أيار 05

حين تلجأ اغلب الأوساط المعرفية الباحثة عن التحقق في مصائر الأشياء والوقائع الثقافية إلى أصول مكوناتها وعناصرها، عبر الامتداد الزمني والمكاني وتأثيراتهما الفاعلة في تكوين ما يتعلق بها من ظاهرة أو أثر أو منجز ابداعي، وليالينا العربية كيان ثقافي أدبي فني جمالي اكتسب شرعيته وجذوره من أصول حكاياته التي اثبتت قيمتها الحضارية بفعل الوحدة البنائية للحكي ومضامين القص عبر متونها الممتعة. فقد بقي كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي تضمن الحكايات الخرافية والعجائبية، يحتفظ بهذه الصفة المميزة، لأنها نسجت بقصدية واضحة، تستهدف المألوف وتتجاوزه، وأن المؤلف المجهول هو جزء من هذه الصفة، أما الاختيار الذكي لأسم جميل مثل "ألف ليلة وليلة" فقد ظل إلى الآن في مدار التكهن والاحتمالات. وأن الألف ليلة وليلة رقماً ليس له علاقة بعدد الحكايات التي رويت ولا بأي رقم أو حال تم تناوله في القصص والأسفار، ونعتقد أن هذا الاسم لا يخرج عن الإطار العجائبي المرسوم للحكايات. فمثلاً رأى به ليتمان الزيادة المطلقة المفتوحة عندما يقول: "وإما أن يكون كذلك عدد الألف في الأصل إنما أريد به التكثير لا التحديد، وأخر به أن يكون كذلك". وليتمان هنا يدفعه اعتقاده بان رقم "الألف" يدل على ما لا يحصى، وعلى المبالغة، وهناك من يعتقد أن لهذا الرقم الألف وواحد جذورا تركية "تدل كلمة (بن بر) في اللغة التركية ومعناها ألف وواحد على الذي لا يحصى لكثرته، ويشيع استخدامها في التركية المعاصرة مثل (ميدان بن بر عمود) أي ألف عمود وعمود في إستانبول وكذلك بن طرز أي ألف طراز وطراز في الدلالة على كثرة الأشكال"(1). ولا غرابة في إطلاق مثل هذه الاحتمالات لاسيما ونحن ما زلنا في أجواء شرقية بحتة، أما الاحتمال المليء بالغرابة فهو أن العرب لا يتفاءلون بالرقم الزوجي، ولذلك أضافوا "الواحد" تخلصاً مما لا يحمد عقباه، ولكن من ينسى ألفية ابن مالك وألفية ابن معطي، كما يقول ليتمان(2) "وكان الجهشياري يريد أن يسمي كتابه ألف سمر"(3). ويمكن التأكيد أن ألف ليلة وليلة، حكايات لا مؤلف لها سميت باسمه أو نسبت إليه، وقد كتبت في عصور مختلفة، ما أثارت جدلاً في الكشف عن أصول هذه الحكايات وموطن انتمائها، إذ إن "الحديث عن أصل ألف ليلة وليلة استند بعضه إلى أقوال للقدماء مثل المسعودي وابن النديم عن كتاب أو مجموعة من القصص ولم يتأكد أحد من الصلة بينها وبين ما تحويه النسخ الخطية الموجودة اليوم"(4). وقد سعى كثير من الكتاب والمؤلفين بعد كشف الباحث الماهر الدكتور محسن مهدي لإيضاح وتحقيق شرقية الليالي العربية وأصولها(5). فتاريخ العرب الواضح تحمل جيرة الأقوام الهندية والفارسية والإغريقية. وبما يسجل الآثار المعروفة من فتوحات وغزو وتجارة ورحلات وعلاقات، ولكن لم تصل إلى حد فقدان السيطرة والتمييز بين ماهية هذه الآثار وجزئياتها الدقيقة التي تنعكس هي الأخرى على صور الحياة الاجتماعية والثقافية وغيرها من الميادين. ولا ننكر أن حالات الاضطراب والحروب التي تمر بها الأقوام والشعوب تفقدها أحياناً بعض الأرقام والنسب والوثائق، ولكنها لا تتجاوز حدود الأصول والجذور، وأصول ألف ليلة وليلة وجذورها أخذت حيزاً كبيراً في البحث والتنقيب وأثمرت نتائج متباينة ومتناقضة.

