أيار 04

 

   انتهى الوقت الذي كان يوصف بأنه مرحلة الانتقال الى الاشتراكية، ومرحلة الحرب الباردة والصراع ذي القطبية الثنائية. وفيه لم يكن فهم أي حدث وتفسيره ممكناً إلا من هذه الزاوية. أما اليوم، بعد عقد على انهيار المعسكر الاشتراكي، وهيمنة القطب الأوحد ونظامه العالمي الجديد، الذي أعلن الرئيس بوش قيامه مع عاصفة الصحراء لتحرير الكويت - مع هدف تدمير العراق - فقد اضحت كل الامور تجري تحت شعار العولمة، وأضحت الديمقراطية وحقوق الانسان رايتها. ويراد الإيهام بأن الديمقراطية وحقوق الانسان صنوان ملازمان للرأسمالية بالجوهر، وبأن "الشمولية" ملازمة للاشتراكية. فيقال ان الديمقراطية هي المفتاح السحري لكل القضايا والمشاكل. فننسى النظر الى الديمقراطية كسيرورة تاريخية، فديمقراطية اثينا غير ديمقراطية اليوم، وهذه الاخيرة ليست هي خاتمة المطاف ولا نهاية التاريخ. وبدون النظرة التاريخية تغيب عنا حقيقة ان حتى الديمقراطية الغربية هي اليوم ليست كما كانت قبل التجربة الاشتراكية الاولى، ولا كما كانت عليه في الخمسينات والستينات، أيام التمييز العنصري ضد الزنوج في امريكا، وأيام المكارثية ومعاداة الشيوعية في ذروة الحرب الباردة. وهل ننسى السياسة الاستعمارية للديمقراطيات الغربية؟ فبدون هذه النظرة التاريخية نطمس الدور الفعال لنضالات الحركة الجماهيرية، ودور الحركات الماركسية، من اشتراكية ديمقراطية وشيوعية في فرض تطبيق الكثير من الحريات والحقوق الديمقراطية، التي تتباهى بها الدول الغربية اليوم، رغم انها بدأت في التراجع عن الحقوق الاجتماعية الديمقراطية بعد زوال الضغط الذي كان حاصلاً لمجرد وجود المعسكر الاشتراكي. فالبابا بولص الثاني كان له دور كبير جداً في تهيئة الاجواء للقوى المناهضة للمعسكر الاشتراكي. لكنه يعلن اليوم ان التغييرات التي طرأت على الرأسمالية ذاتها انما "يرجع الفضل فيها والى حد كبير الى تأثيرات التفكير الاشتراكي". وتبدو الحريات الديمقراطية المتوفرة اليوم في بلدان الديمقراطية وكأنها جزء عضوي من النظام الرأسمالي، بينما لم تكن حتى بضعة عقود خلت معترفاً بها في تلك البلدان، مثل حق الانتخاب المباشر المتساوي السري، حق التجمع في نقابات او احزاب علنية، حق الاجتماع السلمي والتظاهر، حق الاضراب. فلم ينل الناس هذه الحقوق إلا بفضل نضالات الحركة العمالية. وهكذا صار الاحتفال بالأول من ايار وبيوم المرأة العالمي مثلاً احتفالاً رسمياً أو شبه رسمي، بينما كان لعهد ليس بالبعيد من الاحتفالات الممنوعة في الكثير من البلدان، لأن الاحتفال بهما بدأته الحركة الماركسية الثورية، وبقي لفترة طويلة شكلاً نضالياً تلاحقه قوى القمع في كل البلدان قبل أن يتحول الى ما يشبه الطقوس للحركة الشيوعية وبلدان المعسكر الاشتراكي، ويتحول في البلدان الرأسمالية من يوم نضال الطبقة العاملة لفرض حقوقها الى يوم عيد العمل.

