السوفييتية. لقد تم تمييز صغير، مثلا، بين الأدب كفن والأدب كصحافة، فيما يمكن النظر الى هذا كمثال آخر على تشريع السياسيين للأدب بشكل أخرق، ينظر اليه كدليل على ما للواقعية الاشتراكية من تأثير على النتاج الأدبي. إن بها حاجة الى الخيال الأدبي، أو الأدب كفن، لأن يكون مهتما أكثر بالأفكار السياسية والاجتماعية أكثر من التسلية، كما أن بها بحاجة لأن يكون الأدب ذا طبيعة تعليمية. هكذا تميل الكتابة الخيالية الأدبية الى أن تكون أكثر واقعية، بينما الأدب بوصفه تقريرا صحفيا، أو ليس خياليا، مطلوب منه أن يعرض الأحداث إيجابيةً وملهمةً، سيكون هذا التقرير بالضرورة، ميالا الى الخيال الأدبي. وفقا لهذا فإن ميل كلا هذين النوعين الأدبيين للتحرك نحو تسوية مركزية، مدمجة، شبه خيالية، ليست مفاجئة.
هذه النزعة مبرزة بإسهاب في (روسيا الحقيقية). تفتح بريتشرد سردها عن رحلتها بمقدمة للتناول المزمعة عليه في كتابتها: " أنوي الكتابة [عن الأماكن التي سافرت اليها] بنثار ملون، أو كما كان سيقول والت ويتمان أو مايكوفسكي، قطرات عبارات، أرسمها اقتداء بالرمزيين الفرنسيين، صورا تغلي وتندفع فوق بعضها بعضا، كما استقرت في ذهني(15). إن القرار مباشرة بوضع هذا النص الرحلاتي على نمط فني، وبالنتيجة، خيالي أدبي، قرار مثير للاهتمام. في حين أن هذا يخدم في إبعاد النص عن "الصحفية" أو التقرير الصحفي الجاف، فإنه أيضا يجعل مصداقية ملاحظاته عرضة للمساءلة. إن اختيارها وصف صور رحلاتها وما شهدته فيها بإسلوب الرسامين بدلا من، على سبيل المثال، أسلوب فوتوغرافي، إختيار يوحي بشيء أقل من " إظهار كل شيء". إن نظرة " الراوية" مركزة دائما بهذه الطريقة بحيث أن صوت الراوية يفقد بسرعة قوته المصداقية، وهذا قد بلغ قمته الصادمة في سرد قضية‘chiska’ أو ما عرف ﺒــ "تنظيف الحزب" في الفصل16. بعد تعريف موجز وتفسير وتاريخ عملية "تنظيف الحزب" تسجل بريتشرد ملاحظاتها على حدث كهذا. أولا قصة (ماريا سيروشتانوفا) وهي في الشيخوخة عملت بجد واجتهاد خلال حياتها كلها لخير الحزب، انه "من الصعب عدم العمل فيما يوجد الكثير لعمله". إنها متنبئة على نحو ما، وهي تعطي ترحيبا حماسيا بينما تنزل من الحامل وتنضم الى حشد من الرفيقات وهن يضحكن ويثرثرن. القصة الثانية لـ (أوليا سميرنوفا) التي حُسبت أقل جدارة بالثقة من سابقتها. روت قصتها بوضوح ولكنها واجهت اعتراض زميلاتها العاملات اللواتي اتهمنها بأنها نشأت بعيدا عن العمال ناسية من ساعدها لتكون مهندسة جيدة ومهملة لطبقتها السياسية.
