أيار 06
التناغم الإيقاعي في فلسفة هيغل.. من المجرَّد إلى ظاهريات الفكر
    كانت الفلسفة قبل هيغل خاضعة لمبدأ عدم التناقض؛ وهو مبدأ دأبت عليه الفلسفة منذ أرسطو إلى كانط؛ فلا يصح أن نقول إنّ الشمس تشرق ولا تشرق في الوقت نفسه. لكن جاء هيغل ليؤكد التناقض في عالم الظواهر، وانعكاس هذا التناقض على الفكر في عملية جدلية، لتنتج لنا مركباً جديداً تنصهر فيه التناقضات وتتوحد في شمولية، وهكذا تستمر هذه العملية الديالكتيكية لتشمل كل جوانب الحياة من سياسة وتاريخ ودين وفن.
كان هيغل ثالث أقطاب الفلسفة الألمانية المثالية التي ظهرت كرد فعل لمشروع إيمانويل كانط في نقد العقل الخالص، والتي كانت ممثلة بفيخته وشيلنغ. وتتخذ المثالية الألمانية من العقل مركزاً لإدراك الأشياء في العالم الخارجي، وتكون خواص هذه الأشياء مظهراً من مظاهر العقل، وليست خصائص وصفات للشيء المراد إدراكه في الخارج.
إنّ النسق الفلسفي الهيغلي هو نسق محكم البنيان وله هندسة متينة، لا تقبل الجزئيات دون النظر إلى الكل ككل متناغم في وحدة إيقاعية لا يعتورها النشاز أو الخطأ.
فمن خلال المثالية الذاتية عند فيخته التي تعتبر أنّ (الأنا) هو مصدر المعرفة المطلقة بوصفها وسيلة للوعي الأصيل، وتكون هذه الأنا منفردة ومنفصلة وتجري بداخلها كل عمليات الوعي ومقولات الوجود، إلى فلسفة الهوية عند شيلنغ التي تقوم بالوحدة المطلقة بين الذاتي والموضوعي، سيقوم هيغل بصياغة فلسفية مركبة بين هذين المفهومين مع تجديده لبعض المفاهيم القديمة، ليرسم لنا فسيسفاء معقدة ودقيقة ستكون مفتاحاً لمعرفة الوجود وصيرورة تطور الفكر منذ نشأته الأولى.
لقد رفض هيغل فكرة كانط عن العالم النوميني الذي لا يمكن أن يدرك بالحواس البشرية، وجعل هذا العالم متضمناً ومشاركاً في عوالم الظواهر.
فالفلسفة الهيغلية هي رفض لكل علو؛ فلا يمكن بطبيعة الحال أن يقبل هيغل الشيء في ذاته، والذي عّده امتداداً للتوكيدية أو الدوغماطيقية؛ فالحقيقة في نظره لا يمكن أن تكون مزدوجة، ولا يمكن أن تكون ذات وجهين بدون أي اتصال بين تلك الأوجه.
فيستبدل هيغل مفهوم النومين عند كانط بالمطلق الذي لا يوجد بصورة ذهنية ولا يعلو على التجربة، فالفلسفة الهيغلية هي رفض لكل علو، ولكل شيء مفارق عن عالمنا.
فكانط في نظر هيغل ظل حائراً في إيجاد معبَر أو جسر بين عالم الظاهر وعالم الشيء في ذاته.
الوجود والمعرفة
يرى هيغل أنّ المعرفة لا تبدأ بالمحسوسات المباشرة كحقيقة موضوعية ومستقلة، ولا بمبادئ العقل والإدراك الشخصي، لكن بالموقف المُركّب بين الذات والموضوع والذي يجد الإنسان نفسه فيه منذ بداية الوعي الذاتي، فنحن نوجد في هذا العالم بفضل ما نعرفه عن العالم الخارجي، كما أنّ العالم الخارجي موجود فقط بحكم معرفتنا به، فما هو معقول حقيقي، وما هو حقيقي معقول؛ لذا لا يوجد انفصال بين الفكر والحقيقة، وفلسفة هيغل ليست فلسفة مكثفة من التجريدات، وإنما فلسفة تنطبق على الأشياء العينية في الواقع والحياة، ويُعد هيغل أول من عالج الفكر في حركته الخارجية نحو الطبيعة وانعكاسه مرة أخرى نحو الداخل لينتج لنا تمظهرات تطور العقل في مجال المعرفة على سير خط التاريخ.
