أيار 04
صيّاد                                                                  
يبرم عجينته على طرفِ خيطٍ منزوع الشوكة،
 ويلقيه في البحر.
يعود دون الصيّادين بلا عجينة ولا صيْد.
في المقابل يأتي لزوجته بكيس من الحصى؛
تصنع منها قلائدَ وتبيع.
 
من أجل فصاحة لسانه
يمشي ويهذر ويهشّ بعصاه ذات اليمين وذات الشمال.
يعدّه الناس شريراً، فيتجنبه الكبار ويتحيّنه الصغار؛
يناكدونه ويتابعون مسيره،
حتى يغيب في منعطف الطريق.
في لحظة ولم يكن تنبّه لكلامه وهو ينطق السين ثاءً،
واللعاب يسيل خارج فمه بلا مصدّات،
يهبّ طفلٌ شجاع؛
عمّو.. عمّو.. محتملاً لسع عصاه،
ليمسك بيده ويرجع به حيث نقطةٌ من الأرض.
هناك ينحني ويعود يسلّمه طقم أسنانه،
على وقع لسعات من عصاه،
مرّة أخرى.
 
قرار يغسله المطر
حسبتْ هذا آخر شيء تفعله،
حينما تحدّت غزارةَ المطر وعصفَ الريح،
وخرجت تدسّ في صندوق بريده،
رسالتها التي أعربت فيها عن رغبتها عنه.
بعد يوم والمطر ما يزال يهطل،
 قصد بيتها.
هناك اعتذر لها أنّ رسالتها كانت مبلّلة بالمطر،
فتعذّرت قراءةُ حروفها،
وأنه يقدّر شجاعتها على تأكيد حبها في ظرف ممطر كهذا.
كذلك يشكرها على كوب الشاي الدافىء الذي أعدته له،
بخفّة مشهودة ريثما ينتهي مطر،
ظل ماثلاً حتى يوم بعيد.
 
نوافذ الزجاج
تقف خلف لوح زجاج، تنظر إلى روّاد المطعم،
يأكلون ويشربون،
ويتركون ما فضل منهم على الموائد والطاولات.
حمامة زرقاء نظراتها جائعة سود،
لا أحد يقدر على إطعامها،
ولا هي قادرة على النفاذ إلى هناك،
سامح الله نوافذ الزجاج!
 
فعل الخير
تعاتب الشعرةُ العجينةَ؛
ما لكِ لا تقاومين انسلالك مني،
حتى صرنا مثلاً للرخاوة بين الناس؟
تردّ الشعرةُ؛
لأنّ وراء ذلك فعل الخير.
 
مريم
تذهب مريم إلى دائرتها وتعود تغنّي،
وتحمد الله على أنّ جمالها لم يعكّر حياتها يوماً،
لكنها تفكّر دوماً بزوجها الضابط الوسيم على خطوط النار.
تلك اللحظات مسّ قلبَها كدرٌ قطعت على إثره أغانيها،
ورمت حقيبتها على ظهرها.
لم تلتفت طويلاً إلى جنود يطوقون في عربة صفراء،
تابوتاً بلون التراب.
عندما وصلت إلى دائرتها عنّ لها أن تعود إلى بيتها،
على نداء خفي غير مريح.
هناك بين ظنونها وارتجاف جسدها،
وجدت الجنود أنفسهم يطرقون باب بيتها.
لم تصدّق مريم حقيقتهم وتتركهم على حالهم؛
يطرقون.. ويطرقون.
 
حال الدنيا
في المقبرة امتدّت له يدٌ صافحها،
وأعجبه أن يسأل صاحبها؛
كيف حالها يا والد؟
جاءه الجواب حارّاً:
لا أحلى من حال دنياكم يا ولد.
 
حيّة البوّا
تقص علينا قصّتُنا القصيرةُ جداً،
قصتَها التالية:
تقتنص حيّة البوّا،
صيدها الذي غالباً ما يكون أضخم منها بكثير،
وتسبت ستة أشهر تهضم فيه،
حتى تأتي عليه.
تسكت لحظة قصيرة جداً وتضيف:
هكذا نحن غالباً في هذا المجال.
 
في الحانة
يجلسان متقابلين والحانة الصغيرة شبه خالية.
يأكلان في صحن واحد،
ويقتسمان الشرب من زجاجة واحدة.
يتكلم الأكبر بلا انقطاع،
وينصت الآخر بلا ملل.
جسد الأول ثابت في مكانه،
بينما جسد الثاني يهتزّ على اهتزاز ساقيه.
الكبير يُشبه المعلّم والصغير يُشبه التلميذ.
عينا المعلم تائهتان في مدى خارج الجدران،
عينا التلميذ غائصتان في وجه المعلم،
تتشربان كلامه.
كان المعلم أنا..
والتلميذ لا أعلمه.
  
