أيار 05
سينما العولمـــــــــــة والسردلمــــــــــــة والسرد الجديــــــد   
 
     معلوم أن مصطلح العولمة Globalization من أكثر المصطلحات التي صادفت رواجا في أدبيات السياسة خلال ربع القرن الأخير، في أعقاب حرب الخليج الأولى وغزو العراق للكويت (1991م). وقد جاء المصطلح معبرا عن تغيرات عميقة في السياسة العالمية تتمثل في سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم وقيادته بحكم حقائق القوة الاقتصادية والعسكرية والنفوذ السياسي، ومن ثم انتشار ما يسمى بثقافة الأمركة وعلاماتها في المأكولات والملابس ونمط الحياة الصاخب، وتسيّدت أفلام هوليود ذات التمويل الضخم شاشات السينما في مختلف دول العالم، مما دفع الكثيرين لنعت هذه الحقبة بأنها "حقبة الأمركة". وهو الأمر الذي أدى إلى اشتداد موجات معارضة وبشدة لهذا التوجه، تتمثل في السعي إلى إظهار الوجه الحقيقي لتلك الحقبة والمتمثل في استعلاء قيم وتوجهات وجنسية ما على سائر الشعوب أو على الشعوب الفقيرة بالأدق، التي تعاني شظف العيش من ناحية، وتعاني أيضا تعسف حكوماتها مع أفراد شعبها عندما يتعلق الأمر بنزاع مع أمريكي ما. الى جانب ضجر ثقافات أصيلة في العالم، من تمدد الثقافة الأمريكية على حساب قيمها وتاريخها ولغتها، فكانت موجات مضادة للعولمة في طابعها الأمريكي، كرد فعل حي ومضاد وإثبات للوجود.
   أيضا، فإن لمفهوم العولمة بُعدا تقاربيا جغرافيا، حيث يعبر عن حالة التقارب الجغرافي بين الدول، والذي يتضح جليا في سهولة السفر بالطائرات، وانفتاح الحدود، وانسيال السياحة، ناهيك عن ثورة الاتصال ذاتها والمتمثلة في الحواسيب والهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت والقنوات الفضائية والأقمار الصناعية. فلم يعد هناك مخف على الأعين؛ أو على الأقل نقل الأخبار والأحداث في العالم. وبعبارة أخرى، أن العولمة حصدت ثمرات التطورات الهائلة في قطاعات المواصلات والاتصالات والفضائيات، وتلاشي مفهوم الحدود التقليدية، وارتفاع مستوى المعيشة، وزيادة ملحوظة في أعداد الأغنياء، ومظاهر الترف.
     وهذا لا يعني أن ثمة رغدا تعيش فيه شعوب الدول الغنية القوية وإن امتلكت المال والرفاهية وحماية حكوماتهم لهم، بل تظل أزمة الإنسان المعاصر واضحة بجلاء، وممثلة في المعاناة النفسية من الوحدة والقلق والاغتراب، ومن تعقد الحياة الحديثة، وغلبة المادية عليها، وانغماس الناس في الركض وراء ملذات وإغراءات، فإذا ظفروا ببعضها لهثوا لغيرها. فاكتست روحانيتهم بغلالات المادية الكئيبة، وأهملوا المقربين منهم، ويبدو أن الإنسان المعاصر لا يزال يضل ويتخبط.
سرد العولمة    
 إذا نظرنا إلى الجانب الإبداعي المتصل بانعكاس العولمة على الفنون والآداب يتبادر إلى الأذهان سؤال: هل يمكن أن نعبر عن حكاية أو سرد في بلاد متباعدة جغرافيا، متنائية مكانيا؟ وهل يمكن أن يتكون سرد فني (قصة أو سينما أو رواية) يعبر عن حالة التقارب الجغرافي بين جنسيات وشعوب مختلفة، تواصل بعضها بشكل أو بآخر من خلال وسائل السفر والاتصال الحديثة؟
     يأتي طرح السؤال انطلاقا من واقع نعيشه جميعا، فإذا كان السرد التقليدي يتصل بشخصيات وأحداث تتم في واقع جغرافي واحد أو متقارب نسبيا، بحيث يكون المكان أرضية مشتركة للأحداث الواقعة عليه، فإن السرد المتعولم يعبر عن حالة التعدد الجغرافي الذي يحدث بالفعل، فالشخصيات تتنقل خلال ساعات قليلة بين بقاع شتى في العالم، وتحمل معها أحداثا شخصية، وأوجها من المعاناة أو اللذات، وهنا لم يعد المكان أرضية مشتركة، بل صار جزءا ضئيلا من أحداث السرد، وصارت الأجزاء الأكبر للسرد متمثلة في الأحداث والشخصيات وما يستتبعها.
