تشرين1/أكتوير 11

 قبل 100 عام حذرت المناضلة الشيوعية الألمانية المعروفة عالميا كلارا زينكن، في خطاب تاريخي لها، امام الاجتماع الكامل الموسع الثالث للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية (الكومنترن)، الذي عقد في موسكو في أيام 12 – 23 حزيران 1923، حذرت من أن الفاشيين يمكنهم أيضًا حشد الجماهير في ألمانيا والوصول إلى السلطة. وطالبت اليسار بتقديم بديل اجتماعي مقنع للشعوب. وكان الخطاب أبرز حدث في المؤتمر، حتى لو لم يفهم، من قبل العديد من المشاركين، على هذا النحو. حاولت كلارا زينكين أن تقدم لأول مرة تحليلا ماركسيا شاملا للفاشية الناشئة، وفق تجربتها في السلطة، منذ 1921 في إيطاليا، ووفق تشكلها الخطير في المانيا. لقد أدركت كلارا زينكين خطورة التهديد الفاشي في وقت مبكر أكثر من العديد من معاصريها.

وسبق لي أن أعددت مادة صحفية عن الحدث نشر في جريدة "طريق الشعب" بتاريخ 11 تموز 2023. ولأهمية الخطاب، الذي ـ وفق متابعاتي المتواضعة ـ لم ينشر سابقا بالعربية، أدناه ترجمة نصه الكامل، كما نشر في الموقع الألماني لمجلة "جاكوبين" اليسارية:
 
للاطلاع على نص الخطاب بصيغة pdf: اضغط هنـــا
 
    تمثل الفاشية، بالنسبة للبروليتاريا عدوا شديد الخطورة والشراسة. والفاشية هي العدو الأقوى والأكثر تركيزًا، إنها التعبير الكلاسيكي عن الهجوم العام للبرجوازية العالمية في هذه اللحظة. وإن هزيمتها تشكل ضرورة أساسية. ولا يرتبط هذا بالوجود التاريخي للبروليتاريا، كطبقة يجب أن تحرر البشرية من خلال التغلب على الرأسمالية فقط؛ بل هي تجسيد لوجود كل بروليتاري متواضع ايضا، وترتبط بالخبز وظروف العمل ونمط حياة ملايين وملايين المستغَلين. لذلك يجب أن يكون النضال ضد الفاشية هو الشغل الشاغل للبروليتاريا بأسرها. ومن الواضح أنه كلما أدركنا جوهرها بشكل أكثر وضوحًا وحرصًا وتأثيرات هذا الجوهر، كان من الأسهل علينا التغلب على هذا العدو الماكر.
حتى الآن كان هناك قدر كبير من الغموض حول الفاشية. ليس فقط في صفوف جماهير البروليتاريا العريضة، بل أيضا في صفوف الشيوعيين: الطليعة الثورية للبروليتاريا. كان الرأي السائد، وربما السائد في السابق، هو أن الفاشية ليست سوى إرهاب برجوازي عنيف، وقد وُضعت تاريخياً، من حيث طبيعتها وتأثيرها، على قدم المساواة مع الرعب الأبيض لنظام هورثي في هنغاريا (بعد هزيمة تجربة المجالس الثورية – المترجم). وعلى الرغم من أن الأساليب الإرهابية الدموية للفاشية ونظام هورثي هي نفسها وموجهة بشكل متساو ضد البروليتاريا، فإن الطبيعة التاريخية للظاهرتين مختلفة بشكل استثنائي. لقد اندلع الإرهاب في هنغاريا بعد نضال ثوري بروليتاري منتصر ولو لفترة وجيزة. اهتزت البرجوازية للحظات أمام سلطة البروليتاريا. وجاء إرهاب هورثي ثأرا من الثورة. وكان منفذو هذا الانتقام هم فئة صغيرة من الضباط الإقطاعيين.
اما بالنسبة للفاشية فان الأمر مختلف. إنها لا تمثل حالة ثأر برجوازي، ردا على انتفاضة نضالية للبروليتاريا. تاريخيا، وعلى أساس رؤية موضوعية، تأتي الفاشية كعقاب، لأن البروليتاريا لم تستمر وتدفع بالثورة التي بدأت في روسيا الى امام. وحملة الفاشية ليسوا فئة صغيرة، بل هم فئات اجتماعية واسعة، جماهير حاشدة تصل حتى إلى البروليتاريا. ويجب أن نكون واضحين بشأن هذه الاختلافات الجوهرية إذا أردنا أن نحسم الامر مع الفاشية. لن نغزوها بالوسائل العسكرية وحدها. ولصياغة الفكرة، يجب علينا أيضًا التغلب عليها سياسياً وأيديولوجياً.
على الرغم من الرأي القائل بأن الفاشية مجرد إرهاب برجوازي تتبناه عناصر راديكالية في حركتنا، إلا أنه يتماشى جزئيًا مع وجهة نظر الإصلاحيين الديمقراطيين الاجتماعيين. بالنسبة لهم، الفاشية ليست سوى الإرهاب والعنف، بل هي في الواقع رد فعل برجوازي للعنف الذي استخدمته البروليتاريا ضد المجتمع البرجوازي أو الذي تهدد المجتمع به. وبالنسبة للسادة الإصلاحيين، تلعب الثورة الروسية نفس الدور الذي تلعبه عضّة تفاحة الجنة بالنسبة لمؤمني الكتاب المقدس. إنها نقطة البداية لجميع الظواهر الإرهابية في الوقت الحاضر. وكأنه لم تكن هناك حرب إمبريالية مفترسة ولا دكتاتورية طبقية للبرجوازية قبل الثورة!
وبنفس الطريقة، فإن الفاشية بالنسبة للإصلاحيين هي نتيجة الذنب الثوري للبروليتاريا الروسية. لم يكن سوى أوتو باور (ماركسي نمساوي) الذي رأى في هامبورغ أن الشيوعيين الروس ورفاقهم في التفكير يتحملون مسؤولية خاصة للغاية عن ردة الفعل العالمية الحالية للبرجوازية والفاشية. لقد تسببوا في انقسام الأحزاب والنقابات. في هذا الادعاء المتهور، نسي أوتو باور أن المستقلين غير المؤذيين للغاية انفصلوا عن الديمقراطيين الاجتماعيين حتى قبل الثورة الروسية ومثالها "الأخلاقي المفسد". وأوضح كذلك أن ردة الفعل العالمية، التي بلغت ذروتها في الفاشية، ترجع أيضًا إلى حقيقة أن الثورة الروسية دمرت الفردوس المنشفي في جورجيا وأرمينيا. لقد رأى في "الإرهاب البلشفي" بشكل عام السبب الثالث لردود الفعل العالمية.
وعلى الرغم من ذلك نراه في عرضه يعترف: "نحن اليوم في وسط اوروبا مجبرون على مواجهة المنظمات الفاشية العنيفة بمنظمات الدفاع البروليتارية. لأنه لا يمكن لأي مناشدة ديمقراطية أن تكفي لمواجهة العنف المباشر".
قد يعتقد المرء، على أساس هذا الاعتراف، أنه يجب على المرء أن يستخلص الاستنتاج الاتي: لذلك نحن نرد على العنف بالعنف. لكن المنطق الإصلاحي يسير في طريقه الخاص، غامض مثل طرق العناية السماوية. لاحقا يستمر اوتو باور بتدوير أفكاره: "أنا لا أتحدث عن أشياء كبيرة لا يمكن تنفيذها دائمًا في كل مكان ... لا عن العصيان، ولا حتى عن الإضراب العام ... تعاون النشاط البرلماني والعمل الجماهيري خارج البرلمان يقدم إمكانيات واعدة".
لا يكشف لنا السيد باور عمّا يجيش بصدره السياسي العفيف، عن ماهية النشاطات السياسية البرلمانية، ومن باب أولى تلك التي تنظم خارج البرلمان. هناك نشاطات ونشاطات برلمانية وأخرى جماهيرية، كما نرى هي قذارة برجوازية – اسمحوا لي بهذا التعبير. من ناحية أخرى، يمكن لأي عمل داخل البرلمان أو خارجه أن يكون ذا طابع ثوري. ظل أوتو باور صامتا بشأن طبيعة الأنشطة الإصلاحية.
وبالتالي فإن نتيجة تصريحاته حول النضال ضد ردة الفعل العالمية هي نتيجة غريبة للغاية لقد بدت كمكتب معلومات دولي يقدم تقارير دقيقة عن ردة الفعل العالمية. وأوضح باور أن الكونجرس غالبًا ما يُنظر إليه بعين الشك. إذا لم يتم فهم كيفية إنشاء مكتب إخباري لتوفير المواد اللازمة حول رد الفعل، فإن هذه الشكوك ستكون مبررة.
ماذا يقف وراء الفكرة كلها؟
الإيمان الإصلاحي بقوة وصمود النظام الرأسمالي، وسيادة الطبقية للبرجوازية وانعدام الثقة، والحماسة تجاه البروليتاريا، باعتبارها عاملا واعيا لا يقاوم للثورة العالمية.
يرى الإصلاحيون في الفاشية تعبيرا عن الصمود، وعن تفوق السلطة وقوة الحكم الطبقي البرجوازي، الذي لا تضاهيه البروليتاريا، والذي من العبث النضال ضده. لذلك ليس أمامها خيار سوى التنحي بهدوء وتواضع، وعدم استفزاز نمر أو أسد حكم الطبقة البرجوازية بالنضال من أجل تحررها، ومن أجل ديكتاتوريتها، باختصار، التخلي عن الحاضر والمستقبل والانتظار بصبر ما إذا كان بإمكان المرء إحراز تقدم طفيف على طريق الديمقراطية والإصلاح.