إذن، فالطبيعة أو العالم الخارجي تكون معطيات للوعي للذاتي، وتقوّل نفسها داخل الإنسان بكامل تناقضاتها وتجلياتها.
يبدأ هيغل من الوجود المباشر المعطى للإنسان والمكتفي بذاته، فوصف الشيء بالوجود سابق على أي وصف ومتقدم وعليه، مهما بلغنا في تجريد هذا الشيء، فمن المستحيل تجريده من الوجود، فالوجود هو أشد المقولات تجريداً وعدم تعيّن، لذا فهو يحوي اللاوجود أيضاً.
والمقولات الخاصة بالفكر هي نفسها مقولات الوجود. وهذا لا يعني أننا يمكننا استنباط موجودات من الأفكار المجردة؛ فلا يمكن استنباط شيء من الأفكار سوى بعض الأفكار الأخرى، لكن المقولات المجردة هي أساس كل وعي؛ فالأشياء التي تتكون من كليات كالمنضدة مثلاً التي تتكون من صلابة وامتداد وارتفاع، يدركها الذهن كفكرة وهذه الأشياء بأفكارها هي التي تعبّر عن وجودها داخل الإنسان.
لذا يعد هيغل أنّ الفكرة هي التصور طالما كان متحققاً بالفعل، ولا يمكن أن تكون الفكرة شيئاً ما خارج ما هو عيني، أو خارج الفكر الذي يفكر فيها، ولا يمكن استبعاد اي شيء ممّا ليس عينياً أو ما هو خارج الفكر.
الجدل الهيغلي
يمثل الجدل أعمق رؤية للأشياء، فضلاً عن أنه المنهج الفلسفي الأصيل المميز عن مناهج العلوم الأخرى والمعبر عن حركة الفكر والطبيعة إزاء موضوعات التفكير، وهذا من شأنه أن يحفظ الفكر من عيوب الاعتماد على الحدس الباطن، أو الاستدلال المبني على التأمل الخارجي.
ينطلق هيغل في جدله من مقولة الوجود كصفة أكثر عمومية، ويعتبر هيغل أنّ كل تصور من التصورات يضم نقيضه؛ لذا مقولة الوجود تضم اللاوجود؛ لأن مقولة الوجود لا تحتوي على أي مضمون ينقلها إلى النوعية أو التخصيص، وهذا الغياب المطلق لأي شيء هو اللاشيء نفسه، لذلك يحتوي التصور المحض عن الوجود على فكرة اللاشيء، وهذا هو السلب المحرك الذي يؤدي إلى الوحدة بين الموضوع ونقيضه في الصيرورة.
إنّ الفهم في نظر هيغل هو الذي يفصل بين الأشياء ويحقق بينها التعارض، في حين يوحد بينها العقل في شمول عيني، فالعقل يحل التعارض في تركيبة أعلى ويفض التناقضات في صورة مركب الموضوع ونقيضه، ويخلق الهوية والاختلافات، أو يرد الاختلافات إلى الهوية، وليست هذه الهوية مجردة، لكنها هوية عينية تحتوي على اختلافاتها ومفارقاتها الداخلية التي تضمها وتنميها في ذاتها، لذلك فمبدأ الجدل عند هيغل هو مبدأ عقلي يميز الاختلافات ويُرجع الأشياء إلى هويتها، عكس الفهم الذي يحوي التناقض بلا وحدة.
يمكن تفسير اللحظات الجدلية عند هيغل: 1- الموضوع وهو شكل العالم كمعطى أولي للوعي الذاتي. 2- نقيض الموضوع كشيء غريب وعدائي. 3- يصبح العالم مضمونا ذهنيا تملكه الذات هو مركب الموضوع ونقيضه. الموضوع نقيض الموضوع.
مركب الموضوع ونقيضه
وهذا سيقودنا إلى الثالوث الجدلي الهيغلي؛ وهو الفكرة التي تتبدى في الطبيعة عن طريق القوانين التي تتحكم فيها ..ثم الطبيعة وهي نقيض الفكرة ... والروح وهي مركب الموضوع ونقيضه، تنتقل الفكرة الخالصة إلى الطبيعة فتصبح في حالة اغتراب أو استلاب إزاء نفسها ثم ترتد الفكرة الخالصة بعد اغترابها في الطبيعة إلى نفسها لتقوّل نفسها من خلال الإنسان الذي هو في نفس الوقت جزء من الطبيعة لأنه حيوان يخضع لقوانينها، وفي الوقت نفسه كائن روحي، وهكذا تتجلى كل مظاهر الفكر والمعرفة في صيرورة مستمرة ويكون مسرحها التاريخ البشري في جدل مستمر وصاعد هدفه نمو الروح ذاتياً نحو اللامتناهي من خلال الغزو المعرفي للعالم.