    وفي بداية تطبيقات الديمقراطية مع الثورة الفرنسية كانت المطالبة بالمساواة تقتصر على المساواة في الحقوق والحريات السياسية، لكن مع نمو الحركات الاشتراكية اتسعت المطالبة لتشمل المساواة الاجتماعية أيضاَ. وانعكس هذا التوسع للمطالب الديمقراطية في تسمية الحركة الاشتراكية باحزابها باسم الحزب الديمقراطي الاجتماعي، يوم لم تعد تستطيع استخدام الشيوعي أو الاشتراكي، والذي ترجم الى الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وهذه الترجمة التاريخية ينبغي الاحتفاظ بها، بدل محاولات ترجمتها مجدداً الى الحزب الديمقراطي الاجتماعي. والى هذه الحقيقة اشار رئيس جمهورية المانيا الغربية عند انهيار المعسكر الاشتراكي بقوله: "ان الكثير من المكتسبات الديمقراطية والاجتماعية في المجتمعات الغربية تحققت بفضل نضالات الحركة العمالية الثورية". فهي التي رفعت شعار المساواة والحرية والديمقراطية وهي التي ناضلت في سبيل توسيع حق الانتخابات الديمقراطية ليشمل جميع المواطنين، وطالبت بحقوق المرأة وحق الشعوب والقوميات المستعمَرة في الاستقلال وتقرير المصير، كما طالبت بتحقيق الفرص المتساوية للجميع في التعليم والصحة. لقد طالبت بالديمقراطية وبتطوير ما تحقق من ديمقراطية في البلدان الغربية.

    كان لينين يدعو لأن تكون الديمقراطية السوفيتية أكثر ديمقراطية من الديمقراطية البورجوازية. وحذر من نشوء وتسرطن البيروقراطية السوفيتية. كان يعتقد "ان من مستلزمات الشيوعية اقامة سلطة السوفييت باعتبارها جهازاً سياسياً يتيح لجماهير المضطهدين فرصة اتخاذ جميع القرارات بأنفسهم. وبدون مثل هذه الديمقراطية لا يمكن تصور الشيوعية. فليس مصادفة ان الحركة الشيوعية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقبل بدء الحرب الباردة صار شعارها: (في سبيل ديمقراطية شعبية في سبيل سلم وطيد)"، وكانت التنظيمات التي تأسست بمبادرة او مباركة الحركة الشيوعية أو تبنتها كانت توصف بالاتحادات الديمقراطية: اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي، اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، اتحاد العلماء الديمقراطيين العالمي، وليس ببعيد الزمن الذي كانت فيه القوى الرجعية، وبينها العربية والاستعمارية، ترى في الديمقراطية والشيوعية شيئاً واحداً. فكانت تحارب الحركات الديمقراطية وتتهم الديمقراطيين بالشيوعية لكن تطبيقات المعسكر الاشتراكي بتغييب الرأي العام الديمقراطي باسم دكتاتورية البروليتاريا والمركزية الديمقراطية كشف عن مفارقة صارخة.  فالحركة العمالية الثورية التي كان هدفها ان يحل "بدل المجتمع البرجوازي القديم بطبقاته وتناقضاته الطبقية تجمع يكون فيه التطور الحر لكل فرد فيه الشرط للتطور الحر للجميع"، انتهت الى مجتمع يتحكم فيه جهاز الأمن وتقوده مجموعة صغيرة من العجزة، تسمرت حتى الموت في المكاتب السياسية. ومع اشتداد الحرب الباردة من قبل الغرب، ومعها اشتداد الميول الستالينية لفرض النظام السوفيتي شكلاً وحيداً للبناء الاشتراكي، اختفى شعار الديمقراطية الشعبية، بل الديمقراطية، ليحل محله صنم "دكتاتورية البروليتاريا". فتخلى الشيوعيون الألمان مثلاً عن برنامجهم الذي رفعوه بعد انتهاء الحرب مباشرة، واعلنوا فيه خطأ فرض النظام السوفيتي على المانيا لأنه لا يتفق مع ظروف تطور المانيا، وان ما تحتاجه المانيا هو:  اقامة نظام ديمقراطي، معادي للفاشية، اقامة جمهورية برلمانية – ديمقراطية تضمن فيها جميع الحريات والحقوق الديمقراطية. وقد تكمن بوادر هذا التراجع لدى لينين نفسه، بعد عامين ونصف من ثورة اكتوبر عندما اعلن، تحت تأثير وقائع الحكم او تأثير الفئة البيروقراطية السوفيتية، ان دكتاتورية البروليتاريا لا تحققها الجماهير وانما أقلية، نخبة من الثوريين، اطلق عليها الطليعة لتكون مقبولة، إذ ان تعبير النخبة يتناقض من حيث الجوهر مع ديمقراطية الفكر الاشتراكي، القائل بالجماهير لا النخبة هي القوة المغيرة في التاريخ.

