أيار 03
 
كيف نكسر الحلقة الشريرة التي احاطت بالتطور السياسي الاجتماعي للسودان، وأبقته في أسارها منذ نيله الاستقلال في مطلع عام 1956، والمتمثلة في نظام حكم برلمان برجوازي على نمط وستمنستر (البريطاني – ث.ج) يقطع مساره انقلاب عسكري يفرض نظام الدكتاتورية العسكرية، يطيح بها جموع الشعب في تحالف واسع طبقي وفئوي وسياسي عام من اضراب سياسي وانتفاضة شعبية، ترفع الى سلطة حكومية انتقالية مؤقتة لفترة ستة اشهر او سنة تعبر بهذا القدر او ذاك عن توازن قوى الانتفاضة وفق ميثاق سياسي، ثم تجري انتخابات برلمانية وفق قانون انتخابات تقليدي، تتمخض عن نظام برلماني، ثم يخيم شبح الانقلاب العسكري من جديد؟
من جملة 33 عاما لاستقلال السودان السياسي، دامت الدكتاتورية العسكرية الاولى والثانية 22 عاما، ولم يستمر النظام البرلماني سوى احد عشر عاما لثلاث فترات متقطعة، تخللتها فترتان انتقاليتان لعام ونصف العام مارس فيها شعب السودان قدرا معينا من الديمقراطية المباشرة من حيث الشكل السياسي وتركيب السلطة السياسية - دون مساس بالتركيبة الاقتصادية الاجتماعية، والنظام الاقتصادي الاجتماعي ومصالح الطبقات والفئات السائدة.
الفترة 1954 – 1956، ثم 1956 – 1958 النظام البرلماني الاول الذي انتقل بالبلاد من فترة الحكم الذاتي وجلاء القوات والادارة الاستعمارية وأعلن الاستقلال. الفترة 1958 – 1964 الدكتاتورية العسكرية الاولى لكبار الجنرالات، اكتوبر 1964 – حزيران (يونيو) 1965 الاضراب السياسي والانتفاضة التي اسقطت الدكتاتورية العسكرية، وكونت حكومة انتقالية تمثل الاحزاب السياسية بما فيها الحزب الشيوعي، وكذلك النقابات والاتحادات بما فيها العمال والمزارعون، ثم اجراء الانتخابات وقيام النظام البرلماني حتى أيار (مايو) 1969، حيث وقع الانقلاب العسكري الثاني بقيادة صغار الضباط وبشعارات ذات طابع اشتراكي على النمط الناصري والتجربة المصرية. واستمرت الدكتاتورية العسكرية الثانية، وانبثقت عنها حكومة انتقالية “مستقلة” بلا تمثيل للأحزاب أو العمال والمزارعين، اضافة الى فارق آخر، هو تدخل كبار الجنرالات واستلام السلطة بمجلس عسكري انتقالي أعلن تصفية المؤسسات السياسية للدكتاتورية العسكرية وعزل النميريين والاتفاق مع ممثلي الاحزاب والنقابات والاتحادات على تحديد فترة الانتقال بمدة سنة جرت خلالها الانتخابات التي تمخضت عن النظام البرلماني الثالث والمستمر حاليا. 
تزيد الصورة العامة وضوحا ببعض الهوامش، التي قد لا تختلف عما يحدث في العديد من بلدان العالم الثالث، لكنها تقترب بالقارئ من مميزات وتفرد التجربة السودانية.
أولا: انحياز مجموعات مؤثرة من الضباط والجنود الى جانب الحركة الشعبية طيلة سنوات الدكتاتورية العسكرية الاولى والثانية سواء بمحاولات الانقلاب المتكررة وهزيمتها الدموية، ام من لحظات الاضراب السياسي والانتفاضة الحاسمة بالضغط على قيادة الجيش والسلطة بالتنحي عن الحكم والنزول لإرادة الشعب واستعادة الحرية السياسية، ورفض انزال الجيش الى الشارع لقمع الاضراب السياسي والانتفاضة. هذا عامل ثابت في الصراع السياسي الاجتماعي في السودان، يتكرر بالضرورة اذا تكررت تجربة الدكتاتورية في المستقبل.