يعرض الفصل مثالا جيدا على استخدام بريتشرد لكل عنصر من عناصر الواقعية الإشتراكية معا لبناء نصها. يبدأ بمثال عن ideynost أو تجسيد الأفكار السياسية والاجتماعية ذات الطبيعة التقدمية كعناصر لمقاييس الضبط في الحزب الشيوعي موجزا بتفصيل غاية في الدقة. إن عنصر klassvost أو التعبير عن خصائص الطبقة في الفن متداول عندما يجري عرض ادعاءات خدمة، أو الفشل في خدمة البروليتاريا في محيط العمل. إن  Partynost أو التعبير عن روحية الحزب بالتوافق مع أهداف ومناهج الحزب الشيوعي متأصل في عموم بنية الفصل، حيث نجد الحزب منظمة ديمقراطية  جيدة التنظيم ونظيفة ويقظة. أما Narodnost أو التعبير عن أسلوب وطني أنموذجي مستخدم في عرض القصص مع الأسماء والأعمار. إن المهن والأماكن تمنحها نبرة محلية أو نموذجية. كل من هذه القصص لها ختمة ايجابية بتعابير العمال وحزبهم... البطل الاشتراكي. لم تبدر محاولة تقدمية وتقف بريتشرد معجبة جدا بالنشاط الذي يجري حولها، فالحكم الذاتي والحكم من الأنداد مرحب به، وربما مطلوب برغبة شديدة، من دون التفكير بصلاحية المقاييس الأخلاقية والقانونية التي تجري بموجبها هذه الأحكام. هذا الميل لتجاهل مساحات النقد الواضحة بشكل هائل ومحسوس عبر النص كله. بعيداً عن الاستسهال الذي تطبق بها نظرية الواقعية الاشتراكية في (روسيا الحقيقية) فإن نقلها الى أستراليا ما قبل الاشتراكية كان إشكاليا الى أبعد حد، خصوصا حين يكون الموضوع غير الاتحاد السوفييتي.
يتفحص فيك وليامز في مقال معنون (الفن يمكن أن يكون خط الجبهة الأمامي) نشر سنة 1951 المشاكل التي واجهت الكُتّاب الشيوعيين الأستراليين في محاولاتهم وضع الواقعية الاشتراكية موضع التطبيق في بلد لا اشتراكي(16). ينص وليامز على أن دور الفنون في الصراع الطبقي جرى التقليل من أهميته والتقليل من استخدامه باستمرار، وهذا، كما يجادل وليامز، ابتداء " لأن الفن التقدمي في أستراليا غالبا لا يذهب الى أبعد من الواقعية الاشتراكية"، ويمضي وليامز ليوجز الدور الذي يلعبه الأدب داخل الاتحاد السوفييتي " في هذه الوحدة الوليدة حديثا لليد والعقل" كما دلت نظرية غوركي القائلة بأن العمل الإبداعي " هو الجذر الوتدي للثقافة" ثم يطرح سؤالا:" ولكن ماذا عنا نحن الذين لم ننجز الاشتراكية؟ هل لدينا الأساس في ظل الرأسمالية لخلق فننا الاشتراكي الخاص بنا.. يقول غوركي: بأن الواقعية الاشتراكية في الأدب يمكن أن تعلن عن نفسها فقط كانعكاس لحقائق العمل الإبداعي في ظل الاشتراكية.
وأن النظير لهذا العمل الإبداعي في السياق الأسترالي هو " النضال السياسي الطبقي الواعي لبناء حركة ثورية وحزب ثوري لإزالة الرأسمالية وخلق الاشتراكية".
تعلن إيفيلين والترز في العام 1952 بأن جي دي بليك انتقد أعضاء في جمعية فناني (فيكتوريان) لخلقهم أعمالا حيث التركيز " يبقى على نقد القديم" الذي لا يزال ضمن تصنيف واقعية برجوازية حقيقية". تتفق والترز مع هذا التقييم وتضيف: "هذا الفشل في الإشارة الى الجديد بشكل واف... يظهر كم هي الأفكار المتقدمة ناقصة النمو إن لم يجر التمكن من ترجمتها الفنية في الرسم"(17). إن التطبيق الفعلي لهكذا توكيدات هو مفقود بشكل بيِّن عند بليك ووالترز، ولكنه بالتأكيد ليس مفقودا عند إيفيلين هيلي التي تفتتح القسم المعنون " الواقعية" في كتابها (فنان اليسار) هاتفة:" الفنانون لا يعملون بشكل عادي وفقا للتعريفات"! ردا مباشرا على مقال والترز ونقد بليك. إنها تثير السؤال:
" كيف يمكن لفنان يعمل في مجتمع لا اشتراكي أن يقحم هدفا اشتراكيا في فضاء- إطار الرسم ما عدا كليشة ما مثل علم، أو شمس، أو قبضة يد، أو نص... علاوة على ذلك فإن الرسومات في الاتحاد السوفييتي التي تعبر عن عمال واثقين قد تعكس رضا بالمهنة أو قبولا بالنظام"(18).