لي رؤية مضادة وأحتمل أن كل الشيوعيين معي، في أن الفاشية، هي نتاج اضطراب وتفكك الاقتصاد الرأسمالي وأحد أعراض تفكك الدولة البرجوازية. عندما نفهم ان الفاشية تمارس تأثيرا حارقا وكاسحا على الجماهير الاجتماعية، التي فقدت امن وجودها السابق وفي الغالب قناعتها في نظام اليوم، سنكون عندها فقط قادرين على محاربتها. ان أحد جذور الفاشية، يكمن في الواقع في تفكك الاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية. لقد وجدنا بالفعل أعراضا لتحول فئات برجوازية بواسطة الرأسمالية الى بروليتاريا في زمن ما قبل الحرب.
لقد حطّمت الحرب الاقتصاد الرأسمالي بالعمق. وهذا لا يظهر فقط في إفقار البروليتاريا الرهيب، بل بالقدر نفسه في تحول أوساط واسعة من الفئات الصغيرة والوسطى من البرجوازية الى صفوف البروليتاريا، وفي محنة صغار الفلاحين وفي بؤس المثقفين الرمادي. إنّ محنة المثقفين أكبر، لأن الرأسمالية، في فترة ما قبل الحرب، عملت على إحداث وفرة في الإنتاج. لقد طرح الرأسماليون أيضًا كمية كبيرة من العرض في مجال العمل الفكري، في سبيل إطلاق العنان لمنافسة قذرة لخفض الأجور، معذرة الرواتب. ومن هذه الأوساط جندت الامبريالية والحرب الامبريالية ابطالها الأيديولوجيين. كل هذه الفئات تعيش الآن إفلاس آمالها في الحرب. لقد تدهورت أوضاعها بشكل كبير. والأسوأ هو، ان الافتقار إلى الوجود الآمن الذي كانوا يتمتعون به في فترة ما قبل الحرب، يلقي بثقله عليهم.
لا أتوصل الى هذا الاستنتاج بسبب الظروف السائدة في ألمانيا، حيث يعيش المثقفون البرجوازيون حالة طوارئ، غالبا ما تكون أكبر من بؤس العمال. لا، اذهبوا إلى إيطاليا! سأتحدث لاحقا عن حقيقة أن تفكك الاقتصاد هناك، كان أيضًا عاملا حاسما في انضمام الحشود الاجتماعية إلى الفاشية.
دعونا ننظر إلى دولة اخرى، مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، لم تخرج من الحرب العالمية المهزوزة بشدة: إنكلترا. يدور في إنكلترا اليوم حديث كثير في الصحافة وفي أوساط الرأي العام عن معاناة جموع الفقراء الجدد، وكذلك عن الكماليات والمكاسب الهائلة للقلة من "الأغنياء الجدد". وفي أمريكا، اعلنت حركة المزارعين عن المحنة المتزايدة لطبقة اجتماعية كبيرة. لقد تدهور وضع الفئات الوسطى بشكل كبير، في جميع البلدان.
ونتيجة لذلك، هناك الآلاف والآلاف يبحثون عن فرص جديدة في الحياة، عن خبز آمن، عن المكانة الاجتماعية. ويتضاعف عددهم من خلال متوسطي وصغار موظفي الدولة والخدمات العامة. وينضم إليهم، في الدول المنتصرة أيضًا، الضباط وضباط الصف وغيرهم ممن أصبحوا عاطلين عن العمل. عناصر اجتماعية من هذا النوع توفر للفاشية حصة نسبية في جهاز الدولة، وهي قوة حاسمة بشكل خاص في إعطائها ـ في بعض البلدان ـ طابعًا ملكيًا بلا ريب. لكننا لن نتمكن من فهم طبيعة الفاشية بشكل كامل إذا نظرنا إلى تطورها على أساس هذا السبب الوحيد، الذي يعزز بقدر غير قليل، الوضع المالي للدول وسلطتها المتضائلة.
للفاشية جذر آخر: هو ركود مسيرة الثورة العالمية المتباطئة، نتيجة لخيانة القادة الإصلاحيين للحركة العمالية. لقد استبدل جزء كبير من الفئات البرجوازية الدنيا والمتوسطة التي تحولت إلى البروليتاريا أو المهددة بالتحول إلى البروليتاريا، من موظفي الخدمة المدنية والمثقفين البرجوازيين، استبدلوا سيكولوجية الحرب بتعاطف معين مع الاشتراكية الإصلاحية. كانوا يأملون من الاشتراكية الإصلاحية، تغيير العالم بفضل "الديمقراطية". وقد خابت آمال هذه التوقعات بشدة. ينتهج الاشتراكيون الإصلاحيون سياسة ائتلافية ناعمة، يتحمل تكاليفها الى جانب البروليتاريا، موظفو الخدمة المدنية ومثقفو البرجوازية المتوسطة والصغيرة بجميع أنواعها. تفتقر هذه الفئات بشكل عام إلى التدريب النظري والتاريخي والسياسي. لم يكن تعاطفهم مع الاشتراكية الإصلاحية متجذرا بعمق.
وهكذا لم يفقدوا الثقة في القادة الإصلاحيين فقط، بل في الاشتراكية ذاتها. وأوضحوا "لقد وعدنا الاشتراكيون بتخفيف أعبائنا ومعاناتنا، وبكل أنواع الأشياء الجميلة، وبإعادة تنظيم المجتمع وفق مبادئ العدالة والديمقراطية". "لكن كبار الأثرياء يواصلون، بشكل أقسى من ذي قبل، إدارة الاقتصاد والسلطة". انضمت عناصر بروليتارية إلى البرجوازية المصابة بخيبة أمل من الاشتراكية. وكل هؤلاء المحبطين، سواء كانوا من أصل برجوازي أو بروليتاري، ما زالوا يفقدون قوة روحية ثمينة، تجعلنا ننظر بأمل للخروج من الحاضر الكئيب إلى مستقبل مشرق. إن الاعتماد على البروليتاريا باعتبارها طبقة التحول الاجتماعي، وحقيقة أن القادة الإصلاحيين خانوها لا تمتلك وزن التأثير على موقف العناصر المحبطة مثل الحقيقة الاخرى، أي أن جماهير البروليتارية تتسامح مع الخيانة، وأنها تتحمل نير الرأسمالية دون تمرد ودون نضال، نعم انها تتحمل الما قاسيا اشد من ذي قبل.
وبالمناسبة، لكي نكون منصفين، يجب أن أضيف أن الأحزاب الشيوعية، إذا ما استثنينا روسيا، ليست بعيدة عن مسؤولية القاء البروليتاريين الذين أصيبوا بخيبة أمل بأنفسهم في أحضان الفاشية. لم يكن نشاطها في كثير من الأحيان قويا بما فيه الكفاية، ولم يكن تحركها كافيا، ولم تصل إلى الجماهير بعمق، وبالقوة الكافية.
أغض النظر عن الأخطاء التكتيكية، التي جلبت الهزائم. ليس هناك شك في أن بعض البروليتاريا الأكثر نشاطا وحيوية وثورية لم يجدوا طريقهم إلينا، أو حثوا الخطى عائدين، لأنهم شعروا بأننا لم نكن نشيطين بما فيه الكفاية، ولم نكن عنيفين بما فيه الكفاية، ولأننا لم نفهم كيف ندفعهم الى الوعي بشكل كاف، سبب اضطرارنا إلى ممارسة ضبط النفس المفروض والمبرر.
توافد الآلاف من الجماهير على الفاشية. لقد أصبحت ملجأ للمشردين سياسيا، وللذين تقطعت جذورهم الاجتماعية، للمعدمين وللمحبطين. وما لم يتمنَه أي منهم من طبقة البروليتاريا الثورية ومن الاشتراكية، فإنهم يأملونه باعتباره عمل العناصر الأكثر قدرة وأقوى وعزمًا وجرأة من جميع الطبقات، والتي يجب أن تتحد في مجتمع واحد. بالنسبة للفاشيين، هذا المجتمع هو الأمة. وهم يتصورون أن الإرادة الجادة لخلق شيء جديد، أفضل اجتماعياً، وقوي بالقدر الكافي لربط كل التناقضات الطبقية. والدولة بالنسبة لهم هي وسيلة تحقيق المثل الفاشي الأعلى. دولة قوية استبدادية ينبغي أن تكون من صنعهم وأداةً طيعة لهم. وسيتم تتويجها فوق كل الخلافات الحزبية والعداءات الطبقية وستشكل العالم الاجتماعي وفقا لأيديولوجيتهم وبرنامجهم.
من الواضح أن الفاشية، واعتمادًا على التكوين الاجتماعي لقواها، تتضمن أيضًا عناصر يمكن أن تصبح غير مريحة للغاية، بل وخطيرة، للمجتمع البرجوازي. وأذهب إلى أبعد من ذلك، وأؤكد يجب أن يصبحوا خطرين على المجتمع البرجوازي إذا فهموا مصالحهم الخاصة جدا. في واقع الأمر! إذا كان الأمر كذلك، فيجب عليهم القيام بدورهم لسحق المجتمع البرجوازي وتأسيس الشيوعية في أسرع وقت ممكن. لكن الحقائق أثبتت حتى الآن أن العناصر الثورية في الفاشية قد تم تطويقها وتقييدها من قبل العناصر الرجعية.