  ولكي تتضح الصورة أكثر، فلنتخيل أن هناك شخصا يعمل في عمل يستلزم سفرا كثيرا بين القارات، وتحدث له مواقف وأحداث بجانب تداعياته النفسية، أي أنه يتنقل سفرا من مكان إلى مكان، متجاوزا أطر الزمان، وقد يقوم بفعل أو ينطق قولا في بلد ما، نجد صداه في علاقات إنسانية في بلد آخر. وتلك الظاهرة صارت موجودة وبكثرة الآن، مع الذين يعملون في الشركات متعددة الجنسيات وكذلك رجال الأعمال، حيث يكثرون من السفر، وتكاد سنوات عمرهم تنقضي وهم في ترحال دائم، وقد وضحت هذه الظاهرة أخيرا، فهناك أناس يعيشون في الطائرات، وحياتهم على الإنترنت وفي المطارات، بحكم أعمالهم التي تستلزم سفرا دائما، وهؤلاء تكون لهم علاقات اجتماعية في بلدان وقارات، أكثر من بلدهم الأصلي، بجانب هواة السفر والسياحة وقضاء الإجازات في بلدان مختلفة، وفي كل بلد هناك شخوص وأحداث ومواقف وقصص تحدث لهم، تستلزم التعبير عنهم، وتغطيتها من الوجهة الأدبية، أي نحتاج إلى ألوان من السرد مكتوبا كان أو مسموعا أو مرئيا يعبر عن هذه النماذج في حياتنا، والتي باتت متكاثرة يوما بعد يوم.
     إذن، يمكن القول إن السرد المتعولم يعني: قصّ حكايات من واقع العولمة الجديد، بكل ما فيه من تنقلات مكانية وجغرافية، وتداخل جنسيات، وتفاعل ثقافات شعوب مختلفة، وكل هذا في زمن واحد تقريبا، بأحداث مترابطة ومتسارعة، كلها متصلة ببعضها، تتم في آن واحد أو في ساعات متتالية حتى تصل إلى ذروتها أو نهايتها، أو تكون ذات صلة بشخصية تلاقت وافترقت في أكثر من بلد.
 
 
فيلم بابل
    ربما يستغرب البعض من مصطلح السرد المتعولم، بتعريفه المتقدم، ولكن نجزم أن هذا حادث بالفعل، ونراه متجسدا في السرد السينمائي، بل تكون أفلام السينما هي التعبير الأنسب لمثل هذا السرد -وأيضا مع أشكال الميديا الأخرى- لأن السينما هي الأجدر على تقديم الأمكنة الجغرافية بكل تفصيلاتها الطبيعية، وبكل الأعراق والثقافات واللغات التي تتوزع في القارات، فلقطة واحدة من بلد، تحوي اللغة والمعالم والوجوه كافية للتعبير عن هذا البلد، وتغني عن مئات الأسطر، فالصورة المتحركة لها سحرها ووقعها، ناهيك عن تجسيد القصة سينمائيا .
ولعل من أبرز الأفلام التي عبرت عن هذا السرد المتعولمة، الفيلم البديع "بابل" والذي أنتج في العام 2006م، عبر تعاون سينمائي عالمي لعدة شركات إنتاج في فرنسا، المكسيك والولايات المتحدة.  ومن إخراج المخرج المكسيكي "أليخاندرو غونزالس إناريتو"، وكتب السيناريو والحوار "غييرمو أرياغا" بالإضافة إلى المخرج أيضا، وهو من بطولة "براد بيت"، "وكيت بلانشيت"، وقد فاز بثمان وعشرين جائزة، منها جائزة الأوسكار بأحسن موسيقي تصويرية، إلى جانب ترشيحه للحصول على (75) جائزة أخرى.