    لقد عاد الى الصدارة شعار النضال في سبيل حقوق الانسان والديمقراطية، الذي ناضلت الحركات الديمقراطية الثورية أساساً من أجله فيما مضى، تحت شعار النضال في سبيل الحريات والحقوق الديمقراطية، قبل أن يتبلور مصاغاً في الاعلان العالمي لحقوق الانسان، بل ان لازمة نشيد الاممية في النص الالماني تؤكد على ان "غد الاممية ينتزع حقوق الانسان"، ونصه العربي يقول "غد الاممية يحرر البشر". كم من المفيد العودة الى التعرف على ما في تراث الحركة الثورية من نضال في سبيل الديمقراطية وحقوق الانسان كي لا نكتفي برفض الاساليب اللا ديمقراطية التي اتسمت بها دول الاشتراكية البيروقراطية وننسى سوءات الرأسمالية، فننجرف في السيل الغالب اليوم، الذي يريد طمس كل ما في تاريخ الحركات الديمقراطية من ايجابيات، ساعياً بتضخيمه السلبيات فقط الى ان يهيل التراب على كل التجربة التاريخية ويجعلنا نتصرف كأن الرأسمالية المنفلتة هي حقاً نهاية التاريخ، وكأن شرط الديمقراطية وصنوها الملازم على الدوام هو حقاً اقتصاد السوق الرأسمالية، وان لا خطر من ظهور فاشية جديدة فيها.

    لم يعد اليساريون "المتحجرون، المتكلسون، العقائديون" وحدهم يرون سوءات النظام الرأسمالي ومخاطره على الديمقراطية نفسها، فتقرير منظمة الأمم المتحدة عن التقدم البشري يكشف ان ثروة ثلاثة أفراد فقط تعادل ستمائة مليون فرد، أي ان تغييرات العولمة تضيف مزيداً من السلطة لافراد، وليس "للافراد عموماً" كما يستخلص فوكوياما. فتلك التغييرات تؤثر على الديمقراطية بعمق سلباً وليس ايجابياً فقط.

    يضطر حتى فوكوياما ليتساءل عن مستقبل الديمقراطية اللبرالية وعما ان كانت ستبقى مستقرة، وتستطيع التوسع الى الدول التي ما تزال استبدادية، أم انها ستتعرض الى ما تعرض له في الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما صعدت الفاشية الى الحكم في اوربا. وكثيرون يرون ان انتقال مراكز اتخاذ القرارات من الحكومات المنتخبة ديمقراطياً، والبرلمان الى المراكز الاقتصادية التي تتحكم فيها الطغمة المالية يشكل خطراً فعلياً على الديمقراطية؛ اذ تتحول السلطات الديمقراطية المنتخبة الى هيئات منفذة لما تتخذه مراكز الاقتصاد من قرارات. ومشاركة المواطنين في الحياة العامة الآخذة بالتضاؤل تنعكس في انخفاض نسبة المصوتين في الانتخابات. الأمر الذي يتنافى مع جوهر الديمقراطية: نقل السلطة من حكم أقلية الى حكم الشعب، وحماية حقوق وواجبات المواطنين على السواء. لقد انهار المعسكر الاشتراكي لغياب الديمقراطية السياسية، بالرغم من عدم وجود تناقض بنيوي، بل وحدة عضوية في جوهر النظام. ومن جهة اخرى فإن الديمقراطية السياسية لا يمكن ان تبقى راسخة مع سلب المكتسبات الاجتماعية، مع التنصل من تطبيق الديمقراطية الاجتماعية، والتراجع عما أثبتته مواثيق حقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية. ان العولمة وسياسة اللبرالية الجديدة تنطويان على تناقض بنيوي لا يمكن حله في اطار الرأسمالية. فمثلما أثبتت التجربة ان لا اشتراكية بدون ديمقراطية، وكذلك لا ديمقراطية سياسية راسخة مع بقاء التفاوت الاجتماعي، الآخذ بالاتساع في ظل العولمة، ليس فقط بين الدول الغربية والعالمين الثاني والثالث، بل داخل الدول الصناعية الكبرى نفسها.