وتتكرر ظاهرة مماثلة للثورات الأخرى. لقد كانت الفئات البرجوازية الصغيرة والمتوسطة في المجتمع تتأرجح في البداية بين الجيوش التاريخية الجبارة للبروليتاريا والبرجوازية، مترددة ذهابا وإيابا. إن مصاعب حياتها، وجزئيًا أفضل رغباتها ايضا، والمثل العليا لروحها تجعلها تتعاطف مع البروليتاريا، طالما أنها لا تتصرف بطريقة ثورية فقط، بل تبدو ماسكة لآفاق النصر. وتحت ضغط الجماهير واحتياجاتها، وتحت تأثير هذا الوضع، يجب على القادة الفاشيين على الأقل مغازلة البروليتاريا الثورية - حتى لو كانوا لا يتعاطفون معها داخليا. ولكن بمجرد أن يصبح واضحا أن البروليتاريا نفسها سوف تمتنع عن مواصلة الثورة، وأنها، تحت تأثير القادة الإصلاحيين، ستنسحب من ساحة المعركة، خجولة من الثورة ومؤمنة بالرأسماليين، تصطف الجماهير العريضة من الفاشيين، حيث وقف معظم قادتها، منذ البداية، بوعي أو بغير وعي إلى جانب البرجوازية.
من المفهوم أن البرجوازية ترحب فرحة بالحلفاء الجدد. وترى فيهم نموا قويا في السلطة، وحشدًا عنيفًا مصممًا على القيام بكل شيء لخدمتها. ولسوء الحظ، فإن البرجوازية، المعتادة على الهيمنة، أكثر ذكاء وخبرة في تقييم الوضع والدفاع عن مصالحها الطبقية من البروليتاريا المقيدة، والمعتادة على الخضوع. ومنذ البداية استوعبت الوضع بوضوح شديد، وبالتالي حددت الفائدة المستخلصة من الفاشية. ماذا تريد البرجوازية؟ إنها تسعى جاهدة لإعادة بناء الاقتصاد الرأسمالي، أي الحفاظ على سلطتها الطبقية. وفي ظل الظروف المعينة، فإن تحقيق هدفها يفترض تشديد وتعميق استغلال واضطهاد البروليتاريا. إن البرجوازية تعرف جيدا أنها لا تملك بمفردها وسائل القوة، لفرض مثل هذا المصير على المستغلين، الملسوعين بعقارب البؤس المنهمر، يبدأ في نهاية المطاف البروليتاريون ذوو الجلود السميكة بالتمرد على الرأسمالية.
يجب على البرجوازية أن تقول لنفسها، في ظل هذه الظروف، وعلى المدى الطويل، حتى الوعظ المعتدل والسلمي للاشتراكيين الإصلاحيين، سوف يفقد تأثيره المخدر على البروليتاريا. وهي تعتقد بعدم قدرتها على إخضاع البروليتاريا واستغلالها، إلا بمساعدة وسائل العنف. لكن وسائل سلطة الدولة البرجوازية بدأت تفشل وتفقد المزيد والمزيد من القوة المالية والسلطة الأخلاقية لإلزام عبيدها بالخضوع والولاء الأعمى. ولم يعد بإمكان البرجوازية أن تتوقع ضمان سلطتها الطبقية بواسطة وسائل سلطة دولتها العادية فقط. إنها تحتاج إلى منظمة سلطة خارج نطاق القانون وخارج اطر الدولة لتحقيق ذلك. وتوفر ذلك بواسطة تجميع كومة عنف الفاشية المتنوع. ولهذا السبب لا تكتفي البرجوازية بتقبل خدمات الفاشية بتقبيل يدها، وتضمن لها أوسع حرية في الحركة، خلافا لكل قوانينها المكتوبة وغير المكتوبة. وتذهب أبعد من ذلك، فهي تغذيها وتدعمها وتعزز تطورها بكل وسائل السلطة المالية والسياسية المتاحة لها.
من الثابت أن للفاشية خصائص مختلفة في البلدان المختلفة، ارتباطا بالظروف الملموسة القائمة. ومع ذلك، فإن للفاشية سمتين تتميز بهما في جميع البلدان: برنامج ثوري زائف، وشديد الذكاء في تناول مزاج ومصالح ومطالب أوسع الجماهير الاجتماعية، واستخدام الإرهاب الأكثر عنفا ووحشية.
تمثل إيطاليا حتى اليوم النموذج الكلاسيكي لجوهر وتطور الفاشية. في إيطاليا، وجدت الفاشية أرضها الخصبة في تفكك الاقتصاد وضعفه. ولا يبدو الأمر منطقيا، إذ إن إيطاليا من الدول المنتصرة في الحرب. ومع ذلك، لقد ألحقت الحرب ضررا شديدا بالاقتصاد الإيطالي. لقد عادت البرجوازية من الحرب منتصرة لكنها منهكة. لهذا كان الهيكل الاقتصادي وطابع التنمية في البلاد عاملا مقررا. لقد ازدهرت الرأسمالية الصناعية الحديثة في شمال إيطاليا فقط. في وسط إيطاليا، وأكثر من ذلك في الجنوب، كان رأس المال الزراعي لا يزال سائدا في ظل ظروف إقطاعية، متحالفا مع رأسمالية مالية لم تصل إلى ذروة التطور والأهمية الحديثة. ولم يكونا امبرياليين، وكانا مناهضين للحرب ولم يكسبا من الإبادة الجماعية، سوى القليل أو لا شيء. لقد عانى الفلاحون غير الرأسماليين في ظل الحرب معاناة شديدة، ومعهم البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا في المناطق الحضرية. لقد حقق رأسماليو الصناعة الثقيلة في شمال إيطاليا، والتي تمت رعايتهم بشكل مصطنع، أرباحا مذهلة. ومع ذلك، وبما أن هذه الصناعة لم تمتلك اساسا محليا، ولان إيطاليا لا تملك فحما ولا معادن، سرعان ما تضاءل ازدهارها الصناعي.
غزت آثار الحرب السيئة الاقتصاد الإيطالي والمالية العامة. تطورت أزمة رهيبة. تعثرت الصناعة والحرف والتجارة، وافلاس يتبع افلاسا، وانهار بنك "ديسكونت" و"أنسالدو ويرك"، وانهارت ايداعات الإمبريالية والحرب معًا. خلفت الحرب مئات الآلاف من الباحثين عن عمل ورغيف الخبز، ومئات الآلاف من المقعدين والأرامل والأيتام المحتاجين. وزادت الأزمة من جيش العاطلين العائدين الباحثين عن عمل بأعداد كبيرة من العمال والعاملات والمستخدمين المسرّحين من أعمالهم.
 اجتاحت موجة هائلة من البؤس إيطاليا، وبلغت ذروتها بين صيف 1920 وربيع 1921. ولم تكن البرجوازية الصناعية في شمال إيطاليا، وهي أكثر دعاة الحرب من عديمي الضمير، قادرة على إعادة بناء الاقتصاد المدمر؛ ولم يكن لديها السلطة السياسية لتعبئة الدولة من اجل تحقيق أغراضها. لقد عادت الحكومة من أيديها (البرجوازية الصناعية) إلى الرأسماليين الزراعيين والماليين تحت قيادة جيوليتي. لكن، حتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن الدولة التي كانت تتصدع في كل مفاصلها، لم يكن لديها الوسائل والفرص لوضع حل سحري للأزمة والبؤس.
وبفضل هذا الوضع ومعه، تمكنت الفاشية، خطوة خطوة من الانطلاق كالنار في الهشيم. وتجسد القائد "المنتظر" في شخص موسوليني. في خريف عام 1914، ارتد موسوليني عن الاشتراكية السلمية، وبشعار: "الحرب أو الجمهورية"، أصبح أكثر دعاة الحرب تعصبًا. وفي إحدى الصحف اليومية "شعب إيطاليا"، التي تأسست بأموال "الوفاق" (المقصود دول الوفاق - المترجم)، وعد العمال بملكوت الجنة على الأرض كثمرة للحرب. لقد خاض مع البرجوازية الصناعية بحر دماء الحرب العالمية (الأولى)، وأراد معها تحويل إيطاليا إلى دولة رأسمالية حديثة. كان على موسوليني جمع الجماهير للتحرك، والتدخل بنشاط في الوضع الذي صفع نبوءاته، وتعارض مع هدفه.
بعد الحرب، في عام 1919، تأسست أول حركة "فاشي دي كومباتيمنتو" لمقاتلي الخطوط الأمامية في ميلانو (ذوي القمصان السود)، مع برنامج تأمين وجود الأمة وازدهارها، "تأمين الثمار الثورية للحرب الثورية لأبطال الخنادق والجيش والشغيلة". وبهذا ظهرت الحركة الفاشية في بعض المدن. ومنذ البداية، خاضت الحركة الشابة صراعا مريرا ضد المنظمات العمالية الثورية لأنها (الحركة العمالية)، وفقا لتأكيد موسوليني، "شقت وأضعفت الأمة" من خلال الدفاع عن وجهة نظر الصراع الطبقي. كما وجهت الفاشية رماحها ضد حكومة جيوليتي، التي اتهمتها بالمسؤولية الكاملة عن البؤس الأسود في فترة ما بعد الحرب. كان تطور الفاشية في البداية بطيئًا وضعيفًا. وكانت ثقة الجماهير العريضة بالاشتراكية لا تزال تقاومه. في ايار 1920، لم يكن هناك سوى قرابة 100 مجموعة فاشية في جميع أنحاء إيطاليا، وأكبر هذه المجاميع لا تضم أكثر من 20 إلى 30 عضوًا.