وعلى الرغم من عدم وجود تنظيم شيوعي في زمن الثلاثية، وصراع للعثور على ناشرين لأعمالها التالية، خصوصا روايتها الأخيرة (اللهب السامي)، وصراع مع استقبال النقد السائد غير المتحمس لأعمالها. فأن كل هذه الصراعات بقيت موثقة توثيقا جيدا. إن بريتشرد وهي واقعة بين ضغوط أقصى اليسار وأقصى اليمين للطيف السياسي بقيت مخلصة للواقعية الاشتراكية كنظرية بغض النظر عن المعوقات التي تضعها في طريقها. كان تناولها للنتاج الأدبي عند هذه المرحلة من حياتها ككاتبة يرجع صدى أفكار عظماء المنظرين الجماليين الشيوعيين أمثال غوركي، ولوكاش، وبريخت. إن المضمون السياسي التقدمي كان حاسما لترسيخ أدب يذهب الى أبعد من مجرد التسلية أو الهروبية، ولكنه يواجه نظام النشر الرأسمالي ويعلم الناس بوجوب أن لا يبقوا بعزلة قومية، بل يجب أن يتعاونوا في فهم لآداب بلدانهم العظيمة، يجب أن يبرز أفكار الحزب الشيوعي، ولكن ليس بمجرد ترديدها كالببغاء أو محاولة فرضها فرضا، بل على الأصح يجب أن لا تقحم النوايا إقحاما في عمل فني، يجب أن تكون جزءا لا يتجزأ منه ويجري التعامل مع العمل ككل متجانس(19).
إن هذا الكلام يلقي الضوء على التعقيد الذي عاشته الواقعية الاشتراكية في أستراليا من زمن إدخالها في العام 1933، لقد كانت نظرية أدت الى الازدهار وشهدت تطورا جديدا مثيرا ومحفزا في الأدب والنظرية الجمالية.
 
هوامش
 
(1) Katharine Susannah Prichard Security notes. Date 11/12/33. ANL MS 8071/22/5/155 (Ric Throssell MS 8071, Box. 22, series 5, Folder 155). 
(2) Ric Throssell, My Father's Son, Richmond, 1987, p. 141.
(3) Drusilla Modjeska, In Exiles at Home, 1991, p. 120
(4) Jack Beasley, A Gallop of Fire. Katharine Susannah Prichard: On Guard for Humanity, Earlwood, 1993, p. 142.
(5) Andrey Zhdanov, quoted in George Becker, Documents of Modern Literary Realism, New Jersey, 1967, p. 487.
(6) Herbert Ermolaev, Soviet Literary Theories 1917-1934: The Genesis of Socialist Realism, Los Angeles, 1963, p. 143.
(7) Vaughan James, Soviet Socialist Realism: Origins and Theory, New York, 1973, pp. x-xi.
(8) Damian Grant, Realism, 1970, p. 1.
(9)Edward Brown, Russian Literature Since the Revolution, New York, 1963, p. 33. This is an idea which is pursued further by Gleb Struve in Russian Literature Under Lenin and Stalin, London, 1971, 10 James, cit., pp. 42-3.
(10) Modjeska, cit., p. 120.
(11) Katharine Susannah Prichard, The Real Russia, 1935, p. 7.
(12) David Carter, ‘A Career in Writing: Judah Waten and the Cultural Politics of a Literary Career’, PHD Thesis, Deakin University, 1993. p. 3.
(13) The Real Russia, cit., pp. 254-5.
(14) Ibid., p. 1.
(15) Vic Williams, ‘Art can be a Front Line Weapon’, Communist Review 117, September 1951, pp. 924-7.
(16) Evelyn Walters, ‘Close Formalist Gaps in Art and the Party!’, Communist Review, no. 128, August 1952, pp. 241-6.
(17) Evelyn Healy, Artist of the Left: A Personal Experience 1930s-1990s, Left Book Club, Sydney, 1993, p. 9.
(18) She points out that: ‘Texts at that time made a work either “commercial” or “literary” and were largely unacceptable in western “fine” art until the promotion of pop art in the sixties’.
(19)Throssell, op cit, p. 126.  
  
 
العنوان الأصلي والمجلة التي نشرت المادة  
Socialist realism in the Australian literary context: With specific reference to the writing of Katharine Susannah Prichard, Journal of Australian Studies Volume 21, 1997 - Issue 54-55, pp:38-44