كاسر الأمواج
يستوقف نظرنا خطّ صخريّ على هيئة قوسٍ مفتوح الطرفين،
أقيم على البحر لا تفصله عن الساحل غير مئات الأمتار،
تنفذ منه وتعود إليه سفن سياحية مكتظّة الركاب.
سألتْ وما يزال نظرها منصبّاً هناك:
ما هذا؟
قلت:
هو ما يدعى بكاسر الأمواج.
وماذا يعني كاسر الأمواج هذا؟
هو حاجز كما تريْن؛
يصدّ عتوّ الموج نحو الساحل لئلا يحطّم ما عليه.
كانت تنظر إلى الموج الهادر ياتي مجنوناً من أعماق البحر البعيدة،
ثم يغدو مسالماً أخّاذاً بعد أن يمتصّ غلواءه كاسر الأمواج هذا.
آه.. لقد فهمت.
وتضع عينيها في عينيّ تكسران موجي على سواحلها،
وتضيف:
حقاً.. عمل من هذا القبيل شيء عظيم.
 
أمزجة الأماكن المتباعدة
كانا يزحفان أحدهما نحو الآخر،
عبر المسافة الفاصلة بين بلديهما البارد والحار.
عندما وصلا نقطة اللقاء،
فاجأته بالكِمامة السوداء تغطي وجهها،
وفاجأها بوجهه المكشوف دونما كِمامة ما.
كانت المسافة الجديدة بينهما،
المسافة عينها بين اللهيب هنا،
والثلج هناك.
 
إدراك
يُلقي بذوره على أرض حديقته كل صباح.
تهطل عليها طيور لا عدّ لها،
فيسعد بذلك ويعود يتناول إفطاره برخاء.
ولكي يعزز سعادته يتابع طيوره هذه،
فيلفي أنها طارت تاركة خلفها،
بعض نثار لم يلتقطه منقار.
يدرك أنّ الطيور شبعت فتركت ما تركت،
ويدرك كذلك أن ليس ثمّة من طائر،
مات بتخمة يوماً ما.
 
هباء.. هباء
يسرّه مرأى مواطنين وأغراب،
يتخاطفون أمامه من وراء زجاج صالة الفندق الكبير.
كان يخطر على باله المتوهّج لحظته،
أن يسمع أحاديثهم ويعرف هوياتهم،
وإلى أين هم غادون ورائحون.
كانوا في خياله مثل سفن بعيدة،
تمخر العباب من دون أن يسمع صوتاً من ركابها،
وماذا يشغلهم الآن.
في لحظة تالية وقبل أن ينهض،
سكن في نظره كل شيء،
فلا بشر خارج الصالة أو حتى داخلها،
ولا سفن في البحر،
ولا أحد من الواقفين على رأسه الآن،
يحزن عليه ويقول:
ليرحمْه الله!
 
الإذن بالموسيقى
في صالة الفندق ذي الخمس نجوم،
وكانا وحيدين ابتسم لها موافقاً،
وهي تستأذنه بالعزف على أكورديون صغير،
معلّق على صدرها.
عندما بدأت تعزف تبيّنت له بيضاءَ جميلة،
ذات عينين خضراوين وشعر أصفر كالحرير،
ولها القدرة على التحليق.
كان هو رائقاً متشؤّفاً للموسيقى هذه المرّة،
لذا كان سعيدا بجمالها وموسيقاها،
وبمطر يهطل فجأة يولّد إحساساً شديداً بالبرد،
وبالرغبة الحارة إلى شريك.
 
صبية الغار
كانوا يجهلون عددهم إذ لم يسألوا أنفسهم،
ولم يسألهم أحد عن ذلك.
يجوبون الأسواق ويطرقون الجبال والبراري،
وكلّ ذلك في لهو صبْيانيّ بريء.
قد يقفون على حلاوة حَلواني،
أو فاكهة فاكهاني،
وقد يشترون وقد لا يشترون؛
قمصانهم قصيرة الأكمام،
وسراويلهم مأكولة النهايات.
ويوم شعروا بشدّة القيظ،
ظهروا إلى جبل ونفذوا إلى غار فيه،
يقضّون ظهيرتهم خلوداً إلى الراحة،
أو خلوداً إلى النوم.
عندما استيقظوا في الصباح،
وجدوا عند فتحة الغار جمعاً من ذئاب،
لا يعرفون عددها تتربّصهم فعادوا للنوم.
بعد بحث طويل دام عدداَ من السنين،
عثر الناس على هياكل ذئاب ستة عند فتحة الغار،
وهياكل صبْية ستة داخله،
أولاء ماتوا من جوع،
وأولاء ماتوا من خوف.
 