ثانيا: الانظمة البرلمانية البرجوازية الثلاثة تستند الى اغلبية برلمانية لأحزاب الرأسمالية شبه الاقطاع (أو شبه الاقطاع القبلي الطائفي الذي انتقل للنشاط الرأسمالي) وتشابكت مصالحه بل وانصهرت مع مصالح فئات الرأسمالية السودانية التقليدية التجارية والحديثة في الصناعة والتجارة الخارجية وتوكيلات رأس المال الاجنبي والنشاط المصرفي، والعقارات والنقل والمواصلات والتخزين والخدمات، وفوق هذا وذاك البيروقراطية الرأسمالية المدنية والعسكرية. لكن انتقال شبه الاقطاع الطائفي القبلي للنشاط الرأسمالي وتشابك مصالحه مع فئات الرأسمالية المتعددة، لا يعني انه فقد نفوذه الايديولوجي على جماهير الطائفة الدينية. صحيح ان اقساما من تلك الجماهير تتمرد وتتحرر في مستوى الطلائع، لكن الاغلبية الساحقة تظل اسيرة لنفوذ قادة القبيلة وقادة الطائفة. ليس هذا وحسب، بل وتعمل الفئات الرأسمالية الأخرى على ابقاء ذلك النفوذ وتسخيره لمصالحها السياسية، وتلك سمة من سمات تخلف الرأسمالية السودانية عن ان تلعب دور اختها الاوربية في الثورة البرجوازية الديمقراطية.
ثالثا: عجز حكومات الرأسمالية شبه الاقطاع عن حل المعضلات السياسية الاجتماعية الثقافية، لمرحلة ما بعد الاستقلال، كان وما يزال الثغرة التي ينفذ منها ويتسلل عبرها الانقلاب العسكري، ويكتسب بها “شرعيته” او مبرراته وفرض الدكتاتورية العسكرية.
رابعا: برغم ما يعلنه العسكريون عند الاستيلاء على السلطة من محاربة للفساد الحزبي، واستعادة الامن والنظام بعد الفوضى الحزبية، والحد من الثراء الحرام والرشوة وتبديد موارد الدولة، وتحقيق العدالة الاجتماعية وربما تحقيق الاشتراكية، فان الحصيلة النهائية للدكتاتورية العسكرية الاولى من مواقع الشعارات اليمينية الاصلاحية، وللدكتاتورية العسكرية الثانية من مواقع الشعارات اليسارية الثورية الاشتراكية، كانت تسريع وتائر التراكم الرأسمالي، واتساع صفوف الرأسمالية السودانية وتركيز رأس المال، واستخدام جهاز الدولة وقطاعه العام، وبصفة خاصة البنوك والمؤسسات المؤممة، كأداة اساسية للتراكم الرأسمالي، وصعود فئات من البرجوازية الصغيرة لمصاف الرأسمالية، من بينها شرائح كاملة كانت في مقدمة الحركة الثورية والحزب الشيوعي، وانخراط قيادات نقابية في تراتبية بيروقراطية: جهاز الدولة وجهاز الامن والهيئات العليا للتنظيم السياسي الرسمي الواحد.... كما كسبت الرأسمالية السودانية مزيدا من الوعي ومزيدا من الافصاح عن مصالحها، وبصفة خاصة من الصراع الواعي المنظم والمخطط ضد حركة الطبقة العاملة والكادحين في المدينة والريف بصعود فئات وشرائح البرجوازية الصغيرة والقيادات النقابية الى صفوفها- اذ لم يعد اولئك القادة النقابيون والثوريون والشيوعيون السابقون مجرد انتهازيين يدافعون عن مصالح وأفكار الرأسمالية داخل حركة الطبقة العاملة والحركة الثورية، بل اصبحوا عضويا جزءاً من الرأسمالية، وامتلأ الفراغ بالضرورة بعناصر ومجموعات انتهازية و”يسارية” داخل حركة الطبقة العاملة والحركة الثورية أكثر خطورة، كنتيجة حتمية لزيادة حدّة الصراع الطبقي على الصعيد الايديولوجي.