وسرعان ما كانت الفاشية قادرة على امتصاص الغذاء والقوة من جذر رئيسي ثان. لقد أدى الوضع الثوري الموضوعي إلى ظهور مزاج ثوري لدى البروليتاريا الإيطالية. وكان للمثال المجيد للعمال والفلاحين الروس تأثير قوي على ذلك. في صيف عام 1920، احتل عمال المعادن المصانع هنا وهناك، وصولا إلى جنوب إيطاليا، واحتل البروليتاريون الزراعيون وصغار الفلاحين وصغار مستأجري الأراضي والممتلكات أو تمردوا ضد كبار المزارعين بطريقة أخرى. لكن الساعة التاريخية الكبرى صادفت جيلا صغيرا من القادة العماليين. لقد تراجع، وابتعد القادة الإصلاحيون الجبناء في الحزب الاشتراكي عن الثورة، وعن توسيع احتلال المصانع وتحويله الى صراع على السلطة. لقد دفعوا نضال العمال إلى السرير الضيق للحركة الاقتصادية، التي تعود قيادتها للنقابات العمالية، وبانسجام روحي مع سلطات الاتحاد العام لنقابات العمال، خانوا عبيد الأجر المتمردين في تسوية مخزية مع مالكي المصانع، جاءت بتعاون ممتاز من الحكومة وخاصة رئيسها جيوليتي. ولم يكن زعماء الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي، الذي تبلور منه، فيما بعد الحزب الشيوعي، يتمتعون بعد بالخبرة السياسية، والاعداد الكافي للسيطرة على الوضع فكريا وعمليا وإعطاء الأمور منحى مختلفا. وفي الوقت نفسه، ظهر عجز جماهير البروليتاريا عن تجاوز القادة ودفعهم للأمام باتجاه الثورة.
انتهى احتلال المصنع بهزيمة قاسية للبروليتاريا، جلبت الإحباط والشك والضعف إلى صفوفها. وأدار آلاف العمال ظهورهم للمنظمات الحزبية والنقابية. وغرق كثيرون منهم في اللامبالاة والبلادة، وانضم آخرون إلى الجمعيات البرجوازية. واكتسبت الفاشية المزيد من الاتباع بين المحبطين وكذلك بين البرجوازية الصغيرة في المدن والفئات الوسطى من السكان. لقد انتصرت أيديولوجياً وسياسياً على العمال المصابين بالإصلاح. في شباط 1921 كان هناك قرابة ألف مجموعة فاشية. لقد كسبت الفاشية الجماهير من خلال المطالب الثورية الزائفة، والتي دافعت عنها بتحريض ديماغوجي عديم الضمير. كان خطابها المتضخم في تطرفه موجها أولا ضد حكومة جيوليتي، "خائن الأمة".
ومن ناحية أخرى، خاضت الفاشية حربا بالنار والسيف ضد "العدو الثاني"، أي المنظمات العمالية الأممية "عدوة الوطن". طالب موسوليني، تماشيا مع موقفه الجمهوري والمناهض للملكية والإمبريالية، بإسقاط السلالة وقطع رأس جيوليتي بالمعنى الحرفي. بدأ أتباعه في "تأديب" المنظمات "المناهضة للقومية"، أي المنظمات العمالية الواعية طبقيا، بإرهاب دموي واسع. في ربيع عام 1921، جرت أولى "حملات العقاب" الفاشية. لقد ضربوا البروليتاريين الريفيين، الذين تم تدمير وإحراق مقراتهم التنظيمية، وقتل قادتهم. وفي وقت لاحق امتد الإرهاب الفاشي إلى بروليتاريي المدن الكبرى. وسمحت سلطات الدولة بما يدور دون مراعاة للقانون والنظام. لقد قامت البرجوازية، سواء كانت صناعية أو زراعية، برعاية الفاشية الإرهابية بشكل علني ودعمتها بالمال والوسائل الأخرى. وعلى الرغم من هزيمة العمال في احتلال المصانع، إلا أنهم كانوا يخشون أن تصل البروليتاريا إلى السلطة في المستقبل. في انتخابات المجالس المحلية، فاز الاشتراكيون بقرابة ثلث الحكومات المحلية البالغ عددها 8 آلاف. وكان من المهم الحيلولة دون ذلك.
بالتأكيد! في ذلك الوقت، كان لدى الحكومة الأسباب ووسائل القوة لاستخدام العنف ضد الفاشية التي بدت وكأنها تهددها. ولكن في الوضع السائد كان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى تعزيز الحركة العمالية. يعتقد جيوليتي أن الفاشيين أفضل من الاشتراكيين والثوريين. قام الثعلب الذكي المسن بحل المجلس النيابي، ودعا إلى إجراء انتخابات جديدة في ايار1921. أسس "كتلة النظام" من كافة الأحزاب البرجوازية وضم إليها المنظمات الفاشية. خلال الحملة الانتخابية، فقدت الفاشية شعرها الجمهوري الوحشي (تشبيه الفاشية بحيوان وحشي – المترجم). لقد صمت التحريض المناهض للأسر الحاكمة والمناهض للملكية إلى الحد الذي انضم إليه القادة الزراعيون والجماهير الزراعية. والى حد كبير، يعود لهم الفضل في نجاحات الفاشية الانتخابية، فضلاً عن توسيع وتقوية المجاميع الفاشية، التي ارتفع عددها، بحلول أيار 2021 إلى قرابة الألفين.
لقد شعر موسوليني بلا شك بالخطر الذي يهدد أهدافه جراء إغراق الفاشية بالعناصر الزراعية. لقد أدرك أنه مع توقف التحريض الثوري الزائف والمناهض للملكية، ضاع حافز كبير للجماهير العريضة للانضمام إلى الفاشية. وعندما انتهت المعركة الانتخابية، أراد العودة إلى شعاراته التي رفعها عام 1919. وفي مقابلة مع ممثل صحيفة "جيورنال ديتاليا" - التي تمثل التوجهات الصناعية الثقيلة - أوضح أن الفاشيين المنتخبين لن يحضروا افتتاح المجلس، لأنه من المستحيل عليهم أن يهتفوا بعد خطاب العرش: "يحيا الملك!" عكس نشر الحوار قوة جناح الفاشية الزراعي. لقد انتقل بعض النواب المنتخبين بدعم من الفاشية إلى الملكيين والقوميين. واستدعى الامر اتخاذ موقف من القضية المثيرة للجدل في اجتماع مشترك للنواب الفاشيين مع مندوبي التنظيم الفاشي.
لم يحقق موسوليني مطلبه، لهذا كبح جماح نزعته الجمهورية بإعلانه أنه لا يريد شق الفاشية بسبب هذه القضية. لقد أعطته هزيمته الفرصة للعمل على تأسيس الفاشية كحزب مركزي منظم، في حين أنها كانت حتى ذلك الحين حركة فضفاضة. حدث التحول في المؤتمر الفاشي الأول في تشرين الثاني 1921. على الرغم من نجاح عملية التأسيس، الا انه هُزم في انتخاب قيادة الحزب، ولم يتمكن من وضع يديه عليها تمامًا. تم احتلال نصفها فقط من قبل أنصاره الشخصيين، والنصف الآخر من قبل المزارعين ذوي العقلية الملكية. هذا الواقع له أهميته. لأنه يعكس التناقض الموجود إلى حد متزايد في الفاشية اليوم وسيساهم في تفككها. إنه التعارض بين رأس المال الزراعي ورأس المال الصناعي، وسياسيا: بين الملكيين والجمهوريين. ويقال إن الحزب يضم الآن 500 ألف عضو.
إن تأسيس الفاشية كحزب وحده لم يكن كافيا لمنحها القوة للسيطرة على الطبقة العاملة، وإجبارها على العمل الشاق الوحشي، لإعادة بناء الاقتصاد الرأسمالي ومواصلة تطويره أكثر من ذي قبل. ولهذا الغرض كان يحتاج إلى جهاز مزدوج. جهاز لإفساد العمال وجهاز لسحقهم بالقوة المسلحة، وبوسائل إرهابية. تم إنشاء جهاز إفساد الحركة العمالية من خلال إنشاء النقابات الفاشية، التي تسمى "الشركات الوطنية". ينبغي عليهم أن ينفذوا بشكل مخطط ما فعلته الفاشية منذ البداية: محاربة الحركة العمالية الثورية، بل محاربة كل حركة عمالية مستقلة. يدافع موسوليني دائما عن نفسه ضد الاتهام بأنه يقود النضال ضد الطبقة العاملة. ويؤكد مرة بعد أخرى أنه يريد رفع الطبقة العاملة ماديا وثقافيا وليس إعادتهم "إلى ظروف العذاب، لوجود يشبه العبيد". ولكن كل هذا في إطار "الأمة"، وخاضع لمصالحها، في رفض حاد للصراع الطبقي.
لقد تأسست النقابات الفاشية لغرض صريح هو العمل كمضاد للسموم ليس فقط لمواجهة منظمات البروليتاريا الثورية، بل لكل منظمة طبقية للبروليتاريا بشكل عام. أي كل منظمة طبقية بروليتارية يشتبه موسوليني وأتباعه منذ البداية بكونها منظمة ثورية. لقد أنشأ منظماته النقابية الخاصة، لتوحد العمال والموظفين ورجال الأعمال في المهنة المعينة او الصناعة المعينة. رفض بعض رجال الأعمال المنظمين الانضمام إلى نقابات موسوليني. مثلما فعلت جمعية الزراعيين وجمعية الصناعيين. ومع ذلك، لم يتم تقديمهم إلى العدالة من قبل أي حملة عقابية فاشية بسبب هرطقتهم. ولا تنظم الحملات العقابية الفاشية إلا عندما تستهدف البروليتاريين الذين قد لا يكونون حتى جزءًا من الحركة الثورية، لكنهم يناضلون وفقًا لمصالحهم الطبقية. وهكذا يضطر عشرات الآلاف من العمال إلى الانضمام إلى النقابات الفاشية، التي يقال إن عدد أعضائها يبلغ نحو المليون.