    فهو فيلم يعبر عن إبداع سينمائي حقيقي وخلاق، بدلالة الكم الهائل من الجوائز التي حصل عليها أو رشّح لها. تدور أحداث الفيلم في ثلاث قارات (أفريقيا، آسيا، أمريكا الشمالية)، وفي أربع دول (المغرب، اليابان، المكسيك والولايات المتحدة)، ونسمع فيه خمس لغات: العربية، الأمازيغية، الإنجليزية، الإسبانية، اليابانية. ولنا أن نتخيل حجم الجهد الذي بذله المخرج وفريقه، للتصوير في هذه الدول.
    الكثيرون ظنوا أن الفيلم يحوي ثلاث قصص تتكامل فيما بينها، ولكن الواقع أن الفيلم قصة واحدة، مبنية على حدث واحد يمكن أن نعده الحدث المحوري الكاشف، وأيضا الرابط لسائر الأحداث وتداعياتها، وما يتصل بها من شخصيات متعددة الجنسيات واللغات والثقافات وأيضا في مستواها المادي.
    الحدث الأساسي في الفيلم، والذي يتم افتتاح الفيلم به يتمثل في قيام طفلين أخوين، كانا يرعيان قطيع ماشية مملوك لعائلتهما، حيث يقر الابن الأكبر أن يختبر بندقية معه، حصل عليها مؤخرا، ولكن الطلقات تطير بعيدا جدا، لتتغير حياة خمسة أشخاص في قارات ثلاث مختلفة، عبر ثلاث قصص متداخلة سرديا، بمعنى أننا نتنقل بين القارات والبلدان من خلال أحداث الفيلم.
    أولى هذه المجموعات زوجان أمريكيان (براد بيت، كيت بلانشيت) وهما في رحلة سياحية في المغرب، وسيفهم المشاهِد أن العلاقة بين الزوجين متأزّمة، وتبدو الزوجة الأمريكية عنيفة ومحتجّة لوجودها بين هؤلاء "المسلمين الإرهابيين". وفيما هما جالسان في الحافلة تُصاب سوزان برصاصة طائشة، مما يجعلها تنزف وتفقد الكثير من الدماء. تتعقد الأمور حيث إن الحافلة متوقفة وسط الصحراء، لكنّ المترجم المرافق للرحلة يقنع السيّاح بالتوجه إلى إحدى القرى، ومن هناك يتصل الزوج بالسفارة الأمريكيّة بواسطة الهاتف الوحيد في القرية لطلب المساعدة. ولكن الزوجة تضطر إلى العلاج على يدِ البيطري الوحيد في القرية، الذي لن يستطيع إلا خياطة جرحها دون استخدام المخدّر في مشهدٍ مؤثر، وتتصاعد الأحداث حين يقرر باقي السيّاح مغادرة القرية خوفاً من أهل القرية الإرهابيين (في منظورهم)، ليبقى الزوج وزوجته المصابة وحدهما في القرية. إلى أن تصل طائرة هليكوبتر لتقل الزوجين إلى أحد المستشفيات، وقبل اقلاع الطائرة وفي وسط عاصفة الرمال يعرضُ الزوج المال على المترجم الذي يرفضُ بدوره أخذ المال حيث إنه يعتبر مساعدته ووقفته مع "الأمريكي" نتاج تاريخ عربيّ طويل من الكرم أو مساعدة المحتاج. والأمر لا يحتاج إلى كثير من الشرح، فإن منظور السياح الغربيين إلى العرب المسلمين في المغرب ناتج عن ميراث كبير من العداء للإسلام والعرب والمتراكم عبر قرون في الغرب، والذي تعززه صور سلبية في الإعلام والفن المرئي.