خامسا: خلال الدكتاتورية العسكرية الاولى والثانية، تصدعت متاريس السيادة الوطنية، وتوافدت الاحتكارات الاجنبية بأشكالها القديمة وفي شكلها الحديث: المتعدد الجنسيات - وتحكمت مؤسساتها الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في ادارة الاقتصاد السوداني والقرار السياسي الاقتصادي، وأصبحت روشتة (وصفة – ث.ج) صندوق النقد الدولي الدواء، الذي فقد فعاليته، للأمراض المزمنة: عجز ميزان المدفوعات، وعجز الميزانية السنوية، والاستدانة من النظام المصرفي، وتقلص القطاعات الانتاجية كالزراعة والصناعة، وانهيار الخدمات كالصحة والتعليم. واكتمل دور جهاز الدولة كآلة لتفقيس الرأسمالية، واحتلت مواقع المقدمة وأصبحت ضابط الايقاع مجموعتان اجتماعيتان: فئة الرأسمالية الطفيلية، وفئة التكنوقراط. وأضافت الدكتاتورية العسكرية الثانية فئة طفيلية ذات طابع خاص، هي الطفيلية الإسلامية، التي ازدهرت عندما اعلن نميري ان حكمه قد نبذ الصيغة الوافدة من اوربا وانتقل الى صيغة الحكم الاسلامي وتطبيق الشريعة الاسلامية. فنشأت بنوك اسلامية برؤوس اموال سعودية وخليجية، تدعي رفض التعامل بسعر الفائدة الذي يحرمه الاسلام (وهذه واحدة من الخطوات الاصلاحية الكبيرة الى جانب خطوات عديدة اخرى فرضها الاسلام من القرن السابع لمصلحة الفقراء والمعدمين وصغار التجار وصغار المنتجين ضد الرأسمال الربوي) ولهذا حصرت هذه البنوك نشاطها المصرفي في تمويل العمليات التجارية قصيرة المدى، كما حصرت تقديم تسهيلاتها الائتمانية في اطار سياسي محدد بالافراد الذين ينتمون لحزب الاخوان المسلمين أو المتعاطفين معهم. هذا اضافة الى الدور العام الذي لعبه رأس مال دول البترول في السعودية والخليج في توسيع صفوف الرأسمالية السودانية عموما والفئات الطفيلية منها بصفة خاصة.
نختتم الهوامش الخمسة بما يزيل أي التباس نظري، فنقول ان تعبير فئة رأسمالية طفيلية قد اكتسب حق التداول في اللغة السياسية، ونحن نستخدمه دون ان تغيب عنا مقولات ومفاهيم الماركسية عن الطبقة الرأسمالية ككل وانها تاريخيا نشأت وراكمت رؤوس اموالها من فائض قيمة العمال في الانتاج المباشر، وتقتسمه مع بقية الفئات ريعا او ربحا او فائدة ... الخ من الفائض المسروق من عمليات التبادل اللامتكافئ خارج العملية الإنتاجية – وبهذه الصفة فهي طفيلية في مجموعها وبكل فئاتها، لكن تعبير رأسمالية طفيلية، نستخدمه في السودان، لتلك الفئة المحددة والمعروفة التكوين العضوي بالأفراد وبأسمائهم، التي لم يكن لافرادها نشاط رأسمالي سابق من أي نوع، بل استغلت ارتباطاتها بالزمرة العسكرية الحاكمة وحصلت على تسهيلات من المصارف، وعلى الرخص التجارية، وعلى التوكيلات للشركات الاجنبية، ومارست السرقة المباشرة للمال العام نقدا من الخزينة، او من ميزانيات وعمولات مؤسسات القطاع العام، فضلا عن حيازة الاراضي الزراعية والسكنية، وعمولات الصفقات مع الشركات الاجنبية... الخ. وفرضت نمط الانفاق البذخي والاستهلاكي، وخربت قطاع الانتاج، سواء بتهريب الفائض الاقتصادي الى الخارج، او توظيفه بعيدا عن قطاعات الانتاج والخدمات الضرورية. ومن جانب آخر، فاننا نفضل استخدام هذا التعبير في السودان، لأنه اقرب الى التعبير عن نموذج تطور الطبقة الرأسمالية السودانية من تعبير الكومبرادور الذي وفد إلينا من مؤلفات قادة الحزب الشيوعي الصيني وخصائص تطور الرأسمالية في الصين.