إن ما بسمي بالاسراب، هو الجهاز الفاشي الإرهابي لإخضاع الطبقة العاملة في إيطاليا. وهي المنظمات العسكرية التي تطورت من حملات العقاب الزراعية العقابية. وأصبحت فرق "منفذي العقاب" الذين كانوا يجتمعون بطوعية من حين لآخر، تحولوا الى "منظمات" دائمة للمعيلين والمرتزقة الذين مارسوا الإرهاب باحتراف. وبمرور الوقت، أصبحت "الأسراب" قوة عسكرية بحتة قامت بالانقلاب واعتمد عليها موسوليني كديكتاتور. وبعد الاستيلاء على السلطة وتأسيس الدولة الفاشية، تم إضفاء الشرعية عليها باعتبارها "ميليشيا دولة وطنية"، كجهاز للدولة البرجوازية. وكما أُعلن رسمياً، فإنها "في خدمة الله والوطن ورئيس الوزراء" - ملاحظة: وليس الملك. هناك تقديرات مختلفة تماما لقوامها. في لحظة الانقلاب كان عديدها يتراوح ما بين 100- 300 ألف، والآن يصل عديدها إلى نصف المليون.
مثلما شهدت ولادة الفاشية فشل وخيانة القادة الإصلاحيين، فإن استيلاء الفاشية على سلطة الدولة شهد أيضًا خيانة جديدة للإصلاحيين، وبالتالي هزيمة جديدة للبروليتاريا الإيطالية. في 31 تموز، نظم اجتماع سري لقادة العمال الايطاليين الإصلاحيين، نقابيين وسياسيين على حد سواء، وكان داراغونا حاضرا كما كان توراتي (من قادة الحزب الاشتراكي واتحاد نقابات العمال – المترجم) الذين قرروا أن يعلن الاتحاد العام لنقابات العمال إضرابا عاما في الأول من آب؛ لقد كان إضراب عاما، بلا استعدادات، وغير منظم. ولما كانت الأمور على هذه الشاكلة، كان من المحتم أن تنتهي بهزيمة فظيعة للبروليتاريا. وفي بعض الأماكن لم يبدأ الإضراب إلا بعد أن انهار بالفعل في أماكن أخرى. لقد كانت هزيمة كبيرة وكارثية مثل هزيمة احتلال المصانع. وشجعت الفاشيين على القيام بانقلاب، وثبطت عزيمة العمال وأضعفتهم، حتى تخلوا عن كل مقاومة وتركوا كل شيء يحدث بسلبية وبلا أمل. وثبتت خيانة القادة الإصلاحيين بعد الانقلاب عندما وافق بالديسي، أحد القادة الأكثر نفوذاً في اتحاد نقابات العمال الإيطالي والحزب الاشتراكي، على الانضمام إلى الحكومة الفاشية، بتكليف من موسوليني. لقد فشل الاتفاق المخزي، يا له من عار! ليس بسبب رفض واحتجاج الإصلاحيين، بل بسبب مقاومة المزارعين الفاشيين.
أيها الرفاق! من هذا العرض الموجز، يمكنكم رؤية الترابط في إيطاليا بين تطور الفاشية والتدمير الاقتصادي للبلاد، ما أدى إلى خلق جماهير فقيرة ومضللة؛ وبين تطور الفاشية وخيانة القادة الإصلاحيين، ما جعل البروليتاريا تنبذ النضال. وكان لضعف الحزب الشيوعي تأثيره أيضاً. وبعيداً عن ضعفه العددي، فربما ارتكب خطأً تكتيكياً أيضاً، عندما نظر إلى الفاشية باعتبارها مجرد ظاهرة عسكرية وتجاهل جانبها الإيديولوجي والسياسي. دعونا لا ننسى أن الفاشية في إيطاليا، قبل أن تسحق البروليتاريا عبر أعمال الإرهاب، حققت انتصارا إيديولوجيا وسياسيا على الحركة العمالية، ما هي الأسباب التي كانت وراء هذا الانتصار. وسيكون الأمر خطيرًا جدًا إذا تجاهلنا أهمية التغلب على الفاشية إيديولوجيًا وسياسيًا.
من الثابت أن الفاشية، من الناحية التنظيمية ومن حيث موقعها خارج السلطة، لم تتمكن من التطور إلا كما تم توضيحه هنا بإيجاز، لأن لديها برنامجًا كان له جاذبية كبيرة للجماهير العريضة. والسؤال المطروح أمامنا، وهو مهم بالنسبة لبروليتاريا جميع البلدان، هو: ماذا فعلت الفاشية في إيطاليا بعد استيلائها على سلطة الدولة لتحقيق برنامجها؟ وما هي طبيعة الدولة التي من المفترض أن تكون أداتها؟ هل أثبتت نفسها كدولة واعدة لا حزبية ولا طبقية تمنح كل طبقة في المجتمع حقوقها، أم أنها أثبتت أيضًا أنها جهاز للأقلية المالكة وخاصة للبرجوازية الصناعية؟ ويتجلى ذلك بشكل أفضل عندما نقارن بين أهم مطالب البرنامج الفاشي والمتحقق منها.
بماذا وعدت الفاشية سياسيا، عندما هجمت، مثل شمشون بشعره البري المجعد المرفرف؟
إصلاح القانون الانتخابي، وتطبيق نظام التمثيل النسبي بجدية متناهية. ماذا نرى؟ من المقرر إلغاء نظام التصويت النسبي القديم غير الكامل، الذي تم تطبيقه عام 1919، واستبداله بنظام تصويت يمثل استهزاء، سخرية دموية، بفكرة التمثيل النسبي. بموجبه ينبغي للحزب الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات أن يحصل على ثلثي جميع مقاعد المجلس. وكان هناك جدل حول ما إذا كان ينبغي أن يكون ثلثا أو حتى ثلاثة أرباع المقاعد. وبحسب آخر التقارير الصحفية، فإن الفاشية تريد الاكتفاء بحصول الحزب الأقوى - أي الفاشي - على الثلثين، على أن يتم توزيع الثلث المتبقي بشكل متناسب بين مختلف الأحزاب الأخرى. إصلاح لطيف لقانون الانتخابات!
وكان موسوليني قد وعد المرأة بأهلية وحق التصويت. انعقد مؤخراً في روما مؤتمر مدني دولي لحق النساء في التصويت. أبدى موسوليني احترامه للسيدات بفروسية وأوضح لهن بابتسامة حلوة أنه سيتم منح النساء حق التصويت، أي حق التصويت في المجالس المحلية فقط. وبهذا ينبغي حجب الحق السياسي عنهن (اي حجب حق التصويت في الانتخابات العامة – المترجم).  علاوة على ذلك، لا ينبغي منح جميع النساء حق التصويت في الانتخابات البلدية، ولكن فقط اللاتي يمكنهن إظهار مستوى معين من التعليم، وكذلك النساء "الموشحات بالحرب" والنساء اللاتي يمتلك أزواجهن كيس مال كبير يكفي لدفع ضرائب معينة. وهكذا يكون الوفاء بالوعد، بقدر تعلق الامر بحق النساء بالمساواة.
تضمن برنامج الفاشية إلغاء مجلس الشيوخ وإنشاء برلمان اقتصادي إلى جانب البرلمان السياسي. ولم يعد هناك حديث عن برلمان اقتصادي. لكن في الخطاب الأول الذي ألقاه موسوليني أمام مجلس الشيوخ، تلك الغرفة الخشنة لجميع الرجعيين، احتفل بإنجازاته في الماضي وأعلن أنه يتكفل بإنجازات عالية في الوقت الحاضر وأن هذه الإنجازات يجب أن تكون حاسمة في تعزيز تأثير مجلس الشيوخ في سن التشريعات.
ودعا الفاشيون في برنامجهم إلى عقد جمعية وطنية على الفور لغرض الإصلاح الدستوري. ماذا عن ذلك؟ لا يوجد ذكر لجمعية وطنية، لكن الإصلاح الدستوري يبدو كالاتي: المجلس المؤلف كما أوضحت هنا، أي أن حزب الأغلبية فيه، يقترح رئيس الوزراء. ويجب على الملك تعيينه، ما دامت الفاشية تمتلك الأغلبية. ويشكل رئيس الوزراء الفاشي الحكومة كما يشاء، ويقدم نفسه وحكومته إلى المجلس وينال الثقة، وبعد ذلك يقزم البرلمان نفسه، ويؤجل جلساته لمدة أربع سنوات، أي طوال الدورة البرلمانية.
دعونا نضع بعض وعود الفاشية في المجال الاجتماعي وجها لوجه مع إمكانية تحققها ايضا. لقد وعدت الفاشية بالحماية القانونية لثماني ساعات عمل في اليوم ووضع حد أدنى للأجور للعمال الصناعيين والزراعيين على حد سواء. وتم اقتراح قانون لثماني ساعات عمل يوميا، يتضمن مائة استثناء ويحتوي أخيرًا على بند يمكن بموجبه أيضًا إلغاء نظام يوم عمل من ثماني ساعات في حالات أخرى. بالإضافة إلى ذلك، لم يعد يوم عمل من ثماني ساعات موجودا اليوم بالنسبة لقطاعات واسعة من البروليتاريا، وخاصة بالنسبة لعمال السكك الحديدية وعمال البريد وغيرهم من موظفي النقل، وبالنسبة للذين يعملون بالضبط وفق نظام عمل "هوندشتوف – غرونر"1، ويجب استبدال ثماني ساعات من العمل، بثماني ساعات من العمل الفعلي.