   تتسارع الأحداث، ويتم تداول الخبر في المحطات العالمية، على أنه عملية إرهابية من جماعة متطرفة في المغرب ضد إحدى الرعايا الأمريكيين، ومن ثم تستنفر أجهزة الأمن في المغرب، بحثا عن القاتل، وفي نفس الوقت تأتي طائرة هليكوبتر من الجيش المغربي لنقل الزوجة إلى مستشفى حديث في العاصمة بعدما تلقت علاجا بسيطا في إحدى القرى النائية، تمثّل في خياطة الجرح بشكل بدائي لوقف النزيف، وتصل الشرطة في النهاية إلى الفاعلين الحقيقيين، وتقتل الطفل الأكبر يوسف في اشتباكٍ مسلّح، فيما أخوه يسلّم نفسه للشرطة.
   المفارقة تقودنا إلى القصة الثانية وستنقلنا الكاميرا والأحداث إلى اليابان، ذلك أن البندقية كانت ملكا لرجل أعمال ياباني، زار المغرب وأهداها إلى والد الصبيين، فهذا الياباني "ياسوجيرو" لديه ابنة مراهقة ووالدها مشغول عنها وهي تعاني من الوحدة، وقد انتحرت زوجته بإطلاق النار على نفسها، يحاول الأب بكل السبل التقرب من ابنته "شيكو" المراهقة مستغلا ما يتاح له من وقت بسيط، والابنة صّماء بكماء، تحاول جهدها اقتناص أيّة فرصة لممارسة الجنس، لإشباع رغباتها. كأنها تحاول التواصل من خلال جسدها مع العالم بعد أن فقدت وسائل الاتصال العاديّة والطبيعيّة معه، وتتقرب في سبيل ذلك من الشباب، عارضة نفسها بابتذال وعهر، حتى تقيم علاقة مع ضابط شرطة، جاء لوالدها مستفسرا عن البندقية التي أهداها للرجل المغرب. الملفت أن المشهد الأخير يُظهر الفتاة اليابانية عاريةً في شرفة الشّقة، كأنها من ناحية ستلقي بنفسها منتحرة، أو لعلّها تعرضُ جسدها العاري إلى المدينة وسكّانها، علّ أحدهم يستطيع أن يلتقط زهرة جسدها لتشعر بالنشوة لمرّة واحدة، ويأتي الأب ليحتضنها، مشعرا إياها بأبوته، ومعطيها حنانا واهتماما تفتقده.
 أيضاً، تدور أحداث قصّة ثالثة، حيث ترك الزوجان الأمريكيان طفليهما في رعاية المربية المكسيكية "أميليا" التي تقيم في الولايات المتحدة الامريكية بشكل غير شرعي، وحيث لا يمكنها أن تترك الطفلين وحدهما، تقرر اصطحابهما معها إلى المكسيك لحضور حفل زفاف ابنها. وتضطر إلى عبور الحدود مع الطفلين بطريقة غير شرعية عبر الصحراء، فليست مخولة باصطحاب الطفلين معها، وهي مقيمة غير شرعية، وبالفعل تفلح في عبور الحدود، لتحضر عرس أقاربها، وفي العرس لا تخلو المشاهد من بعض اللقطات "المزعجة" كقطع رقبة دجاجة أو إطلاق الرصاص في حفل الزفاف الذي يثير رعب الطفلين غير المعتادين على مثل هذه السلوكيات. وفي رحلة العودة لم تكن الأمور على ما يرام، حيث تعود المربية مع الطفلين في سيارة يقودها أخوها "سانتياغو" لكن شرطة الحدود توقف السيارة للاشتباه، فما أكثر التهريب والمهربين على الحدود، خصوصا أن المربية كانت مقيمة في الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية، منذ ستة عشر عاما، وهذا ما دفع "سانتياغو" إلى الهرب واقتحام الحدود، بعدما أنزل أخته والطفلين من السيّارة ليهربَ وحيداً من الشرطة.
    في الصباح ستجد "إميليا" نفسها وسط صحراء شاسعة، و يتدخل القدر ليتم إنقاذ الأطفال ومربيتهم في آخر اللحظات، بعدما أشرفوا على الهلاك، وتركت المربية الطفلين، وراحت تبحث عن سبيل للنجاة، حتى تعثر عليها الشرطة، وتتحرك طائرة هليكوبتر للبحث عن الطفلين وإنقاذهما.