لم ينفِ هيغل تماماً مبدأ الجدل في الطبيعة، لكنه اعتبره جدلاً ناقصاً؛ لأنّ الطبيعة لا تدرك نفسها، ولا تفكر بذاتها وإنما تتجه نحو الإنسان كفكر، لذلك فالجدل المثالي أو الفكري هو انعكاس للجدل الحقيقي لأنّ الوجود نفسه مثالي.
إلا أن ماركس في ما بعد قد رفض مثالية الوجود عند هيغل عندما أخضع الديالكتيك للمنهج العلمي في المادية الديالكتيكية، فالمادة والطبيعة والكون في حالة تغير وتحول دائم. أما الفكر عند الإنسان فهو انعكاس للعالم الموضوعي أو الواقع الاجتماعي. ومن هنا تأتي وظيفة الفكر عند ماركس بأنه قوة فاعلة ومؤثرة في الوجود وقادرة على التغيير عن طريق الوعي.
تعريف المطلق وصفاته
علينا أن نسلم بوجود فكرة رئيسة في البناء الاستراتيجي لفلسفة هيغل، وهو وحدة الفكر والوجود؛ فالعالم عند هيغل هو نتيجة للفكر ونحن نتحرك ضمن هذا الوسط الفكري، لذلك فالعقل الموضوعي المتمثل بعالم الظواهر والطبيعة لا يمكن أن يكون عقلاً إلا باتحاده مع عقلنا الذاتي. إذن فليس هناك إلا عقل واحد فينا وفي العالم؛ وهو عقل مؤثر في العالم وهو علة الأشياء، وهو ليس علة مفارقة ولا يوجد وراء الوجود، لكنه الأصل والهوية التي تعطي لهذا الوجود وحدة الأضداد.
إذن فالمطلق هو فكر ونوع من الوجود الذي ينسب له الوجود المنطقي، وهو الفكر الداخلي الذي يتحكم بصيرورة الأشياء وموقعها من عملية الوجود. وبناء عليه يمكننا أن نعد أنّ الفكرة التي يرجع فيها التصور إلى نفسه عن طريق اتحاد الذاتية بالموضوعية هي أرفع تعريف للمطلق.
يفترض هيغل في كتاب ظاهريات الروح أو الفكر ثلاثة أنواع من الموجودات، تتداخل مع بعضها وتتجلى لتكون المطلق وهي:
1- المطلق 2-الطبيعة 3-المعرفة البشرية
وتتم العلاقة بين المطلق والطبيعة من خلال المعرفة البشرية، وتلك المعرفة هي العنصر الكاشف للدلالة بين المطلق والطبيعة، ولا يكون المطلق مطلقاً إلا من خلال التشظي والانقسام والتجلي في الطبيعة والمعرفة البشرية، فالمطلق يعتمد على التجلي بقدر ما تعتمد تجلياته عليه.
يقول هيغل: "إنّ الله من دون العالم ليس الله"
والمطلق عند هيغل ليس وجوداً معطى مرة واحدة وإلى الأبد، ولا تكون معرفتنا به حدسية مباشرة، وإنما نتيجة صراع نقدي وعملية جدلية تحقق نفسها تدريجياً، فيصير آخر غير ذاته، لكنه يظل ذاته في هذه الآخرية.
يصف هيغل المطلق بأنه منقسم وبسيط ومتشظٍ، والتجلي هو ميزة أصيلة في المطلق الذي يحركه السلب والتناقض والصيرورة،
والتجلي في المطلق هو حركة باتجاهين متداخلين؛ الأول هو تجلي الأشياء كلها والإنسان بضمنها تجلياً أنطولوجياً. والثاني تجلياً أبستمولوجياً، وهو تجلي المعرفة ابتداء من اللوغوس إلى الإنسان.
وتتم تجليات المطلق وفقاً لعملية ديالكتية تطورية يقسمها هيغل إلى نوعين من الجدل: الجدل الهابط والجدل الصاعد.
الجدل الهابط: وهو أصل الجدل عند هيغل؛ إذ يمثل انفعال الله إزاء العالم الذي خلقه في حالة استلابه فيه، ولا يرفع غضب الله إلا بالجدل الصاعد الذي تتطلع فيه الإنسانية والمجتمع والتاريخ نحو الله وتفنى في أبديته الحية.