وفي ما يتعلق بتحديد الحد الأدنى للأجور، ينبغي القول إنه بفضل التقييد الإرهابي وتدمير النقابات العمالية، وبفضل سلوك "الشركات" الفاشية التي دعمت "السلام الطبقي"، تعززت مقاومة أرباب العمل لكل أشكال المطالبة برفع الأجور، ولم يكن العمال قادرين حتى على الدفاع عن أجورهم القديمة في وضع اقتصادي سيئ. لقد حدثت تخفيضات في الأجور بمعدل 20 إلى 30 في المائة، وبالنسبة لعدد كبير جدا من العمال كانت النسبة 50 في المائة؛ نعم، ولم تكن الحالات التي يصل فيها تخفيض الأجور إلى 60 في المائة غائبة.
لقد وعدت الفاشية بالتأمين في حالة الشيخوخة والعجز، الذي يفترض ان يوفر الحماية من أسوأ أنواع الفقر والألم. كيف تم الوفاء بالوعد؟ لقد تم إلغاء نظام الرعاية الاجتماعية الضعيف للمسنين والعجزة والمرضى، الذي كان قائماً بشكل صندوق بقيمة 50 مليون ليرة مخصصة لهذه الأغراض. لقد تم شطب هذه الخمسين مليون ليرة ببساطة من الموازنة "بسبب التقشف"، بحيث لم يعد بإمكان الذين يعانون من الحاجة الى العمل في إيطاليا، الاعتماد على أي رعاية على الإطلاق. كما تم حذف 50 مليون ليرة من موازنة التوظيف أو إعانات البطالة و60 مليون ليرة مخصصة لمؤسسات القروض التابعة للتعاونيات.
طالبت الفاشية بإشراك العمال في الإدارة الفنية للشركات. وبعبارة أخرى: السيطرة على الإنتاج. ووعدت بوضع المؤسسات العامة تحت الرقابة الفنية لمجالس العمل. واليوم يجري النظر في قانون يلغي مؤسسات مجالس العمل نهائياً. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الدولة تسليم الشركات العامة إلى شركات القطاع الخاص لاستغلالها، وقد تم بالفعل تسليم بعضها. إن صناعة أعواد الثقاب، التي كانت في السابق حكراً على الدولة، أصبحت الآن مسألة ربح خاص، وستنتقل حركة الطرود البريدية وحركة الهاتف وعمليات البرق الراديوي وكذلك السكك الحديدية إلى أيدي رأس المال الخاص. وأعلن موسوليني أن الفاشيين "ليبراليون بالمعنى الكلاسيكي للكلمة".
دعونا نتأمل بعض ثمار الفاشية في المجال المالي. أرادت الفاشية إجراء إصلاح ضريبي شامل. وسوف تحتاج دولتها "الاستبدادية" إلى سلطتها لتنفيذ ضريبة عامة متزايدة تدريجياً على رأس المال، وهو ما قد يتخذ في بعض الأحيان طابع "مصادرة رأس المال". والآن تم إلغاء العديد من ضرائب الكماليات، مثل ضريبة الأجهزة، وضريبة السيارات وغيرها، بحجة أن مثل هذه الضريبة "تعيق الإنتاج الوطني وتدمر الملكية والأسرة". علاوة على ذلك، يتم التخطيط للتوسع في الضرائب غير المباشرة بتبرير ذكي بالقدر نفسه، مفاده أن التوسع في الضرائب غير المباشرة يؤدي إلى انخفاض الاستهلاك، وبالتالي يشجع التصدير إلى الخارج. وقد تم إلغاء الشرط الذي ينص على أن الأوراق المالية يجب أن تكون مسجلة باسم المالك، وهو ما يطلق عليه اسمية الأوراق المالية، مما يفتح الباب أمام التهرب الضريبي.
وطالب موسوليني وحارسه بمصادرة ممتلكات الكنيسة. وبدلا من ذلك، أعادت الحكومة الفاشية تقديم العديد من التنازلات القديمة لرجال الدين التي تم الغاؤها فعلا. وبعد إلغاء التعليم الديني منذ 50 عامًا، أعاده موسوليني، وفرض تعليق الصليب في كل مدرسة. هكذا تبدو المعركة ضد رجال الدين.
وطالبت الفاشية بمراجعة عقود الدولة الخاصة بإمدادات الحرب وتسجيل ما يصل إلى 85 بالمائة من أرباح الحرب للدولة. ماذا حدث؟ كان البرلمان قد شكل لجنة لفحص عقود الإمدادات الحربية. وينبغي لها أن تقدم تقريرا معلنا للبرلمان. لو أنها فعلت ذلك، لكان معظم أصحاب الصناعات الثقيلة، رعاة الفاشيين ومربيهم، قد تعرضوا لخطر شديد. كان أحد قرارات موسوليني الأولى هو أن هذه اللجنة يجب أن تقدم تقريرها له شخصيًا وأن أي شخص يسرب أي شيء من التقرير سيعاقب بالسجن ستة أشهر. لقد صمتت كل صافرات الفاشية بشأن تسجيل أرباح الحرب، ومنحت الصناعة الثقيلة المليارات مقابل عمليات الامداد بمختلف أنواعها.
أرادت الفاشية أيضًا أن تكون مجددة في الأسس العسكرية. وطالبت بإلغاء الجيش الدائم، وفترة خدمة قصيرة، وأن يركز الجيش فقط على الدفاع الوطني وليس على الحروب الإمبريالية، وما شابه ذلك. كيف نفذت برنامجها؟ لم يتم إلغاء الجيش الدائم، وتمت زيادة مدة الخدمة من 8 أشهر إلى 18 شهرًا، وهو ما يعادل زيادة في الجيش من 240 إلف الى 340 ألف مقاتل. من المؤكد تم إلغاء الحرس الملكي، وهو نوع من قوات الشرطة المنظمة والمجهزة عسكريًا. ليس لأنها لم تكن تحظى بأي شعبية لدى الناس، وخاصة العمال، نتيجة تدخلها في المسيرات والإضرابات وما إلى ذلك، بل على العكس تماما! بدا الأمر "ديمقراطيًا" للغاية بالنسبة لموسوليني لأنها لم تكن تحت قيادة هيئة الأركان العامة، بل تحت قيادة وزارة الداخلية، وكان موسوليني يخشى أن تتعارض هذه القوة مع اسرابه الفاشية وتقف ضده. لقد كانت قوة الحرس الملكي مكونة من 35 ألف مقاتل. ولهذا تمت زيادة عديد الكارابينيري (تشكيلات أقرب الى مهام الشرطة العسكرية – المترجم) من 65 الف منتسب إلى 90 ألف منتسب، وتضاعف عدد ضباط الشرطة، بمن في ذلك المحققون وشرطة الجمارك.
بالإضافة إلى ذلك، حولت الحكومة الفاشية أسراب القمصان السود إلى ميليشيا وطنية. وقد قُدرت قوتهم في البداية بـ 100 ألف، ووفقًا لقرار المعسكر الفاشي الأخير، سيصل عددهم في المستقبل إلى نصف مليون. ومنذ أن اخترقت العديد من العناصر الملكية الزراعية الأسراب، وخاصة مع ذوي "القمصان الزرقاء" القومية، كان على موسوليني أن يرتجف من التمرد ضد دكتاتوريته. ومنذ اللحظة الأولى لتشكل الأسراب، حاول إخضاعها لسلطة الحزب السياسية، أي تحت سيادته. ورأى أنه حقق ذلك من خلال وضع الأسراب تحت قيادة وطنية عامة تحددها قيادة الحزب. لكن القيادة السياسية لم تستطع منع التناقضات داخل الأسراب، وهي التناقضات التي أصبحت أقوى وأقوى عندما دخل القوميون، "القمصان الزرق"، إليها. ولكسر نفوذهم هناك، أصدر موسوليني مرسومًا يقضي بإلزام كل عضو في الحزب بالانضمام إلى الميليشيا الوطنية، بحيث تصبح قوتها الآن مساوية لقوة الحزب. وبهذه الطريقة، كان موسوليني يأمل بالتمكن من التغلب سياسيًا على العناصر الزراعية التي عارضته. ومع ذلك، عندما ينضم أعضاء الحزب إلى الميليشيا، تدخل الخلافات السياسية إليها أيضًا، وبالضرورة تستمر بالتطور هناك حتى تؤدي إلى تفككها.
وقيل أن القوة المسلحة يجب أن تستخدم فقط للدفاع عن الوطن. لكن الزيادة في الجيش والتسليح الهائل موجهة نحو مغامرات إمبريالية كبرى. يتم توسيع المدفعية بشكل غير عادي، وعدد الضباط المحترفين في ازدياد، ويتلقى الأسطول دعما خاصا جدا. يوجد في الخدمة عدد كبير من الطرادات ومدمرات الطوربيد والغواصات وما إلى ذلك. ويشهد الأسطول الجوي تطوراً مذهلاً بشكل خاص. وقد تم بالفعل طلب 1000 طائرة جديدة وتم إنشاء العديد من محطات الطائرات. وكذلك تشكيل لجنة منفصلة، وتخصيص مئات الملايين من الليرات للصناعات الثقيلة، لبناء أحدث آلات الطيران وأدوات القتل العسكرية.