     رسائل الفيلم واضحة جلية، لعل أهمها: النظر إلى حصاد العولمة، والمتمثل في استعلاء الجنسيات الأمريكية والأوربية على سائر الشعوب، بدليل تحرّك السلطات المغربية لإنقاذ الزوجة الأمريكية، جنبا إلى جنب مع نشاط السفارة الأمريكية، وتغطية إعلامية عالمية مواكبة، فيما يتم التعامل الشرطي القاسي مع مطلقي النار وينتهي الأمر بقتل الطفل الأكبر، عندما حاول الهرب، رغم أن أخاه أعلن استسلامهم، ولكن الشرطة سارعت بقتله، لتعلن أنه قد تم القضاء على الإرهابي، مطلق النار. إنها رسالة شديدة الواقعية والألم في آن واحد.
    أيضا، فإن الرسالة الثانية في الفيلم تشير إلى أزمة المادية الطاغية التي هي من أهم سمات العولمة، حيث العيش في ناطحات السحاب، ورفاهية الحياة، وفي نفس الوقت فقدان الحنان والدفء العاطفي، بدلالة الفتاة "شيكو" وأزمتها مع نفسها وفقدانها لأمها، وانشغال والدها عنها، وهي نفس ما تشعر به المربية "إميليا" التي تعاني من قسوة الاغتراب خلال عملها لدى أسرة أمريكية في الولايات المتحدة، فحرمت نفسها من الحب والزواج، وهذا ما رأيناه خلال سفرتها واشتياقها إلى رجل.
     أما الرسالة الثالثة فتتصل بحال المهاجرين غير الشرعيين، من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية التي تقود العولمة في نفس الوقت، كما رأينا في حالة إميليا، التي يدفعها الفقر لتحمل الغربة سنوات طويلة، أي تظل الشعوب الفقيرة في خدمة الشعوب الثرية، وتتعرض للطرد في أية لحظة، بدون تعويضات أو تقدير لها.
الرسالة الرابعة: تتصل بالقيم الإنسانية عامة، فإن العولمة أعلت شأن الحريات وحقوق الإنسان في تمددها نحو الشعوب والدول الفقيرة، ولكنها في الحقيقة تمارس أعلى درجات الاستغلال والقهر، وبعبارة أوضح: فإن العولمة لون من ألوان موجات الاستعمار الغربي، بثياب جديدة وشعارات جديدة، لا يطبق منها شيء.
    إن هذا الفيلم، أعطانا جزءا من الوجه الآخر للعولمة في تطبيقاتها العملية.
جماليات السرد السينمائي وعناصره
    يتميز السرد في السينما بأنه يمتلك سبلا عدة يصل بها إلى المتلقي، فهو لا يعتمد على اللغة والأسلوب الوصفي كما نرى في السرديات المكتوبة في الروايات والقصص، وإنما على الصورة والشخصيات الممثلة، والديكورات والتنقل بسهولة بين الأمكنة، وتقطيع الزمان، بجانب حوارات الشخصيات، والموسيقى المؤثرة وغير ذلك، أي أن تقنيات السينما المتعددة أساسية في إيصال الرسالة السردية.
   ونرى أن العلامات الأساسية الدالة على تقنيات السرد في فيلم بابل جاءت مستفيدة من التمايزات بين البلدان المختلفة، عبر تميز سحنات الوجوه والملابس كما نرى لدى كل من اليابانيين، المكسيكيين، الأمريكيين، المغاربة، وما يتبعهما من اختلاف اللغات، خصوصا أن المخرج جعل الممثلين من نفس البلدان، وينطقون بنفس اللغات المستخدمة في بلادهم: العربية والأمازيغية في المغرب، اليابانية في اليابان، المكسيكية والإنجليزية في المكسيك والولايات المتحدة، وبعبارة أخرى فإن علامات التميز التي سيفهمها المتلقي في الفيلم تكونت من طبيعة قصة الفيلم الدائرة في البلدان الثلاثة في توقيت واحد تقريبا، عبر حسن استغلال علامات الأمكنة واختلاف الوجوه واللغات والشخصيات ذاتها.
