أيار 05
تجليات النسق الثقافي المكاني
في رواية (آخر المدن) لزهير الجزائري
 
 
بدءاً من عتبة العنوان تضعنا رواية آخر المدن للروائي زهير الجزائري إزاء عالم مكتظ وملتبس بتعدّدية المعنى وعمق التجسيد ويحتل المكان البؤرة المركزيّة والمسار السردي الكلّي، فالعنوان دال على نسق مكاني، وتكشف الدلالة التركيبيّة والإيحائية للعنوان بوصفه النص الموازي عن إشارات وإحالات وتجلّيات لمفهوم المكان ودلالاته، وبما يجعله المحرّك الأساس للأحداث والوقائع ويتعدّى المعنى الجغرافي أو الحيز الفيزيائي باتّجاه إحالات ومعانٍ سيميائية تدلّ على معنى فكري يتأطر ويعبّر عن آخر الخيارات والرهان على أقصى حدود المغامرة عن طريق التصدّي للنظام الشمولي الدكتاتوري واتّخاذ الجبال والوديان مكاناً لانطلاق هذا الاشتباك الحاد والدموي.
تتجلى معانٍ أخرى لنسق دلالة المكان حين تندفع المجاميع المعارضة للنظام المستبد باتّجاه البحث عن ملاذ آمن عن صيرورة المكان المثالي والأليف متمثلاً بالوطن الذي يتمركز سعيهم وسياستهم للوصول إليه وإعادة تشكيله وعلى رؤى وتوجّهات جديدة ومتقدّمة، على وفق هذا المنظور حرص الكاتب على التوكيد أو الاستشراف المكاني وتعدّد دلالاته، وهو ما يطابق الطاقة الإيحائية وتعدّد المعنى انطلاقاً من مقولة إنَّ العنوان هو المفتاح التأويلي والإضاءة الكاشفة لمجمل البنية الأفقية والعمودية للنص الذي يزيح الدلالة وخروج المعنى داخل النص إلى تشكيل جوهر الخطاب الإنساني والدلالي الذي تتمركز حوله الرواية بشكل عام، وبدلالات أكثر اتّساعاً وتوليداً وإحالة، مما يفعّل طاقة الاكتشاف عند المتلقّي ويصبح المكان مرتبطاً كلّياً بصيرورة منتجة بتحوّيل التضاريس والحيّز والإطار الفيزيقي والجغرافي إلى سؤال وكينونة يكشفان عن علاقة الإنسان بالمكان روحياً وثقافياً بوصفه كينونة وهوية وحلم وغاية، ولا يمكن تحقيق هذا النسق من المعاني والدلالات إلاّ بالاقتران والتماهي مع مكنونات الإنتماء الثقافي إلى الهوية المكانية بوصفها أحد أشكال التعبير عن الهوية الإنسانية والثقافية والمنظومة القيمية.
تحوّل المكان في الرواية إلى فضاء متّسع يعبّر عن سعي الإنسان إلى المقاومة لجعله الركيزة الأساسية للفعل الناجز وتأسيس شفرات إشارية لتمجيد المكان بوصفه مرجعاً ورمزاً وصيرورة مبتغاة عبر هذه الدلالات بتأسس مفهوم العلاقة الوجودية بين الذات والموضوع، والذات والآخر، والضياع والهوية بما يكشف عن تعميق الحس الشعوري بين الذات والمكان ويتحوّل بذلك معنى المكان من منحاه الواقعي الفيزيقي إلى منحاه الدلالي والتأويلي، ويتحول إلى بنية مفاهيمية تكشف عن ضرورة الألفة والبحث عن الذات، والبحث عن الحريّة والخلاص، ولهذا يمكن الاستنتاج أنَّ البطل الحقيقي والمعنى المحوري هو ما عبرت وتشكلّت به أبعاد رواية (آخر المدن) بوصفها سؤالاً ثقافياً في المكان وأنساقه، إذ اتخذ مفهوم المكان نوعاً من الجدل الداخلي وخلق ثنائيات مكانية للتعبير عن عمق الفكرة الكلّية، فهناك الجبل والأرض المستوية، وهناك الوطن والمنفى، وهناك الانفتاح والانغلاق، وهناك (مدنية المكان) وتناظرها (عسكرة المكان)، وهناك حلمية المكان وهناك كابوسيّته، ونلحظ التضاد يكمن كليّاً بين الصراع على مستوى المعنى بين المكان (الديستوبي) و(المكان اليوتوبي) لاسيما أن مصطلح (المدينة الفاضلة) قد تكرّر وجوده على لسان كثير من الشخصيات، بل أن المسعى الحقيقي لمجاميع تجربة الأنصار بوصفها حركة معارضة سياسية مسلحة كانت تنطلق من صراع الأمكنة، وتحديداً ثنائية المكان السلطوي والمكان الذي يرمز للتصدّي أي مكان الحريّة.