إذا قارنا برنامج الفاشية في إيطاليا مع مستوى تحقيقه، هناك شيء واحد واضح فعليا اليوم: الإفلاس الأيديولوجي الكامل للحركة. إن هناك تناقضا صارخا بين ما وعدت به الفاشية وما تقدمه للجماهير. ومثل فقاعة الصابون، تبخر في هواء الواقع الحديث عن أن لمصلحة الامة   الأولوية في الدولة الفاشية. لقد كشفت "الأمة" عن نفسها باعتبارها برجوازية، والدولة المثالية الفاشية كدولة طبقية برجوازية مبتذلة وعديمة الضمير. عاجلاً أم آجلاً، لابد أن يتبع هذا الإفلاس الإيديولوجي إفلاس سياسي أيضاً. وهو بالطريق عمليا. إنّ الفاشية غير قادرة على التماسك حتى مع مختلف القوى البرجوازية التي وصلت إلى السلطة بفضل رعايتها الهادئة والخيرية. لقد أرادت الفاشية تأمين القدرة على خلق الابتكار الاجتماعي من خلال السيطرة على الدولة وجعل جهاز السلطة الخاص بها يخدم أهدافها. لكنه لم ينجح بعد في إخضاع الجهاز البيروقراطي للدولة بشكل كامل.
لقد اندلع صراع حاد بين البيروقراطية القديمة الراسخة والسلطة الرسمية الفاشية الجديدة. وذات التناقض قائم بين الجيش النظامي القديم بضباطه المحترفين وميليشيا الدولة الفاشية بقادتها الجدد. والتناقض بين الفاشية والأحزاب البرجوازية آخذ في التزايد. لقد كانت خطة موسوليني مبنية على إنشاء منظمة طبقية برجوازية موحدة على شكل حزب فاش، نظير للبروليتاريا الثورية. ولذلك، كان هدفه تدمير أو استيعاب جميع الأحزاب البرجوازية. لقد نجح في استيعاب حزب واحد: حزب القوميين. وكما تمت الاشارة مرارا، فإن الاندماج له وجهان. إن محاولة دمج المجموعات المدنية والليبرالية والجمهورية والديمقراطية في حزب واحد على أساس محافظ انتهت بشكل بائس. وعلى العكس من ذلك، تسببت السياسة الفاشية في عودة بقايا الديمقراطية البرجوازية إلى أيديولوجيتها القديمة. وفي ضوء سياسات موسوليني القائمة على القوة والعنف، خاضت النضال "من أجل الدفاع عن الدستور واستعادة الحرية المدنية القديمة".
إنّ ما يميز عدم قدرة الفاشية على الحفاظ على موقعها في السلطة السياسية وتوسيعه هو علاقتها بحزب الشعب الكاثوليكي، وهو الحزب البرجوازي الأكبر والأكثر نفوذاً في إيطاليا بلا منازع. وكان موسوليني يعوّل على أنه سينجح في تفكيك الجناح اليميني الزراعي لهذا الحزب وإجباره على الاتحاد مع الفاشيين، وبذلك يضعف الجناح اليساري ويتركه ينحل. لقد سارت الأمور بشكل مختلف. في المؤتمر الأخير للحزب الشعبي في تورينو، أثير احتجاج حقيقي ضد الفاشية. وتم الصراخ بوجه اي شخص في الجناح اليميني أراد التعامل بلطف ولين مع الفاشية. وبالمقابل، قوبلت أقسى انتقادات لسياسات الفاشية بتأييد عاصف.
وخلف التناقضات المشار اليها وغيرها هناك العداء بين الطبقات، الذي لا يمكن القضاء عليه بأي خطبة سلمية أو تنظيم سلمي. إن التناقضات الطبقية أقوى من كل الأيديولوجيات التي تنكرها، وهذه التناقضات تسود رغم الفاشية، بل بفضلها وضدها. ويعبّر سلوك الحزب الشعبي عن التأمل الذاتي لدى أكبر قطاعات البرجوازية الصغيرة الحضرية وصغار الفلاحين بموقعهم الطبقي ومعارضتهم لرأس المال الكبير، وهذا مهم للغاية بالنسبة لمواقع السلطة التي يمكن للفاشية الحفاظ عليها في إيطاليا. بمعنى آخر، للقرار الذي تتجه نحوه. هذه الفئات، وخاصة النساء بداخلها، التي في العادة كاثوليكية بعمق وذات عقلية كنسية. لذلك بذل موسوليني كل ما في وسعه للفوز بالفاتيكان. لكن الفاتيكان أيضًا لم يجرؤ على التصدي للتمرد الذي بدأته جماهير الفلاحين في حزب الشعب ضد الفاشية.
بينما يرى صغار المزارعين أن الفاشية تمنح البرجوازية إعفاءات ضريبية، وتهرباً ضريبياً وعقوداً سمينة، عليهم أن يكتشفوا أن أعباء ضريبية أقسى تُفرض عليهم من خلال الضرائب غير المباشرة وخاصة من خلال حساب جديد للدخل الريفي. وينطبق الشيء نفسه على جماهير البرجوازية الصغيرة في المدينة. وتعود معارضتهم الشديدة أيضًا إلى حقيقة أن الفاشية المنتصرة ألغت الحماية الضئيلة للمستأجرين؛ يتمتع مالك المنزل مرة أخرى بسلطة غير محدودة للاستغلال بواسطة الإيجارات المرتفعة. ويتم التعبير عن التمرد المتزايد لصغار المزارعين والعمال الزراعيين بشكل جذري، خصوصا حيث اعتقدت الفاشية أنها كسرت كل المقاومة بواسطة أسرابها. في بوسكوريال بالقرب من نابولي، على سبيل المثال، اقتحم أكثر من ألف مزارع مقر البلدية احتجاجًا على الضرائب القمعية. وفي ثلاث بلدات في مقاطعة نوفارا، تمكن العمال الزراعيون من الدفاع بنجاح عن أجورهم القديمة وظروف عملهم ضد كبار المزارعين، وذلك فقط من خلال احتلال العديد من العقارات، وبدعم من بعض الأسراب الفاشية. وتبين أن فكرة الصراع الطبقي بدأت تتجذر في صفوف الفاشية ذاتها.
ومن المهم بشكل خاص إيقاظ تلك القطاعات من البروليتاريا التي اسكرت وتسممت بالفاشية. إن الفاشية غير قادرة على الدفاع عن مصالح العمال ضد البرجوازية، وغير قادرة على الوفاء بالوعود التي قطعها، خصوصا أمام النقابات الفاشية. وكلما تعززت انتصاراتها، كلما أصبحت غير قادرة على إثبات نفسها كمدافعة عن البروليتاريا. إنها لا يستطيع حتى إجبار ارباب العمل على الوفاء بوعودهم بشأن فوائد التنظيم المشترك. وإذا كان هناك عدد قليل من العمال المنظمين في النقابات الفاشية، فمن الممكن أن يمنح الرأسمالي هؤلاء القلة وضعا أفضل من حيث الأجور. ولكن عندما تتحد الجماهير في المنظمات الفاشية، فإن رجال الأعمال لن يرعوا "الأخ الفاشي"، لأن ذلك سيكون مكلفا للغاية، وعندما يتعلق الأمر بالمال والأرباح، فإن الارتياح ينتهي عند السادة الرأسماليين.
وما ساهم بشكل خاص في إيقاظ البروليتاريا، حقيقة رمي عدد كبير من العمال من العمل، بلا لقمة عيش على الرصيف، ليس فقط في شركات القطاع الخاص، بل أيضًا في الشركات المملوكة للدولة. لقد تم تسريح 17 ألف عامل في السكك الحديدية بعد وقت قصير من الانقلاب الفاشي. وقد تبع ذلك المزيد من عمليات تسريح العمال، وبالتأكيد عمليات التسريح المقبلة تلوح بالأفق. لقد تم إغلاق ورش الجيش النظامي. ونتيجة لذلك، أصبح 24 ألف عامل بلا لقمة عيش وتم دفعهم إلى شركات القطاع الخاص لاستغلالهم بلا قيود.
إنّ المقاومة بشغف ضد السياسة الاقتصادية الفاشية يأتي على وجّه التحديد من دوائر العمال الفاشيين المنظمين أنفسهم. ففي تورينو، وفي نابولي، وفي تريستا، وفي البندقية، وفي عدد كبير من المدن الأخرى، كانت النقابات الفاشية هي المبادرة في الانضمام إلى عمال جميع الأحزاب والمنظمات - بمن في ذلك العمال الشيوعيون والنقابيون - للاحتجاج في تظاهرة عامة كبيرة ضد إغلاق الورش وتسريح العمال. سافر عدة مئات من معاقي الحرب، الذين تم طردهم من ورش الجيش، من نابولي إلى روما للاحتجاج على الظلم الذي تعرضوا له. وكانوا يأملون في العدالة والحماية من موسوليني، وحصلوا على المكافأة على إيمانهم، على شكل اعتقال بمجرد نزولهم من القطار في روما. لقد بدأ عمال حوض بناء السفن في مونفالكوني، تريستا، وعمال العديد من الأماكن والصناعات التابعة للمنظمات الفاشية في التحرك. وفي أماكن منفردة، تم احتلال الشركات والمصانع مرة أخرى، من قبل العمال المنظمين الفاشيين تحديدا، وبتسامح كريم أو دعم من الأسراب.
تظهر هذه الحقائق أن الإفلاس الأيديولوجي سيتبعه إفلاس سياسي، وأن العمال، بشكل خاص، هم الذين سيعودون بسرعة إلى مصلحتهم الطبقية وواجبهم الطبقي.