     وقد أجاد المخرج في تعميق الشخصيات لدى المتلقي فصارت كل شخصية أيقونة دالة على أزمة، فالفتاة "شيكو" دالة على أزمة معاقة بالصم والبكم وفاقدة للأم، تعيش أزمة نفسية يمكن نعتها بأنها أزمة وجود وتواصل مع الآخرين وفقدان للحب والحنان. أما الصبيان في المغرب فهما دالان على فقر وعوز وحرمان، في حين تشير شخصية المربية المكسيكية إلى أزمة المهاجرين المقيمين غير الشرعيين في الولايات المتحدة، والقسوة الشديدة التي يجدونها من السلطات الأمريكية معهم.
   لقد نجح فيلم "بابل" على  مستويات عديدة من المنظور السينمائي والسردي والسيميائي، فهو أولا يعتمد على عنصر الإبهار بحرفية إخراجية وتصويرية عالية، عنوانها التشويق، وبلغة سينمائية بليغة، ولقطات دقيقة معبرة، بكل ما فيها من رموز وعلامات ودلالات، والأجمل في كل هذا قدرة المخرج على أن يحتفظ بإثارتنا طيلة أكثر من ساعتين، دون ملل، بجانب نجاحه في إغراقنا في الإيهام طيلة الفيلم وجذبنا إلى التعمق في شخصياته، وابتلاعنا بإيقاعه السريع، فنستغرق في متابعة أحداثه بتشوف وترقب، خاصة مع إجادة القطع في مشاهد بعينها بحيث يظل المتلقي في حالة من اللهاث لمعرفة ماذا حدث، ولعل المشهد المؤثر في ذلك عندما تركت المربية الطفلين في الصحراء، والولد يرجوها أن تبقى معهما، ولكنها تخبرهما أنها ساعية إلى البحث عن النجدة، وعندما تجد نجدة من الشرطة، تعود إليهما، ونكتشف أنها فقدت المكان وعبثا حاولت مع الشرطة العثور عليهما. لقد استطاع المخرج أن يقدم لنا المشهد بحرفية عالية، يجعلنا نبكي مع الطفلين ثم يحدث لنا التطهير الأرسطي عندما نجد الضابط يخبر المربية أنها مطرودة من الولايات المتحدة، وأنهم قد عثروا على الطفلين في حالة صعبة.
    هناك عنصر جمالي، يمكن أن نقرأه في ثنايا القصص المتفرعة من الفيلم، وهو عنصر أفقي مشترك بين القصص الثلاث في أمكنة ثلاث: المغرب، واليابان، والمكسيك. يتمثل في فعل متكرر حتى صار رمزا ما، ألا وهو " الجنس"، فالجنس حضر على مستويات عدة، ومع شخصيات ثلاثة مختلفة الأعمال.
  وإذا أردنا ترتيب الأعمار، وأيضا مشاهد ظهور السلوك الجنسي الخارج في حد ذاته، فإن المشهد الأول كان مع الصبي مطلق النار على الزوجة الأمريكية، وهو في الحقيقة لم يكن صبيا وإنما كان مراهقا بالغا، سرق البندقية من وراء أبيه، وركض وراء إحدى الفتيات المراهقات من جيرانه  وتبعه أخوه الأصغر، حيث أغرته البنت بكشف أجزاء من جسدها،  فألهبت خياله، وأشعلته فتسمر يراقبها، ودفعه هذا  لأن يطلق النار أملا في المزيد من اهتمامها ولفت نظرها إلى رجولته المبكرة، وهذا ما ضربه والده عليه بشدة، كما عنّف الفتاة، ومن ثم اصطحب الولد وأخاه هربا من الشرطة التي ضيقت الخناق عليه، وحاصرت القرية، وعاقبت سكانها. فيمكن أن نطلق على هذا الموقف أنه شبق جنسي لإشعال خيال المراهقين، وهو المستوى الأول في العمل المشين، والذي لم يتخطَ النظرات إلى فعل.