 وقد ذكر المسعودي كتاب ألف ليلة وليلة في (مروج الذهب) أن الناس قد ذكروه كثيراً ممن له معرفة بأخبارهم وقال: "ن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأن سبيلها سبيل الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية، وسبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب هزار افسانه، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خرافة، والخرافة بالفارسية يقال لها افسانه، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها، وهما شيرزاد ودينازاد، ومثل كتاب فرزة وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب السندباد، وغيرها من الكتب في هذا المعنى"(6). ويمكن تفسير ومناقشة قول المسعودي هذا على وفق النقاط الآتية: (1) وردت عبارة "أن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة"، والتي تفهم أنها موضوعة ومصنوعة بمعنى أن وراءها واضع أو صانع قد بذل جهداً في إظهارها إلى الوجود وليس استلالاً أو نقلاً من أحد. (2) شخيص "الصانع" أنه من المقربين إلى ديوان الملك بروايتها أي يرويها، راو. (3) أن عبارة "بحفظها والمذاكرة بها" جاءت ضمن السياق الذي تعمل فيه المرويات الشفاهية وهو أقرب ما يكون إلى جنس الحكايات العربية. (4) جاء تعبير "أن سبيلها سبيل الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية" بمعنى يؤكد أن هناك بالمقابل كتاب فارسي أخر وأن حالها حال هذا الكتاب الذي نخص به حكايات ألف ليلة وليلة. مما يؤكد وجود الكتاب الآخر هو قول المسعودي: "وسبيل تأليفها مثل كتاب هزاز افسانة" والذي ترجمه من الفارسية بـ "ألف خرافة". (5) يطلق المسعودي الاسم الصريح لحكايات ألف ليلة وليلة بقوله: "والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة"، أي بمعنى الكتاب الذي نقصده نحن وليس هزار أفسانة. (6) يؤكد المسعودي صفة التشبيه بين كتاب ألف ليلة وليلة وآخر غيره، بقوله الأخير: "ومثل كتاب فرزه وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب السندباد، وغيرها من الكتب في هذا المعنى".

 ويمكن أن نستدل من قول المسعودي أن ألف ليلة وليلة ليس نسخة فارسية أو هندية أو غير ذلك، وإنما كتاب يحمل أسماً مستقلاً أقترن بالشرق والعرب ولاسيما أنه من الأدب الشعبي فقد شاع السياق آنذاك أن تتناقل الأقوام والشعوب أخبار الممالك والأبطال والقصص الطريفة والعجيبة لما لها من تأثير نفسي مرض في الناس عامة، لهذا نجد أن أصول بعض القصص والأخبار في ألف ليلة وليلة منقولة من آداب أخرى ومن أقوام مجاورة. ويذكر المستشرق أريستروب أوجه الشبه بين ألف ليلة وليلة وما هو على شاكلتها في القصة الفارسية فيقول: "أن القصص التي أخذت من كتاب هزار افسانه الفارسي، هي التي تكونت منها نواة كتاب ألف ليلة وليلة، وعلى مر الزمن تجمعت حول هذه النواة في أراض عربية طبقات مختلفة من الحكايات"(7).

 ومن أشهر هذه الطبقات هي البغدادية التي تناولت أخبار وقصص الخليفة هارون الرشيد ذات الأوجه التاريخية والخيالية، وتليها الطبقات المصرية وقصص الشطار والعيارين. أما رأي ابن النديم بشأن ألف ليلة وليلة فهو المتحمس الأول للفرس في إعطائهم ريادة تصنيف الخرافات مع أن هذه المهمة قد نسبت إلى الهنود كما شهد لهم الكثير، ويبدو أن العقد النفسية أو الدينية أو العرقية تدفع البعض إلى تحريف الحقائق أو السكوت عنها أو تحكيم دوافع الانفعال في الوصف والتمييز مثلما يصف ابن النديم كتاب ألف ليلة وليلة بأنه "كتاب غث بارد الحديث"(8) ونحن الآن في زمن بعيد جد عن هذا الوصف الذي خالف الواقع والذي تجاهل أثر هذه الحكايات في آداب العالم، ولا يخفي الأديب الفرنسي ستاندال إعجابه بالحكايات إذ يقول: "أرجو من الله أن أصاب بفقدان الذاكرة لأقرأ ألف ليلة وليلة من جديد فألتذ به كما التذذت أول مرة"(9).