الروح المطلقة
إنّ الروح المطلقة عند هيغل تتألف من اتحاد الروح الذاتية وهذه الروح عبارة عن العقل البشري منظوراً إليه ذاتياً كفعل خاص بالذات الفردية، وتشمل الإدراك الحسي والخيال والذاكرة وكل الملكات والدرجات الوظيفية في العقل البشري مع الروح الموضوعية؛ وهي انتقال الحياة الجوانية إلى نقيضها في الحياة البرانية وموضوعاتها الخارجية، ولكن العالم الخارجي هنا ليس مادياً وإنما هو عالم روحي يشمل الأنظمة والقوانين كالعدالة والخير والأخلاق والدولة، وهذا يتجلى في الروح الكلية التي تنظم الحياة العامة في المجتمع والدولة والأسرة؛ لذا تعد هذه الأنظمة بوصفها مظاهر للعقل والذكاء والغاية.
أمّا الروح المطلقة التي تتكون من اتحاد الروحين فإنها تدرك وحدة وجودها الباطن فتبلغ حقيقتها الكاملة في الفن والدين والسياسة وهنا تبلغ الروح حرية مطلقة لا متناهية.
التاريخ وظاهرية الفكر
يعتبر هيغل أنّ المنطق داخل في طبيعة الإنسان الخاصة، والعقل نفسه، لذلك فهو يصبح وجوداً ومعنى في آن واحد، وعليه فإنّ الفلسفة الهيغلية تأخذ شكل المنطق وتستعيره لتبدو كعلم بين العلوم، لكن الأصل في فلسفة هيغل هو التاريخ وجاء المنطق لتدعيم هذه الفلسفة ومساندتها.
يكون المنطق هو المعبر عن حركة التاريخ في إطارها ومسيرتها من خلال الانتقال من اللامحدود إلى المحدود، وكذلك من الصورة إلى المادة، فالفكرة تظل مجردة إلى أن تجد مضموناً عينياً وتتحقق فيه وهو التاريخ، والتاريخ لا يوجد وراءه سوى الفكرة، والفكرة مجردة.
ظاهرية الفكر ليست تاريخاً للفردي، وليست مجرد تاريخ للعملية الذهنية الخاصة بتطور الجنس البشري، بل هي عبارة عن الأمرين معاً، لذلك لا يمكن أن يكون التاريخ كتاريخ هو عنصر الاهتمام الرئيس لهيغل، ولكن التاريخ هو معنى التجربة وهو مصداق التوافق بين عالم الفكر وعالم الحقيقة، واستمرار معنى العقل في الواقع الفعلي، فالتاريخ من شأنه أن يحفظ تجارب العقل والمعرفة، ومن شأنه أن يعكس كل أوجه التاريخ التي تنتاب الحقيقة، لذا يمكننا تعريف ظاهرية الفكر بأنها موضوع علم الوعي، وإنّ فلسفة هيغل بأكملها هي تطلع نحو الوعي الإنساني الحقيقي، وإنّ نظرته الثاقبة إلى تاريخ الفلسفة جعلته يربط هذا التاريخ ربطاً بحركة التاريخ العام، لأنّ التاريخ بوصفه صيرورة الإنسان، ليس سوى وعي الروح بذاتها في مختلف ضروب الصراع والاختلاف، وهو عبارة عن مجموع الظواهر الجدلية للفكرة التي تستقر في حاضرها السرمدي.
تدرس ظاهرية الفكر مرحلة متقدمة من مراحل الروح يسميها هيغل الوعي؛ وتتميز هذه المرحلة الجديدة بطابع عام يتمثل في واقعة الانتباه إلى وجود شيء خارجي بالنسبة إلى الوعي، ويكون الوعي متقدما شيئاً فشيئاً، اعتماداً على التغيير الذي يترتب على الشيء الخارجي. لذا يظل تحديد الوعي مرتبطاً بتحديد الشيء الخارجي الذي يصبح مضموناً بداخله، ولكن دون أي اعتبار خارجي أو تجريبي يكون خاصا بالشيء الذي هو موضوع الوعي.
لقد أدمج هيغل المعرفة المفكرة في المعرفة الموضوعية، وأثبت أنّ المعرفة إذا تعلقت بالشيء الخارجي ارتدت إلى نفسها، لذلك فهو يشمل العقل النظري إلى جانب كل العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الوعي والواقع الحقيقي. وانعكاس الوعي على ذاته عند هيغل هو تركيب مؤلف بين الحرية والضرورة، تتحقق فيه الذات تحققاً تاماً أثناء حركة العودة إلى نفسها.