نواصل بحثنا عن الخروج من دوامة نظام برلماني – دكتاتورية عسكرية - اضراب سياسي وانتفاضة والعودة للمربع الاول، فنقول: اننا توصلنا مع الحركة السياسية السودانية، وقواها الحزبية والنقابية، التي تحملت عبء ومسؤولية الاضراب السياسي والانتفاضة والإطاحة بالدكتاتورية العسكرية الثانية في 26 /3 - 16 /4 /1985، الى توقيع ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، كتأكيد اجماعي على رفض الدكتاتورية العسكرية، سواء استهلت انقلابها بشعارات يمينية او يسارية أو شعارات الوسط. وقد تم ذلك التوقيع في الأول (نوفمبر) 1985، وهو اليوم الذي وقع فيه الانقلاب العسكري الاول عام 1958. وقد وقّع على ذلك الميثاق كل الاحزاب السياسية والنقابات – عدا حزب الإخوان المسلمين. كما وقع عليه من المجلس العسكري الانقلابي بإسم القوات المسلحة.
مازال ينتظر الحركة السياسية والنقابية، واجب ترجمة ذلك الميثاق، الى واقع مادي جماهيري قادر ليس فقط على التعبير عن رفض الدكتاتورية العسكرية، بل وسد الطريق امامها ومقاومتها منذ ساعاتها الاولى. فالتجربة البرلمانية الثالثة تدخل عامها الثاني مثقلة بالمشاكل، ومظاهر العجز ومواجهته وحل المشاكل التي دفعت الشعب الى ثورة على دكتاتورية نميري والاطاحة به، مثال ذلك غلاء الاسعار وتدهور مستوى المعيشة، ولجم التضخم، واعادة تأهيل وتعمير قطاع الانتاج الزراعي والصناعي، ومثال آخر رضوخ الحكومة لشروط صندوق النقد الدولي في تشرين الاول (اكتوبر) بتخفيض قيمة العمل السودانية، ورفع اسعار سلع ضرورية كالسكر والبنزين هذا العام، ومثال آخر حالة الضجر واللامبالاة وسط الجماهير التي تعبر عن تذمرها. ان أي تغيير لم يمس حياتها، وان الديمقراطية التي ناضلت وضحت لاستعادتها لم تسخر لتجديد واقعها وتخفيف اعبائها. ومثال اضافي: مازالت الحرب الاهلية دائرة في جنوب السودان وتلامس مناطق في غربه وجنوبه الشرقي وهي تستنفذ امكانات بشرية ومالية احوج ما يكون لها السودان لتعمير اقتصاده وضمان وحدته وسلامة اراضيه ! ومن جانب آخر، تتسع حركة الاضرابات والمظاهرات في المدينة والريف احتجاجا على هذا الواقع. فحركة الجماهير مازالت نشطة وقادرة على تجديد طاقاتها وقدراتها النضالية، ومازالت متمسكة بالأهداف والشعارات التي توحدت حولها خلال الاضراب السياسي والانتفاضة. وكل هذا يشكل رصيدا تستند إليه الحركة السياسية والنقابية لترجمة ميثاق الدفاع عن الديمقراطية الى سد منيع امام الانقلاب العسكري. ولا يغير من هذه الحقيقة، كون حزب الاخوان المسلمين، وقد فشلت مساعيه للمشاركة في الحكومة، رغم وزنه البرلماني الكبير، يستغل سخط الجماهير وينظم المواكب وحركة الاحتجاج لتقويض الديمقراطية، والدعوة تصريحا او تلميحا لعودة الحكم العسكري، بوصفه الاداة المناسبة لتطبيق نظام الحكم الإسلامي، كما فعل نميري.