 أن الأدب العالمي الآن يشهد بأن العرب هم أصحاب ألف ليلة وليلة، والغرب يطلقون عليها اسم "Arabian Nights"  بعد أن غزت جسد الثقافة العالمية وانعكست بمساحات واسعة في وسائل الاتصال الإنساني بأجناس الثقافة والفن بمختلف صورها وأشكالها. وإذا كانت الليالي العربية لغير العرب، فلماذا هذا الصمت الدائم؟ بعد أن عرف الهنود والفرس والإغريق جيداً أن الليالي اكتسبت الشهرة العالمية باقترانها بالعرب بعد أن ثبتتها الوقائع والبحوث، ويكفي أن نرى في السينما العالمية وفي الدراما التلفزيونية العالمية الكثير من الأفلام والمسلسلات التي تجسد أشكال الملابس العربية والشخصيات العربية والأماكن والبيئة العربية بما في ذلك الخطاب الذي كان سائداً آنذاك والذي اعتمد على القصص العربية. وفي هذا الصدد يقول ليتمان، "نمت الحضارة العربية وتعددت جوانبها في القرون التالية. وألفت قصص مبتكرة في حواضر العالم الإسلامي، وأخذ فن القصة مع غيره من مظاهر التطور العقلي ينتقل شيئاً فشيئاً من المشرق إلى المغرب، نجد هذا كله ممثلاً في كتاب ألف ليلة وليلة، وهو أكبر مجموعة عربية للقصص وأكثرها تنوعاً، ففيه العناصر الدخيلة الشرقية الأصل إلى جانب العناصر العربية الخالصة"(10).