فالرواية في جوهرها تجسّد وتوثّق تجربة الصراع السياسي والعسكري بين سلطة الاستبداد وإرادة المجاميع الحرّة ذات النزعة اليسارية لتحقيق فعل المواجهة والاشتباك الذي يؤشّر التضاد في المنحى والرهان على القيم التي يؤمن بها كل من الطرفين المتصارعين، وتتحول الرواية إلى حرب خطابات وحرب أمكنة وأن مجاميع الأنصار اختاروا التجربة الأكثر شراسة واندفاعاً ويقيناً من خلال الرهان على البيئة الجبلية القاسية من دون التفكير بالاختلاف، وحجم الاستعداد اللّوجستي والعسكري من حيث العدّة والعدد ومستلزمات التسليح، لكن هذا الخيار لم يصل إلى المغامرة العدميّة بل كان فعالية منتجة ومغلقة للنظام، ولعلّ الدلالة الأولى تكمن في عتبة (المقدّمة) التي تشير إلى أكثر من معنى للمكان، بل إنَّ الروائي يشير إلى القرية التي شهدت المجازر والحرب العنيفة وفيها بدأت بواكير كتابة الرواية برمّتها وهذه الإشارة الاستهلالية تكشف عن تأثير ودور المكان وجعله المرتكز والمسعى، ولتعميق الدلالات المترشّحة عن هذا التوظيف يقول الروائي: "بدأت بكتابة هذه الرواية في موقع المجزرة في قرية (بشتاشان) الواقعة في السفح العراقي من جبل (قنديل).. من يومياتي ومن شهادات من عاشوا الحدث تشكّلت الرواية وطبعت في عام 1992، أغلقت دار النشر في دمشق ورحل صاحبها عن دنيانا . ابتعدت مكاناً وزماناً فتغرّبت الأحداث والشخصيات لكن الحدث نفسه، ومن فقدت فيه لا يزال يسكن روحي وكوابيسي " (الرواية: 5)، وبذلك يعبّر الكاتب عن مفهوم ودلالة المكان بوصفه نوعاً من وعي الذات وثقافة المكان، وتجاوز معناه الإطاري المجرّد إلى تجلّيات فكرية وتعبيرية وتأويلية، وهو يشير ضمناً أنَّ ثقافة الحريّة والثورة تتطلّب المكان بوصفه الأرض أو المساحة الحرّة التي تتسع باستمرار لإزاحة المكان بمعناه التسلّطي، وبمعناه القيمي، وطبقاً لذلك يحيل المفهوم الدلالي إلى فكرة الوطن وفكرة الخلاص وفكرة الانتماء، وبما يشكّل زخماً ووجوداً مكانياً مضادّاً قادراً على توفير منطق التصدّي والاشتباك وإزاحة النظرة النفعية الامتلاكية لمفهوم المكان، فالثوار يتّخذون من المكان وسيلة ومساحة للحراك وليس فضاءً تملّكياً.
ويمثل استهلال الرواية دلالة بيّنة على الخيار المكاني ومنه تنطلق أحداث الرواية : "بعد أيام من الانتظار على حافة الأرض الحرام جاء الرسول ليبلّغنا:   -(البختيار) أعطاكم الأمان في أرضه وأمر بالحماية والزاد حتى تستقرّوا وتدبّروا أموركم .  كنّا أول الجماعات التي افلتت من الهزيمة والحصار وتسلّلت عبر الحواجز وحقول الألغام، مع قافلة المهربين حتى وصلت حافة الجبل الذي تسيطر عليه قبائل البختيار" (الرواية: 7).