طغاة
في خاطر مرٍّ توالت على عينيه ألوفٌ من صورهم،
وعلى مدى ساعات كانت تكدّر نفسه ولم تنقطع لحظة.
هنا بصق عليها جميعاً وارتكن إلى شاطئ نهر؛
يطفئ حرَّ جسده.
الله ما أكثر طغاة هذا الكون!
 
الخؤون
كان من أجمل ما في حياتي،
ورديف سيجارة "كنتْ" بمذاقها الرائق الأخاذ.
الآن وبعد عقود من صحبة لصيقة صار عدوّاً،
يرهق قلبي ويهبط به إلى قرار سحيق.
الله كم هو ماكر وخؤون،
هذا الساحر الذي كان الألذّ،
الذي اسمه الشاي!
 
طفلة غزّة
بائع الشاي الصغير يقتعد عتبة دكان مغلق.
نظره مرسل إلى شيء بعيد،
وإلى جانبه ترمس شاي وأقداح.
تطفلّتُ عليه:
تبدو حزيناً حبيبي.
قال؛ لا.. ضايج.
ألم تبع جيداً هذا اليوم؟
مدّ يده إلى جيبه وأخرج هاتفه وأراني صورتها؛
في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها؛
نظرتها جامدة وعلى وجهها نغزة ألم،
يحيط بها ركام من حجر!
 
اختراق عزلة
قرر أن يعتزل في خيمة على مشارف صحراء،
مغتذياً بما تجود به السماء من طير،
وما تهبه الأرض من نبت.
في لحظة لم يحسب لها أيّ حساب،
فتح عينيه ليجد امرأة نصبت خيمتها ليس بعيداً منه،
واعتكفت فيها.
يومًا بعد يوم كانت رغبات متبادلة تنمو بين الإثنين،
للزيارة وتبادل الآراء وحلاوة الصيد في الصحراء،
ما كان يهدد في الوقت عينه،
الحالة الهانئة التي كانت مبتغاه.
بعد عذاب دامٍ وتصبّر عنيف،
أدار وجه خيمته إلى جهة مغايرة،
مفضلاً وحدته الخالدة على شراكة،
قد لا تلبث سوى أيام وتموت.
بيد أنه وقد عاد خائباً من طلعة صيد،
شاهد الخيمة المجاورة هامدة،
والمرأة الجارة تزيح ستارة خيمته،
تستقبله بترحاب وتقول؛
لا تثريب عليك حبيبي..
لقد أعددتُ لنا طعام العشاء..
 
في انتظار صمت البحر
لأنه مسحور بالبحر، كان يديم الجلوس على ساحله،
يراقب تجلياته ويسعده كذلك مرأى عصافيره الرمادية،
تلتقط ما يقذف به مدّه المتعاقب من أشنات وكائنات حيّة صغيرة.
يراقب المارّةُ اهتزاز جسده في تردد متناوب،
حتى تحين لحظة يلقي فيها بنفسه في اللجّة الهادرة.
كان من مراده أن يمكث هناك حتى يصمت البحر.
وما كان للبحر تلك الليلة من صمت.
كان يغني ووحوشه تحتفل وترقص،
وبين آن وآن كانت تخترق أمواجَه الموّارة نحو السطح،
نقطٌ من دمٍ قانٍ، وشظايا من لحمٍ حارّ.
 
أعطال في حاسة الشمّ
بعد سنة من حادثة تهشيمه زجاجات عطوره،
يطرق بابه رجل غريب،
يتزود منه شيئاً من طعام فالمدينة في صوم.
يسأله عن سر هذا العطر المتفشي في حديقته،
وينتشر في عموم الزقاق. قال؛
إنه كان يجمع في صندوقه مختلف العطور؛
يتعطر بها صباح مساء،
لكن لا أحد من الناس استطاب له عطره،
وسأله من أين لك هذا العطر الزكي،
أو من أيّ عطار اشتريته.
لما تكاثف صمت الناس خُذِل في ذوقه،
وشكّ في حقيقة عطوره،
فجمعها في حديقته وهشّمها جميعًا ودفنها هناك،
فكان من وراء ذلك،
هذا الذي ظل مرابطاً في ورودها منذ ذلك اليوم،
وتشمّه الآن دون غيرك!