 الف ليلة وليلة هي من ثمار حضارة العرب وإبداعاتهم، ولو لم تحمل مقومات الأصالة والإبداع لما وصلت إلى الغرب إنسانياً، منذ ترجمتها الأولى عام 1704 على يد أنطوان غالاند الى الآن، فهي صلب عربي، وحكي عربي وبيئة عربية، وأخرى من وحي الخيال، وتميزت بخاصية سردية عربية كعلامة بارزة في حقول الثقافة والفن، فهي الماكنة التي لن تتوقف بدواليب الخيال والعجائبيات والتي طالت الجزر المسحورة والمدن الخرافية والبحار والجبال ومدن تدخل إليها بمجرد أن ترفع صخرة وتنتمي إلى عالم ألف ليلة وليلة، وألف ليلة وليلة قصص شعبية متنوعة تضمنت الأشعار والأمثال، ألفت في مدد زمنية مختلفة، إذ كان يضاف إليها بمرور الزمن بعض القصص والأخبار وظلت تتحمل الحذف والتحوير إلى أن جاء عصر الطباعة، الذي حد نوعاً ما من هذه المتغيرات والإضافات، فيحكي بعضها قصص وأخبار العرب ويحكي بعضها الآخر أخبار وأحوال الأقوام والشعوب المجاورة كالهند والصين وبلاد فارس والأتراك، وكانت الرحلات والأسفار هي السبب الرئيس في تداول حكايات الآخر والاطلاع عليها، ولأنها ترد من غير الاختصاصين والثقاة فأنها تحتمل المبالغة والتحريف والتلاعب، فمنها ما هو واقعي وآخر خيالي، وقد أدى التخيل دوراً مهماً في نشر الأساطير والخرافات التي اختصت بهذا الموطن أو ذاك. وحكايات ألف ليلة وليلة يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر الميلادي، ومثلت عالماً مشغولاً بالسحر والسحرة ولم تخلُ من المجون والخيانات على الرغم من أنها نابضة بالحياة والحكمة والطرافة والشعر، والحكايات الاجتماعية والوعظية إضافة إلى العجائبية والقصص الخارقة، أما أبطالها فمنهم حقيقيون كهارون الرشيد والاسكندر الأكبر، والمأمون ومنهم الأسطوريون ومن نسيج الخيال كالسندباد البحري وعلي الزيبق وعلي بابا وعلاء الدين ومصباحه السحري، ومنهم أبطال لحكايات الخيال العلمي، كعبد الله البري والبحري والبساط السحري والحصان الطائر ومدينة النحاس، وجبل قاف وغيرها، ونستطيع القول أنها عالم ساحر مركب من الأحداث المتداخلة والسرد العفوي ذات الأثر الرئيس في حقل الثقافة العربية الراسخة في الذاكرة الجمعية ذات البعد الرمزي والمتحول إلى التردد اللامتناهي من الصور الذهنية والخيالات، الأخذ باشتراطات القصص والتأليف الحكائي، الخاضعة لسمات النص الشعبي المكتنز بالأغراض والدلالات. وحكايات ألف ليلة وليلة اتخذت مسار التحقق الجمالي في تشكيل الصور الأدبية الملتزمة بآليات سردية مختلفة وبأشكال تعبيرية خاصة، ولها الحيوية السائدة في صياغة نمط التشكيل والتنوع بما يمنحها الديمومة، "ولعل حكايات ألف ليلة وليلة أن تكون أغنى الآثار السردية العربية قديماً وحديثاً، بأشكال السرد، بحيث يمكن أن نستخرج منها عدة أصول تصلح لأن تكون قاعدة للسرد العربي الأصيل"(11). وهذه القاعدة هي التي أدركها الغرب قبل غيرهم بعد أن ترجم الليالي العربية إلى لغاته المتعددة وأخضعها للدراسة والتحليل مما ألهمت خيال الكثير من الأدباء والفنانين، وحركت نزعة الإبداع التي تمثلت بخزين لا يحصى من الأعمال الأدبية والفنية الخالدة. أن الحكايات العربية أسست منهجاً جديداً في السرد الإنساني، إذ اعتمدته الكثير من روائع الأدب والسيناريوهات التلفزيونية والسينمائية، إذ برزت روائع كبرى كقصص الديكاميرون لجيوفاني بوكاشيو وحكايات كانتربري لشوتسر ودون كيشوت لسيرفانتس، ورواية (اسم الوردة) لأمبرتوايكو التي تحولت هي وغيرها إلى أفلام سينمائية متميزة،….

 

الهوامش:

(1) يوري ليتمان، ألف ليلة وليلة، دراسة وتحليل، دائرة المعارف الإسلامية، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982، ص 93.

(2) رباب حسين النمر، شهرزاد في الفكر العربي والغربي، دراسة منشورة على موقع انطلوجيا في 10/كانون2/2017:

https://alantologia.com/page/17164/

(3) هو أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري، من اهل الكوفة. ولد في 943م. صاحب كتاب (الوزراء والكتاب).

(4) ليتمان، مصدر سابق ص 94

(5) محسن مهدي، مظاهر الرواية والمشافهة في أصول ألف ليلة وليلة المجلد 20منشورات معهد المخطوطات، بغداد 1974، ص 125.

(6)  ابو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر ج2 دار الأندلس للطباعة والنشر، بيروت، 1984، ص 251.

(7) ميخائيل عواد، ألف ليلة وليلة، مرآة الحضارة والمجتمع في العصر الإسلامي، بحث مقدم إلى دار المعلمين العالية بغداد 1955، ص 13

(8) احمد محمد الشحاذ، الملامح السياسية في حكايات ألف ليلة وليلة، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1986، ص 28

(9) فخري حميد القصاب، آراء المشاهير في كتاب الليالي الشهير، مجلة التراث الشعبي، العدد الأول، بغداد، 1989 ص … ص 149.

(10) ليتمان مصدر سابق ص 4.

(11) عبد الملك مرتاض، الف ليلة وليلة، دراسة سيميائية تفكيكية، لحماية حمال بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1989، ص 104.