فالمشهد الأول في الرواية هو مشهد مكاني كما نرى وهو الغاية أو الأمل الذي حصل عليه رفاق الرحلة القاسية من وجود هذا المكان الآمن التابع لقبائل (البختيار) الكردية ونجد أكثر من دلالة على أمكنة مختلفة، فأرض البختيار تحولت إلى مكان أليف بعد الإفلات من أماكن معادية أماكن الحصار والهزيمة والحواجز وحقول الألغام إلى جانب الأمكنة التي يتحرّك فيها المهربون، ضمناً هناك إشارة إلى تنوع المكان، مكان السهول المفتوحة ومكان الجبال الشاهقة والصخور الحادّة.
إنَّ هناك اهتماماً وتعمّقاً في كلّ فصول الرواية بوصف الأمكنة والبيئة، وبما يجسّد حجم الصراع بين الذات والمكان، وبما يجعل المكان تجسيداً لفكرة وماهية (الموضوع) باعتبار أن الذات تبحث عن المكان الذي يضاهي كينونتها ومطالبها الوجوديّة وليس مجرّد فضاء فيزيقي، ويتّسع المعنى ليكون المكان هويّة المكين فالحواجز والمعسكرات وحقول الألغام هي أمكنة ترمز وتعبّر عن هوية العنف والتسلّط، بينما تعبّر مساحات الجبل والوديان وأماكن أخرى عن هويّة الباحثين عن الحريّة التي تتحوّل عندهم أية أرض إلى فضاء للذات لأنّها أمكنة الخيار ووعي الكينونة.
تجسّد معنى المكان الهوية الثقافية والفعل ووعي الذات ووعي التحدّي بوجود الأمكنة والربايا والمخيمات التي يشيدها أفراد حركة الأنصار لكي تتحوّل إلى مساحات لاحتواء المنطلق والتوق إلى تحقيق الوجود الأبهى على الرغم من المغامرة وقسوة المخاطر، ويمكن الاستدلال على هذا النوع من الأمكنة وهو ما يتجلّى بإقامة وتشييد المستشفى الذي قامت بإنشائه الدكتورة (عشتار) وزوجها الدكتور (مالك) الذي تحول إلى مكان للشفاء واستقبال الحالات الخطيرة وتوفير العلاج للمقاتلين والمتصدّين، بل إنَّ كثيراً من سكان القرى القريبة والنساء اللّواتي يعانين الأمراض وجدن في هذا المكان ملاذاً ينقذ حياة المرضى ويديم منطق البقاء على الرغم من الصعوبات وقلّة المستلزمات والمشفى مكان أشاع ثقافة صحية للمنطقة ، "خلال أشهر اكتمل المستشفى، افتتاحه كان عيداً انتظره أهالي القرى منذ عقود ليتحرّروا من غيمة الكآبة التي تهيمن على أرواحهم،.. زهور البابونج فرشت على طول المدخل، ولبست نساء القرية ملابس العرس المنسيّة، ودبك الرجال أمام البناء وطاروا حدّ الجنون وتكدّست الهدايا، جرار عسل وأكياس جوز" (الرواية: 28).
فالدلالة القيمية لمكان يشفي سكان القرى الذي قام بإنشائه أفراد من الأنصار يعكس دلالة تمجيد للحياة وديمومتها ويعكس إدانة للسلطة واهتمامها بالقتل وتوفير كلّ أنواع الأسلحة التي تفتك بالإنسان وتستهدف المعارضين، وتخلو المدن والقرى جنوباً وشمالاً من أمكنة تحتفي بالإنسان وتقوم على تمجيده وبقائه وديمومته، وتتّسع دلالة الفكرة من أنّ مجاميع الأنصار يملكون مشروعاً للحياة ومتطلباتها وصناعة يوتوبيا إنسانية، وهم إذ لجأوا إلى حمل السلاح واختيار (الأماكن) البعيدة والبيئة الشرسة إنما هو تعبير اضطراري وخيار ملجئ وضرورة تعكسها حتمية الصدام مع الآخر الذي ساق كلّ مقدرات الواقع واحتمالاته إلى منطق الإقصاء والمحو لتوفير أجواء التضخّم والأنويّة والتوحّش السلطوي.