 

الشعب مهيأ للديمقراطية؟

    الديمقراطية مصطلح معرّب من اللاتينية، مثل كثير من المصطلحات الاجنبية الاخرى، وهو يعني حكم الشعب، ويتميز عن اشكال اخرى من الحكم، في العلاقات بين الحاكم والمحكوم مرت بها البشرية، كأنواع من حكم الاستبداد تجاه الشعب، السلطة فيها لنخبة من"الاشراف والمالكين. الديمقراطية تتطلب اشراك الشعب دون تمييز في ادارة شؤونه. ولقد وجد هذا الفهم للديمقراطية سبيله في العراق منذ ثورة العشرين، وبداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، التي شكلت بعد الحرب العالمية الاولى وفق حدود تم الاتفاق عليها بين الدولتين الاستعماريتين، بريطانيا وفرنسا، فوضع العراق تحت الانتداب البريطاني، وبعد عام من ثورة العشرين ووصول فيصل الأول تنفيذاً لخطة بريطانية، اصدر "مجلس الوزراء، بناء على اقتراح رئيس الوزراء، قراراً جماعياً ينادي بفيصل ملكاً على العراق بشرط ان تكون حكومته دستورية، نيابية، ديمقراطية، مقيدة بقانون". في بيان معاون متصرف (محافظ البصرة) الى وزارة الداخلية حول طريقة الاستفتاء التي اتبعت في البصرة كتب: "بما ان الانتخاب يجري من أجل حكومة ديمقراطية فقد وجدنا من المرغوب فيه أخذ الاصوات من جميع السكان وليس من الاشراف المنفذين. ولهذا "تم تبليغ يوم الانتخاب الى أهالي كل منطقة انتخابية ودعي جميع الرجال الذين يبلغون عشرين سنة من العمر فما فوق للحضور في مكاتبهم الانتخابية للتصويت" (نشأة الدولة - العطية ص 501 - 502).

    وينطلق البعض من كون المصطلح اجنبياً للبرهان على ان مفهومه غريب ومستورد ينبغي رفضه. لكن فكرة الحرية والعدل - المساواة في التاريخ العربي الاسلامي انما كانت في لب الخلافات التي نشأت حول مفهوم الامامة والخلافة. وكانت المصالح الدنيوية، المادية، وراء الكثير من تلك الخلافات بين المسلمين. يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز: "ان هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في نبيها ولا في كتابها وانما اختلفت في الدينار والدرهم". والشورى هو التعبير عن سيادة الشعب، اذ ان العبرة بالروح لا بالحرفية ولا الشكلية. فالمبايعة، القائمة على الانتخاب، شرط واجب في الخلافة، ورأي أغلبية الفقهاء ان الخلافة لا تكون شرعية اذا استندت الى القهر والغلبة.

    ان رفض الجديد بحجة انه مستورد، هو عود لذلك المنطق الذي تبناه أصحاب الجاهلية في رفضهم الاسلام بحجة تمسكهم بما وجدوا عليه آباءهم. وليس صحيحاً ان الديمقراطية لا جذور لها في منطقتنا تماماً، فقبل الاسلام كان على سبيل المثال نظام الحكم في اليمن يتألف من ملك مقيد بسلطة تمارسها مجالس وهيئات نيابية تتألف من ممثلي القبائل، ولا توجد معلومات عن الطريقة التي كان يتم بها اختيار المندوبين في ذلك النظام البرلماني (العلوي – في السياسة الاسلامية، ص 36). وكانت دار الندوة في مكة، وفي بلاد سومر، كما يذكر صومائيل كريمر في كتابه الموسوم "كل شيء بدأ في سومر" ان أول برلمان يتكون من مجلسين وجد في بلاد سومر، كواحدة من سبعة وعشرين شيئاً يوجد أول مرة في التاريخ، كأول مدرسة، وأول حادث رشوة، وأول ملحمة (ملحمة جلجامش).