وينشأ السؤال: كيف ندعو الجماهير للدفاع عن الديمقراطية، ونظام الحكم البرلماني، إذا كانت الحكومة البرلمانية عاجزة عن حل مشاكل الجماهير وتلبية تطلعاتها ممثلة في اهداف وشعارات الانتفاضة؟ وهذا السؤال، هو الصيغة المحددة والملموسة، للسؤال العام الذي طرحناه، كيف نكسر الحلقة الشريرة...؟
نعتقد ان الحزب الشيوعي السوداني، قد توصل الى الاجابة مع اطراف عديدة في الحركة السياسية والنقابية السودانية، بعد الدراسة الناقدة لتجربة النظام البرلماني البرجوازي في السودان، وتجارب البلدان الشبيهة بوضع السودان في المنطقة العربية والافريقية. والمدخل للإجابة، بلا تردد، هو اصلاح النظام الديمقراطي البرلماني البرجوازي، والانتقال به من صيغة ويستمنستر وشكلياتها، الى صيغة ملائمة لظروف وخصائص المجتمع السوداني من المستوى الحالي من تطوره. والخطوة الاولى: من ذلك المدخل كانت وتظل ميثاق الدفاع عن الديمقراطية. والخطوة الثانية: التي تم عليها الاتفاق هي التحضير لعقد مؤتمر دستوري يضم كافة القوى السياسية والنقابية والاجتماعية على اختلاف تكويناتها واحزابها وتجمعاتها، للبحث والاتفاق والإجماع على صيغة الحكم الملائمة للسودان مثل الدولة، تقسيم الثروة، حقوق القوميات، علاقة الدين بالدولة، وغير ذلك من قضايا ومعضلات مجتمع متعدد الاعراق والقوميات والديانات والمعتقدات والثقافات كالمجتمع السوداني، حيث ظلت في قاع الصراع الطبقي وتجلياته السياسية والايديولوجية، معضلات نزاع وأزمات وحروب اهلية، وصدامات قبلية، وحكومات عسكرية ومدنية غير مستقرة، قضايا استقطاب حاد كالمساواة بين القوميات، والتنمية غير المتوازية، وعلاقة الدين بالدولة ومن ثم نوعية الدستور: علماني أم ديني أم اسلامي... وأخيرا وليس آخرا: أي طريق للتطور يسلك السودان؟ الطريق الرأسمالي التقليدي الذي اوصلنا الى حيث نحن، أم طريق جديد، والصراع حول الطريق الجديد البديل نفسه... الخ. والخطوة الثالثة: تنفيذ توصيات المؤتمر الاقتصادي الدولي الذي انعقد في مارس (آذار) 1986 خلال الفترة الانتقالية، واسهم في التحضير له كل الاقتصاديين والمهنيين السودانيين من مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني بمؤتمرات قطاعية شخصت الازمة المالية الاقتصادية، والتخريب الذي احدثته دكتاتورية نميري في القطاع المعين، حددت خطوات الاصلاح المحددة. ثم توج هذا الجهد بعقد المؤتمر الاقتصادي القومي الذي شاركت فيه الاحزاب السياسية والنقابات، وعكفت لجانه المتخصصة على صياغة التوصيات العامة الختامية لإصلاح الوضع المالي الاقتصادي أو ما اتفق على تسميته: برنامج انقاذ الاقتصاد الوطني وهو برنامج لا يخرج عن الصيغة الاصلاحية لما يمكن ان تحققه سياسة وطنية في الاقتصاد والقرار الاقتصادي من اطار البنية الاقتصادية الرأسمالية للتطور الرأسمالي المشوه لبلد نام، ومحاولة تحقيق قدر من التكافؤ في التعامل مع السوق الرأسمالي العالمي، وتوفير قدر من الفائض الاقتصادي للاستثمار بإعادة تأهيل وتعمير قطاع الزراعة والصناعة كأسبقية أولى، والبحث عن وسيلة لتخفيف عبء سداد الديون وفوائدها، وضرب مواقع النشاط الطفيلي واسترداد الاموال التي نهبها الطفيليون، وتحقيق حد ادنى من استقرار الاسعار ولجم التضخم.
وهناك من الشعارات والأهداف السياسية التي تطرحها الحركة الديمقراطية لإصلاح النظام البرلماني البرجوازي، مثل الدستور العلماني في مواجهة الدستور الاسلامي، والجمهورية البرلمانية في مواجهة الجمهورية الرئاسية، وتعديل قانون الانتخابات، وتوزيع الدوائر الانتخابية، لمصلحة منطق الوعي في المدن والريف الحديث، حيث المشاريع الزراعية على نمط رأسمالية الدولة، بدلا من القانون التقليدي الذي يعطي الوزن الاكبر لمناطق الريف، والمطالبة بتخصيص دوائر للعاملين – عمال، مهنيين، معلمين، مهنيين زراعيين، نساء، اعترافا بدورهن في الاضراب السياسي والانتفاضة واستعادة الديمقراطية والدفاع عنها، والمطالبة بحكم لا مركزي زهيد التكلفة كامل الصلاحيات في قاعدته المحلية، ورفض اعادة نظام الادارة الاهلية لقادة القبائل بسلطات قضائية وادارية، بل اخضاع سلطاتهم في المناطق النائية والمتخلفة لسلطات مجالس الحكم المحلية، وان لا يمارسوا أية سلطة قضائية... واخيرا الغاء كافة القوانين والتشريعات المقيدة للحريات التي سنّها النميري مثل قوانين الشريعة الإسلامية، التي سنّها كمحاولة اخيرة لانقاذ حكمه تحت ستار استغلال الدين الاسلامي، وقانون العقوبات...