وطبقاً لهذا الفهم يمكن دراسة دلالة المكان وما يعكسه ضمناً وهو الذي جعل من تعدّديّة المعنى للمفهوم المكاني يتخّذ هذا الأفق من التجلّي والإحالة، وذكراً لأماكن كثيرة وأسماء الجبال مثل (قنديل) و(العاشق) و(فم الذئب)، وتحفل الرواية بجعل دلالة المكان محوراً لتقديم الواقع المأزوم، فالسلطة تشوّه الأمكنة بما يعكس ثقافة التدمير والقضاء على جمال الطبيعة وتحويل كل الأماكن إلى معسكرات وبقايا المعارك وحقول ألغام وتصف الرواية حركة أحد الشخصيات (بهاء) في فضاء المكان "تجوّل بهاء في ذلك الشق الجبلي الذي تسكنه قبائله وسمع قصصاً مؤلمة عمّا تعرضت له العوائل من قصف السلطة، وحرق البيوت وأخذ الرجال رهائن سجّل كل ذلك في دفاتر يوميات ووصل في النهاية إلى قرار تثبّت في أعماقه : " ليس من مصلحته أن يحاربنا ونحن في أراضيه.. ويسمع من جانب آخر عن صلات ابنه الخلفيّة بالحكومة وأرباحه الخيالية جراء تهريب النفط" (الرواية: 33)، المقطع السردي يكشف عن التوجّه لتشويه المكان وما يناظره من تشويه الإنسان، ويعكس أيضاً المأزق الخطر الذي يمثّله المكان بالنسبة لمجاميع الأنصار وتوجّسهم من الذين يتعاونون مع السلطة لأغراض براغماتية وفكرة تهريب النفط، تعكس توجّهاً سلبياً وسطواً على ثروات الأرض التي تبيحها الحكومة لكسب العناصر المتعاونة معها، والمشهد يعبّر عن حجم الخطورة التي تحيط بالمقاتلين من الأمكنة التي يعيشون أو يلوذون فيها، وبين الخطر الداهم والعنيف من السلطة متمثّلة بالقوات العسكريّة المدربة، ويمثل وجود الكمائن تقديم إحدى تجلّيات المكان الديستوبي أو المعادي، "سرتْ بيننا دمدمة تتناقل، يقيناً خائراً:  -  كمين   !  كمين !   كمين !
لكنّ أحداً لم يسحب أقسام بندقيته .. لن نطلق النار فنحن أعجز من أن ندافع أو نشتبك، وقد نقتل بعضنا في هذه المتاهة" (الرواية: 107).
وفي الفصل الأخير القصير والمختزل تقدّم الرواية رؤية بانورامية للمكان وقد تحوّل إلى زوال دائم وترحال مقيم حتّى أنهم ينسون اسم المدن والقرى، وهو مقطع يحمل دلالة المكان في تحريك بنية السرد والتمركز حوله :
" – ما اسمها ؟            - .....   - أقصد المدينة التي تركناها؟!
الغريب أنّه قبل هذه اللعبة كأنّها لعبته
وبقي هو نفسه لا يعرف المدينة" (الرواية: 219)
الرواية في مجملها تعبر عن جانب مهم من سيرة الكاتب نفسه ممزوجة بشهادات ويوميّات ورصد لوقائع الجمر فوق أمكنة قلقة للبحث عن الأفق والذات والحرية والفكر، لذا نجد الإحساس بالمكان إحدى المهيمنات الدالّة في هذه الرواية المتقدمة شكلاً ومضموناً .
 
 زينة إبراهيم الخرسان: باحثة عراقية في الدراسات الثقافية والنقد الثقافي