   ان عدم وجود تقاليد ديمقراطية يجعل الأخذ بها صعباً، وتكون معرضة للانتكاس بسهولة لكن ذلك ذريعة للقول ان الشعب غير مهيأ للديمقراطية، فأي شعب لم يمر بمرحلة كانت الديمقراطية معدومة فيها؟ في قلب أوربا دخلت ألمانيا عهد نظام فاشي بعد فترة قصيرة من حكم جمهوري أعقب سقوط القيصرية بالثورة بعد الحرب الأولى، لكن بالنضالات والممارسات ترسخت الديمقراطية. لنتذكر على سبيل المثال ان سكان "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، اسرائيل، كانت غالبيتهم عند تأسيس الدولة ينحدرون من بلدان اوربا الشرقية حيث لم تكن توجد تقاليد ديمقراطية. ولكن رغم انعدام التقاليد الديمقراطية ورغم ظروف الحرب الدائمة ترسخت الديمقراطية البرلمانية في اسرائيل رغم كل ما فيها من علّات، بينما صفي في البلدان العربية ما كان قد نشأ فيها من بذرات الديمقراطية، بحجة حماية مؤخرات الجيوش العربية التي ارسلت الى حرب "انقاذ فلسطين" تحت قيادة كلوب باشا، وما تبع ذلك من عسكرة المجتمعات العربية بحجة العمل من أجل تحرير فلسطين، أو بحجة "الشرعية الثورية" لحماية الأنظمة "الثورية التقدمية"، أو حفاظاً على تقاليدنا العربية الاسلامية السمحة.

   غير ان الاعلان عن قبول الديمقراطية شيء وتطبيقها شيء آخر. فمثل ما يحدث في الثورات والحركات الشعبية، ينشغل الثوار عن تحقيق الهدف بتوزيع غنائم الحكم الجديد، فيجري توزيع المناصب والادارات وحتى انشاء ادارات ومناصب جديدة ويكتفون بترديد شعارات الثورة بين الحين والآخر. وهكذا بقيت المملكة العراقية حتى بعد انتهاء الانتداب تابعة للاستعمار البريطاني، ولم يبق من الدستور والمجلس البرلماني والقانون سوى أشباح، فأكثر من نصف العهد الملكي سادته الاحكام العرفية، وعندما استطاعت الحركة الوطنية فرض فوز بضعة نواب للبرلمان عام 1954 قام نوري السعيد بحل البرلمان بعد أول اجتماع له، وصار يحكم بالمراسيم مجدداً وتزوير الانتخابات، حتى ثورة تموز 1958 التي أطاحت عن طريق انقلاب عسكري بذلك النظام.

    هذا الصراع بين القوى الحاكمة الناشئة وبين الجماهير الشعبية من أجل توسيع الديمقراطية ورقابتها على النخب الحاكمة صراع موضوعي، وسيرورة طويلة من أجل ترسيخ التقاليد الديمقراطية وكبح فساد الساسة، الذي قد يصيب بعضاً من ثوريي الأمس، فيتحولون الى لصوص الثورات، وتنتكس الثورة بانتقال السلطة من لصقراطية الى لصقراطية جديدة. ويكون ذلك تأكيداً لما قاله المعري بلزوميته عن ضرورة الحذر من القادة والحركات:

        انما هذه المذاهب أسبا              ب لجلب الدنيا الى الرؤساء

       غرض القوم متعة، لا يروقو          ن لدمع الشماء والخنساء

 

العلاقة بين ظروف ووسيلة الوصول للحكم وطبيعة النظام اللاحق

    يبدو أن ثمة علاقة عضوية بين ظروف ووسيلة الوصول الى السلطة وأساليب وطبيعة الحكم الذي يقاوم لاحقاً. العهد الملكي جاء به الانكليز كنظام يخفف العداء الشعبي لحكمهم فأقاموا أولاً نظام الانتداب بدل اعلان العراق مستعمرة، وكان هذا بعد الثورة البلشفية التي فضحت اتفاقية سايكس بيكو ودعت مسلمي الشرق للتحرر والاستقلال، ووجدت صدى لدى المناضلين من أجل الاستقلال.