اصلاح النظام البرلماني البرجوازي، لن يخرج السودان من اطار التنمية الرأسمالية بكل ما هو معلوم للشيوعيين عن طبيعة طريق الرأسمالية للتنمية في بلد متخلف، وما يترتب عليه من عجز واستحالة حل مشاكل الشعب المزمنة، وقيود التبعية للرأسمالية العالمية. لكنه كنظام للحكم والادارة السياسية، افضل لشعب السودان وحركته السياسية الجماهيرية وإمكانات اتساعها ونموها من أي دكتاتورية عسكرية يمينية كانت أو يسارية حسب ما اكدته تجربة الحياة السياسية منذ الاستقلال.
صحيح ان المخرج من الدائرة الشريرة، هو انتصار الثورة الوطنية الديمقراطية، وقيام سلطة وطنية ديمقراطية. ولكن لا يمكن ان نتخذ موقف اللامبالاة والعدمية تجاه أي نظام للحكم هو افضل لشعب السودان، او اخف ضررا وشرا لشعب السودان حتى انتصار تلك الثورة وقيام تلك السلطة. فتوفر الحد الادنى من الحقوق الاساسية والحريات الديمقراطية والنقابية، عامل حاسم لتطور الحركة الجماهيرية في ظل حكم برلماني برجوازي، ولو كان يمينيا، لأحزاب الرأسمالية شبه الاقطاع. وقد اكدت تجربة شعب السودان السياسية، ان الوصاية التي تفرضها انظمة الحكم العسكرية على النمط الناصري على حركة الجماهير ومصادرة استقلال تنظيماتها النقابية والسياسية، ومصادرة نشاط الاحزاب وتعددها تحت ستار فرض التنظيم السياسي الواحد، كالاتحاد الاشتراكي – تفرض وصايتها – هي ليست بديلا كما اكدت تجربة شعب السودان ان تلك الوصاية للحريات الديمقراطية والحقوق الاساسية التي تنتزعها الجماهير بأغلى التضحيات وتتمتع بها في ظل نظام برلماني برجوازي يميني. وبعبارة اكثر تعميما نقول، ومن واقع تجربة شعبنا، اننا لن نقبل في السودان أي صيغة لسلطة عسكرية تدعي التقدمية أو الديمقراطية الثورية أو اليسار تصادر الحقوق الاساسية والحريات الديمقراطية، أو التعددية الحزبية، او تفرض وصايتها على حرية نشاط واستقلال الاحزاب، وحرية ونشاط واستقلال النقابات والمنظمات الجماهيرية، تحت مظلة التنظيم السياسي الواحد كالاتحاد الاشتراكي على نمط التجربة الناصرية في مصر، أو صيغة الجبهة كواجهة لتحكم الحزب القائد أو الحزب الغالب. فالأصل في التجربتين الناصرية والبعثية الانقلاب العسكري – أو ما يسمونه هم دور الطلائع الثورية في القوات المسلحة. في حين ان الاصل في تطور الثورة السودانية هو الاضراب السياسي والانتفاضة – أي طابعها الجماهيري المباشر، وليس دور طلائع عسكرية او مدنية نيابة عن الجماهير. وهذا يضع دور المجموعات الوطنية أو الثورية داخل القوات المسلحة في ظروف السودان وخصائص ثورته، في حجمه كدور مساعد ومكمل، وليس دورا طليعيا مستقلا بمفرده. ليس هذا استنتاجا نظريا مجردا وبعيدا عن الواقع، انه خلاصة التجارب الحية والمريرة والعالية التكلفة لتطور الحركة الشعبية السودانية منذ الاستقلال، وعبر عشرات تجارب الانقلابات العسكرية.