الوعي الذاتي والرغبة  
تتجه الذات عند هيغل إلى العالم الخارجي ليس كمعرفة، ولكن كرغبة فالرغبة هي عامل رد الإنسان لذاته كوعي ذاتي، وهي التي تنشىء هذا الكائن الإنساني (كأنا) وتكشف عنه بهذه الصورة.
ولمّا كان الوعي الذاتي يتلقى مضمونه من الشيء المرغوب فيه، فإنه يتشرب بوجود هذا الشيء، ولو انصبت الرغبة على شيء صارت تحمل كل خواص الوجود الطبيعي الشيئي، لكن هذه الخواص المرتبطة بالشيء متعارضة مع الوعي الذاتي، لأنه في حد ذاته نفي للموجود الشيئي، ولكي يحتفظ الوعي الذاتي بنفسه لا بدّ أن يتموضع كعملية إعدام، ولا بد لهذا أيضاً أن يؤكد الوعي الذاتي وجوده كرغبة في الرغبة وكفراغ يريد ذاته وينشدها، ومن هنا يتعرض الإنسان للالتقاء بإنسان آخر يناشده أن يتقبله كموضوع لرغبته.
فالأنا لا تتجلى لذاتها إلا بقدر ما يحدها وجود الغير، ولا يدرك الغير ذاته في أناه إلا بقدر ما يدفع أنا سواه ويستعبدها ويردها إلى داخلها. ويؤدي اشتباك كل طرف من أطراف الوعي الذاتي بطرف سواه يعارضه إلى الصراع حتى الفناء، فتسعى الأنا لفرض نفسها على الأنا الأخرى كموضوع لرغبتها، وينشأ عن صدام رغبات كل من الإنسانين أو الوعيين الذاتيين اختفاء الخصمين من المجال، وهنا لا بد من تعريف الغير على الأنا كقيمته الخاصة به كطريق للخلاص أو النجاة من هذا الصراع. ومن هنا نشأت مقولة السيد والعبد الشهيرة عند هيغل في كتابه ظاهريات الروح أو الفكر مفادها أنّ كل شيء يكون موضع سيادة وتملك يكون خاضعاً للتفكير.
الحرية
تُعرّف الروح نفسها كروح لمجرد تعرفها على ذاتها كوحدة بين الوعي الذاتي الخاص بها والحقيقة الموضوعية. وهنا تقوم روح كلية هي روح الزمن وروح الشعب، فالروح عند هيغل هي المظهر الذي يحتوي على عقل كامن في الأفراد التي تتألف منها الجماعات البشرية، والفكر هو الأساس الذي تتبلور حوله الظاهرية والروح العامة هي مظهر الفكر.
إنّ ماهية الروح عند هيغل هي الحرية، وهي مرحلة انتقالية في تطور العقل، ولا يبلغ الإنسان هذه الحرية الحقيقية، إلا عندما يفارق الحرية المجردة وينفد بوعيه الكامل إلى العالم بوصفه عالمه الخاص والحقيقي الذي يتمثل في بقائه واستمرار مصلحته وموضع اهتمامه، لذلك فالوعي الذاتي لا يبلغ حريته في صورة أنا وإنما في صورة (نحن) عندها تكتمل الحقيقة التاريخية وتتحقق في حياة الأمة.
على الرغم من تحررنا من هيمنة العقل الهيغلي وشموليته المركزية لِما فيها من تذويب للفردانية، حيث ينصهر الإنسان انصهاراً تاماً في الجماعة وفي تمظهرات الفكر الإنساني وأنساقه؛ إلا أنه يحسب لتلك الفلسفة بأنها ساهمت بربط الفكر بالوجود بالمعرفة عن طريق مبدأ الجدل والدراسة الفاحصة والكاشفة لأهم مراحل تطور العقل منذ اللحظات الأولى لبزوغ الوعي الذي ساهم في نشأة الحضارات والمدنية، وكل ما أنتجته المخيلة من أدب وفن وموسيقى، ومن ابتكار للمفاهيم والنظريات العلمية والقوانين، وبكل ما من شأنه أن يساهم في دفع عجلة هذا التطور في مسرح التاريخ حتى تحققه الكامل من المحدود إلى اللامحدود.