   في رسالة من السكرتير العام لفرع جمعية العهد في الموصل الى المركز في دمشق، أواخر 1930 ينتشر رأي هنا "انه لا خلاص للعرب خاصة، وللاسلام عامة إلا باتفاق العرب والاتراك مع البلاشفة" (الرسالة نشرت في جريدة صدى الاحرار الموصلية عدد3 /4 /1953، نقلاً عن نشأة الدولة، ص 403). لقد أقاموا النظام الملكي عبر استفتاءات شكلية ولعبة برلمانية، فكان النظام يتسم بالتزييف وبشكلية برلمانية هي حقاً أفضل مما لحقها من أنظمة استبدادية فاشية، لكنها لم تكن ديمقراطية، أي حكومة الشعب للشعب. ولم تتح الفرصة لتطوير سلمي، فكانت تلجأ للأحكام العرفية. لذلك تخلت الحركة الديمقراطية عن أساليب النضال الجماهيري والسلمي وارتضت اللجوء الى العنف فأطيح بالنظام بانقلاب عسكري أخذ شكل الثورة الشعبية بفعل التعبئة الجماهيرية قبل الثورة. ولكن رغم كل اخلاص ووطنية عبد الكريم قاسم، ونظراً للاحتراب السريع بين حلفاء الأمس، خاصة بين القوميين واليساريين، وعدم النجاح في التغلب على المكائد الاستعمارية والرجعية، المحلية والاقليمية، أهمل النضال من أجل اقامة نظام ديمقراطي فجرى التركيز على شعار صيانة الجمهورية. وفي غياب الديمقراطية أطاح انقلاب 8 شباط 1963 بثورة تموز، فأحكم العسكر هيمنتهم وتتابعت انقلابات عسكرية حتى وصل الأمر الى المهيب الركن السيد القائد الضرورة.

    وفي بقية العالم الثالث تم نيل الاستقلال، في الأغلب، بانقلابات عسكرية أو حرب التحرير. وبدل تحقيق الديمقراطية وحكم الشعب قضي حتى على الاشكال المزيفة للديمقراطية وعلى التواءات المجتمع المدني، وعُسكر المجتمع واندلعت حرب أهلية بين الفصائل المسلحة التي ساهمت في نيل التحرر، كما في اليمن، افغانستان وكردستان. هذه هي الصورة العامة، الغالبة، ولم يشذ عن هذا المنهج إلا سوار ذهب واحد في السودان. ولكنه لم يستطع أن يرسّخ نظاماً ديمقراطياً.

   الهند كانت الدولة الوحيدة التي نالت استقلالها ليس عن طريق الكفاح المسلح، وانما عن طريق النضال الديمقراطي، وانتهاج سبيل غاندي في المقاومة السلبية. وبقيت رغم كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ورغم التنوع الديني والقومي والعرقي والطائفي الهائل بعيدة عن الانقلابات والحرب الاهلية.

   ان الكثير من الحركات الثورية المسلحة من أجل الاستقلال أو الديمقراطية أخذت في الثمانينات تحقق أهدافها ليس نتيجة الحسم العسكري بل بتعبئة الجماهير في النضال السياسي. وتحققت الحقوق المدنية للزنوج في امريكا عبر النضالات السلمية.

نحو نظام ديمقراطي في العراق

   السبيل الذي سيوصل العراق للخلاص مسألة تحتاج الى بحث. فالانقلاب العسكري، بذهنية العسكر الذين تربوا طيلة الثلاثين سنة الأخيرة بروحية الجيش العقائدي والخنوع والخضوع للقائد الضرورة، لم يقد إلا الى دكتاتورية جديدة، والى دورة جديدة من العنف.