    المشهد الثاني مع الفتاة اليابانية "شيكو" وهو في الحقيقة مشاهد عديدة، بدا من حرصها إلى إظهار ثيابها الداخلية، أمام الشباب لعلهم يطاردونها، ويعجبون بها، وكان ذلك في إحدى الحفلات، وتطور إلى محاولة إقامة علاقة كاملة مع ضابط الشرطة الذي حضر لأخذ أقوال أبيها، وكانت تصر على الظهور عارية في كثير من اللقطات، التي هي مأخذ في رأينا على الفيلم، فكان يكفي المخرج الإشارة والتلميح وليس الكشف الفاضح. ويمكن أن نؤول فعل "شيكو" بأنه جنس تعويضي عن حرمان عاطفي جسدي، من والد مشغول عنها، وأم منتحرة، وغياب حبيب لها. ونلاحظ أن "شيكو" كانت في سن الشباب، ولكنها ضائعة شعوريا واجتماعيا.
    أما المشهد الثالث فهو المربية المكسيكية "إميليا"، والتي حرمت نفسها من الحب والزواج طيلة إقامتها غير الشرعية في الولايات المتحدة، حتى إذا حضرت عرسا لأحد أقربائها، وقد رأت فيه شخصا أحبته يوما، ومن ثم اصطحبها إلى بيت فارغ، فالكل مشغول في العرس، وأقامت معه علاقة جنسية سريعة. فيمكن أن نسمي هذا الموقف بأنه نهم لإشباع شهوة مكبوتة وحرمان امتد لسنوات طوال، تنكرت فيه "إميليا" العجوز لجسدها وعواطفها أملا في جمع المال.
عنوان الفيلم
   يستوقفنا عنوان الفيلم "بابل"، فلا نكاد نعرف كنهه في ضوء القارات الثلاث والبلدان الأربعة التي نجدها في الفيلم، وليس من بينها العراق الذي توجد فيه مدينة بابل التاريخية والواقعة على نهر الفرات وهي من أشهر مدن الشَّرق القديم، وكانت عاصمة البابليين الذين عاشوا في بلاد ما بين النهرين في الألفَيْن الأول والثاني ق.م، وورد في ذكرها قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وحدائق بابل المعلَّقة: حدائق بناها نبوخذ نصَّر في بابل في القرن السادس ق.م، وإليها يُنْسب السِّحرُ والخمر ، كما ورد في معجم لسان العرب .
ويورد الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتابه "العين"، تفسيرا أقرب للميثولوجيا: "يقال واللَّه أعلم: إنّ اللَّه عزّ وجلّ لما أراد أن يُخالِفَ بين أَلْسِنة بني آدمَ بعث ريحاً فحشرتهم من كلِّ أُفُق إلى بابل فبلبل اللَّه بها ألسنتهم، ثمّ فرَّقتهم تلك الرِّيحُ في البلاد"  .
فقصّة بابل والبلبلة في اللغات واختلاف الألسن أسطوريّة ويردُ ذكرها في العهد القديم كما في سفر التكوين. ولا يختلف المعنى كثيراً حين ننظرُ إلى القاموس تحت كلمة "Babel" التي تعني في واحدة من معانيها "الجلبة، أو اختلاط أصوات".
    أن دلالة عنوان الفيلم عميقة، ومتسقة مع موضوع الفيلم وسرده، وأيضا اللغات المتعددة التي سمعناها في الفيلم، والتي قد تحدث طنينا غير مفهوم في آذاننا إذا كنا نجهل هذه اللغات، ولكن تظل المعاني والمشاعر الإنسانية والأزمات النفسية والاجتماعية، واتصالها بالسياسة واستعلاء شعوب على شعوب أخرى؛ يظل كل هذا في النفس، فمهما تعددت اللغات، وعجمت الألسنة، تظل القيم الإنسانية واحدة، والمآسي متكررة بل ومتشابهة بين الشعوب والناس وإن تناءوا .
وختاما، يمكن القول إن هذا يظل الفيلم في أعماقنا، وتظل ذكراه معنا بمشاهده المؤثرة، وعلى حد ما ذكر المخرج الفرنسي الشهير "جان لوك جودار" إذ يقول: "عندما نعجب بفيلم ما، فإنه يصبح في التو أكبر منا"، أي يحتوينا بفكره أحداثه، ويلح علينا بشخوصه وعلاماته.