ما تقدم يفرض على الحزب الشيوعي السوداني، خوض صراع ايديولوجي متواصل حول بعض جوانب مفهوم الديمقراطية – ليس في صيغتها النظرية العامة، باعتبار الديمقراطية في نهاية الامر طبقية، كما ان الدكتاتورية طبقية سواء كانت دكتاتورية عسكرية ام مدنية، لكن في صيغتها الملموسة، وفي ظروف السودان الملموسة. الجانب الاول للصراع، المفهوم الماركسي العام عن ان الديمقراطية الليبرالية البرجوازية محدودة تاريخيا واجتماعيا وأنها الشكل السياسي، أو الاطار السياسي، لحكم الرأسمالية شبه الاقطاع في السودان، وانها استنفذت اغراضها ويجب استبدالها بديمقراطية جديدة، او ديمقراطية تحالف قوى الشعب العامل الذي يمثله التنظيم السياسي الواحد كالاتحاد الاشتراكي. هذا الجانب الاول للصراع ينطلق من تشويه البرجوازية الصغيرة للمفهوم الماركسي العام، لكنه يصل لنتيجة خاطئة، تعبر عن ضيق البرجوازية الصغيرة بمصاعب وآفاق الصراع الطبقي، والنضال السياسي الفكري التنظيمي لتوحيد واصطفاف الجماهير، وعجز البرجوازية الصغيرة عن تفهم قضايا توازن القوى، وتقديراتها الذاتية للقفز فوق الواقع الموضوعي بالانقلاب العسكري، الذي يتمخض في نهاية الامر عن انفراد شريحة او فئة من البرجوازية الصغيرة بالسلطة ومصادرة الديمقراطية كحقوق اساسية وحريات وضمانات حكم القانون والشرعية. هذا نتاج طبيعي لفهم البرجوازية الصغيرة الوحيد الجانب للديمقراطية الليبرالية، وكونها حصيلة نضال جماهير العمال والفلاحين والكادحين والمستنيرين من البرجوازية والبرجوازي الصغير عبر التاريخ منذ اندلاع الثورات البرجوازية الديمقراطية في غرب اوربا. وان افراغ الطبقة الرأسمالية للديمقراطية من محتواها الاجتماعي بعد وصولها الى السلطة، لا ينفي حقيقة ان تلك الديمقراطية حصيلة ثورة سياسية اجتماعية، وان واجب الثورة الوطنية الديمقراطية بل والثورة الاشتراكية مستقبلا استكمال تلك الديمقراطية ورد اعتبارها باستعادة محتواها الاجتماعي.
الجانب الثاني للصراع تستخدمه قوى الرأسمالية شبه الاقطاع، عندما تتسع حركة الجماهير مستظلة بالحقوق الاساسية والحريات الديمقراطية، زاعمة انها نظام حكم يناسب ويلائم البلدان الرأسمالية الغربية، وان ظروف السودان تتطلب نوعا آخر من “ الديمقراطية” مثل تحكيم التعاليم الاسلامية، وابتعاد النقابات عن النشاط السياسي وحصر رسالتها في الحيز المطلبي مع التزامها بالواجب الوطني في التنمية والاستقرار الاقتصادي ... وغير ذلك من الشعارات والحجج التي تبرر مصادرة الحقوق والحريات.
جدير بالاعتبار النظري والسياسي، ان شعب السودان، لم يتعامل مع الديمقراطية تعاملا رومانسيا أو مجردا أو مثاليا. فمن واقع تجاربه الذاتية رفع شعارات ومطالب محددة من انتفاضة تشرين الأول (اكتوبر) 1964 وانتفاضة آذار – نيسان (مارس – ابريل) 1985، لمصادرة نشاط وأموال الفئات والافراد الذين تسلموا السلطة في الانقلاب العسكري، والذين انتفعوا بتلك السلطة، وطالب بعزلهم ومحاكمتهم. وما زال يطالب باستعادة نميري من مصر وتقديمه للمحاكمة بعد ان حوكم بقية الضباط الذين قادوا معه الانقلاب في أيار (مايو) 1969. واستنادا الى التجربة الذاتية لشعبنا، يواصل الحزب الشيوعي الصراع الايديولوجي ضد مفاهيم البرجوازية الصغيرة التي تحاول التقليل من اهمية الحريات الديمقراطية والحقوق الاساسية لتطور حركة الشعب والثورة الاجتماعية، وضد مفاهيم الرأسمالية شبه الاقطاعية التي تتاجر بالمشاعر الدينية لمصادرة تلك الحريات والحقوق. وفي خضم هذا الصراع تتوحد قوى اجتماعية وسياسية واسعة لسد الطريق أمام الانقلاب العسكري والدكتاتورية المدنية، وللدفاع عن الديمقراطية السياسية والإصرار على تطويرها لتستعيد محتواها الاجتماعي الاقتصادي.       
************
محمد ابراهيم نقد: السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني
نشرت المادة في العدد 195 ، آذار 1988، ص 79 - 88.