   ولأن صدام لا يعرف غير العنف سبيلاً، ولا يقر بالحقوق الديمقراطية والحوار، لا يرى الكثير من قوى المعارضة سبيلاً لتغيير نظامه سوى العمل الميداني، فلا يبحثون عن سبيل غيره، ويرفضون، بل يسفهون دون نقاش وتأمل كل دعوة تبحث عن طريق سلمي. ويعتبرون هذا السبيل مستحيلاً، ولا يريدون أن يروا حقيقة ان طريق العمل الميداني، الذي يدعون اليه لم يحقق هدفه، رغم انهم سلكوه طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، ورغم الشهداء الذين قدموا أرواحهم في سبيل تخليص الشعب من الطغيان، ورغم الاستعداد للبذل والفداء. فهو سبيل يكاد يكون مسدوداً بسبب تناسب القوى، وضعف وتشرذم المعارضة، وانشغال الناس بما يوفر للعائلة بعضاً من أسباب البقاء على قيد الحياة ليس إلا. ولا يأخذون درساً وعبرة حتى من واقع الاحتراب في كردستان الذي يكشف بجلاء عدم استطاعة أحد الحزبين الحاكمين الانتصار عسكرياً.

   ان الانتقال السلمي شكل نضالي ثوري يتطلب تنامي حركة جماهيرية واسعة تفرض التغييرات بإسناد الرأي العام العربي والاسلامي والعالمي، وليست نتيجة مفاوضات وتنازلات من قبل المعارضة لهذا النظام.

 

التنظيمات في الخارج والديمقراطية

  نتيجة الحكم الارهابي الفاشي طيلة ما يزيد على ثلاثين عاماً، وزج البلاد في حروب مستديمة داخلية وخارجية، ونتيجة ابادة الجنس التي يرتكبها الامريكان والانكليز عبر مواصلة فرض الحصار، سلاح الابادة الشاملة، على شعبنا تحت راية الأمم المتحدة، تزايد عدد العراقيين في المهاجر والمنافي ليصل حدود الاربعة ملايين، بعد مجازفات خطيرة تعرض لها الكثيرون قبل أن يصلوا المرافئ الآمنة. وقد تكونت في العديد من البلدان الأوروبية واستراليا والامريكيتين جاليات عراقية تتوفر لها امكانية تنظيم نفسها بجمعيات ونواد متنوعة مختلفة، وقد تشكلت بالفعل في العديد من البلدان مختلف التنظيمات الثقافية الاجتماعية، المستقلة عن الاحزاب، رغم انتماء عدد نشطائها الى أحزاب. وليس من الغريب أن تلجأ بعض التنظيمات الحزبية الى السيطرة على مثل هذه التنظيمات وتحويلها الى توابع للمنظمة الحزبية، فهذا ديدن العمل الحزبي القصير النظر، الذي لا يريد الاستفادة من تجربة المنظمات الديمقراطية في السابق، الأمر الذي حولها الى ميدان للصراعات الحزبية، وأسهم في اضعاف المنظمات الديمقراطية، بانفضاض العراقيين عنها، وأدى بالنتيجة الى خسران المنظمة الحزبية ثقة أفراد الجالية. ان العمل في هذه المنظمات اسهم في التربية على الروح الديمقراطية، والعمل في مجالات التنظيمات المدنية، اللازمة لاقامة مجتمع ديمقراطي. ليس هذا فقط وانما يمكن لمنظمات الجالية منذ الآن ان تتطور لتشكل رقابة على النخبة السياسية النشطة في المعارضة في الخارج، والتي تتنطع مدعية التحدث بأسم العراقيين في الخارج دون ان تسعى للحصول على تفويض من الجالية، عن طريق السعي للاستفادة من امكانية مساهمة الدول المضيفة في اجراء انتخابات بين صفوف الجالية لانتخاب ممثليها، وقد نظمت الحكومة البلجيكية مثلاً انتخاب ممثلي جالية المسلمين، أو تنظيم مشاركة اليوغسلاف اللاجئين في الاتحاد الأوروبي في الانتخابات الجارية في بلدانهم. كما يمكن أن تلعب الجاليات العراقية دور جماعات ضغط لرفع الحصار الاقتصادي مع العمل على التحقق من تدمير أسلحة التدمير الشامل، ومن أجل تطبيق قرار مجلس الأمن 688 لكفالة حقوق الانسان واجراء انتخابات برلمانية تحت اشراف دولي. ويمكن لتنظيمات الجالية العراقية أن تتهيأ في اعداد المراقبين الدوليين.

*نشرت المادة في الثقافة الجديدة، العدد294 ايار – حزيران 2000.