 وعلينا أن نتوصل الى الكثير من الاستنتاجات. أولاً، لا ينبغي لنا أن ننظر إلى الفاشية باعتبارها ظاهرة موحدة، وليس باعتبارها "كتلة صخرية" سترتد عليها كل جهودنا. الفاشية هي بنية غامضة تضم عناصر مختلفة متعارضة، وبالتالي سوف تتحلل وتذوب من الداخل. يجب علينا أن نخوض النضال بأكبر قدر من الطاقة، ليس فقط من أجل أرواح البروليتاريين الذين سقطوا في الفاشية، ولكن أيضًا من أجل أرواح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، وصغار المزارعين والمثقفين، وباختصار، من جميع الفئات بسبب وضعهم الاقتصادي والاجتماعي في معارضة متزايدة للرأسمال الكبير اليوم، وبالتالي في صراع حاد ضده.
وسيكون خطرا استثنائيا للغاية افتراض أن الانهيار العسكري سوف يتبع بسرعة الانحدار الإيديولوجي والسياسي في إيطاليا. من المؤكد أن التفكك العسكري وانهيار الفاشية سيأتي، بل لا بد منه، ولكن من الممكن أن يتأخر لفترة طويلة تحت وطأة وسائل السلطة المتاحة. وبينما تنفصل البروليتاريا في إيطاليا عن الفاشية وتعود مرة أخرى إلى النضال الواعي والأقوى والأكيد من أجل مصالحها، وتخوض النضال الطبقي الثوري من أجل حريتها، يجب على الرفاق الإيطاليين، وعلى البروليتاريا ان تتوقع، أن الفاشية، المحتضرة أيديولوجياً وسياسياً، ستهاجمهم عسكرياً وإرهابياً، بأشد أشكال العنف، وبلا ضمير ولا رحمة. وعليهم ان يكونوا جاهزين! ويمكن للوحش، خلال سكرات الموت، توجيه ضربات مدمرة، ولهذا يجب على البروليتاريين الثوريين، والاشتراكيين الذين يسيرون معهم في طريق الصراع الطبقي، أن يكونوا جاهزين ومسلحين للمعارك الصعبة.
سيكون من الخطأ، ان يدفعنا الفهم التاريخي للفاشية (إمكانية تحللها – المترجم)، الى التقاعس والانتظار والتوقف عن الاستعداد والنضال ضدها. ومن المؤكد أن الفاشية محكوم عليها بالتحلل والتفكك من الداخل. ولا يمكنها أن تكون أداة للنضال الطبقي بالنسبة للبرجوازية، الا بشكل مؤقت، وتستطيع بشكل شرعي وغير شرعي ومؤقت أيضا، تعزيز سلطة الدولة البرجوازية ضد البروليتاريا. وسيكون من الكارثي جدا، إذا أردنا من موقع المتفرجين الاذكياء والجماليين، انتظار عملية تحللها. وبالعكس، من واجبنا ومهمتنا دفع هذه العملية إلى الأمام وتسريعها بكل الوسائل الممكنة.
وهذا ليس الواجب الخاص بالبروليتاريا في إيطاليا فقط، حيث من المحتمل أن تتم هذه العملية أولا، بل واجب البروليتاريا الألمانية بشكل خاص. إن الفاشية ظاهرة عالمية ـ ونحن جميعا متفقون على ذلك ـ وصلت على الأرجح ـ بعد إيطاليا ـ إلى موقعها الأقوى والأكثر صلابة في ألمانيا. وهنا ساهمت نتائج الحرب وفشل الثورة في تطورها. وهذا أمر مفهوم إذا بقينا واعين لماهية الجذور الحقيقية للفاشية.
في ألمانيا، تحطم الاقتصاد بشدة نتيجة للحرب الخاسرة وعبء التعويضات ومعاهدة فرساي. واهتزت الدولة من أسسها. ان الحكومة ضعيفة، بلا سلطة، وبيدق في أيدي عائلة ستينس (صناعي وسياسي الماني مهم – المترجم) وشركائه. لا يوجد في أي بلد، كما ارى على الأقل، تناقض كبير كما هو الحال في ألمانيا بين النضج الموضوعي للثورة وعدم النضج الذاتي للبروليتاريا نتيجة لخيانة القادة الإصلاحيين وفهمهم وسلوكهم.
إن الاحزاب الديمقراطية الاجتماعية، البريطاني والفرنسي والنمساوي وجميع المنظمات البروليتارية التي اتحدت في الأممية الثانية كانت لها مميزاتها، ويمكننا أن ندرك ذلك. لكن الحزب الرائد، الحزب النموذجي، كان الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني. ولذلك فإن فشله هو جريمة لا تغتفر وأكثر خزيا من فشل أي حزب عمالي آخر. وأي حزب آخر يمكن أن يعذر ويبرر أسباب إفلاسه عندما تندلع الحرب أكثر من الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني. كان لا بد أن تكون الضربة العكسية على الجماهير البروليتارية خصوصا، قوية وكارثية، ارتباطا بالتدمير العسكري للإمبريالية الألمانية على يد إمبريالية دول الوفاق، ولهذا كانت الشروط المسبقة مواتية جدا، لانطلاق الفاشية بقوة.
وعلى الرغم من كل هذا، فإنني على قناعة بأن صلح فرساي، واحتلال منطقة "الرور" وكل أعمال العنف التي رافقته، لم يشجع الفاشية في ألمانيا بنفس الطريقة التي حققها انقلاب موسوليني. لقد كان حافزًا قويًا للفاشيين الألمان أكثر من أي حدث آخر. ومنحهم الثقة بالنفس والثقة في الانتصار. إن التغلب على الفاشية في إيطاليا وانهيارها سيكون على الفور أكبر تثبيط للفاشية في ألمانيا وأكبر شحذ لهمم البروليتاريا. خاصة عندما تستطيع البروليتاريا أن تقول لنفسها: إن الفاشية في إيطاليا، التي انتصرت، والتي بلغت قوتها الكاملة مؤقتا، لم تعد موجودة، ليس فقط لانهيارها بفعل تناقضاتها الداخلية، لا، بل أيضا لأن اختفاءها المفاجئ، جاء بفضل العمل القوي والهادف للجماهير البروليتارية في إيطاليا. ومن شأن هذا الإدراك ان يتمتع بتأثير عالمي، مهما كان الوضع في كل بلد على انفراد.
إذا كان من واجبنا أن نسخر كل قوتنا عالميا للتغلب على الفاشية في إيطاليا، فيجب ألا ننسى أن التغلب الأكثر نجاحًا على الفاشية في الخارج يتطلب ان نناضل بكل قوتنا ونهزم الفاشية المنظمة في بلدنا بالكامل.
لقد عرضت تطور الفاشية في إيطاليا بمزيد من التفصيل، وإن لم يكن بشكل كامل، لأنها الأكثر نضجًا ووضوحًا واكتمالًا أمامنا. وسوف يكمل الرفاق الإيطاليون ملاحظاتي. أمتنع عن تقديم عرض للفاشية في البلدان الأخرى؛ وينبغي ان يترك ذلك لممثلي أحزابنا من هذه البلدان. إن القرار (العرض- المترجم) الذي قدمته يحدد مختلف الوسائل التي يجب أن نستخدمها والمهام التي يجب علينا القيام بها من أجل التغلب على الفاشية. لا أريد أن أخوض في تفاصيلها، أعتقد أنها أسست نفسها بنفسها، أريد فقط التأكيد على أنها تسير في اتجاهين. تهدف إحدى المجموعات من المهام إلى التغلب على الفاشية أيديولوجياً وسياسياً. وهذه المهمة لها أهمية كبيرة. ويتطلب الأمر، إلى حد ما، تغييرًا أو موقفًا أكثر دقة تجاه بعض الظواهر الاجتماعية المتأصلة في الفاشية، وكذلك أعلى مستوى من النشاط.
وعلينا أن نظل واعين، كما قلت في البداية، أن الفاشية هي حركة الجياع والمعوزين والمحرومين والمحبطين. يجب علينا أن نسعى جاهدين إما لدمج الفئات الاجتماعية التي تسقط الآن ضحية للفاشية في نضالنا أو على الأقل تحييدها نضاليا. ويجب علينا وبكل وضوح وقوة أن نمنعها من توفير فرق للثورة البرجوازية المضادة. وعندما لا نستطيع كسب هذه الفئات إلى حزبنا، أو مُثُلنا، أو جذبهم إلى صفوف الجيوش البروليتارية الثورية المقاتلة، يجب أن ننجح في تحييدهم، أو تنقيتهم، أو أية صياغة أخرى تريدون استخدامها. ويجب ألا نسمح لهم بعد الآن بتهديدنا، كمرتزقة للبرجوازية. إن الشروط الأساسية لنجاحنا تكمن في الظروف المعيشية التي يخلقها لهم الحكم البرجوازي الطبقي في هذه المرحلة من التطور التاريخي.
 أعلق أهمية قصوى على حقيقة أننا نخوض المعركة الأيديولوجية والسياسية، بكل عزم وثبات، من أجل أرواح أفراد هذه الفئات، بمن في ذلك المثقفون البرجوازيون. ويجب أن نكون واضحين، بعدم وجود شك في أن الجماهير المتزايدة تبحث، حاليا عن طريقة للخروج من المصاعب الرهيبة. ولا يتعلق الامر بملء المعدة فقط، ان أفضل عناصرهم يبحثون عن طريقة للخروج من الضيق الروحي العميق. إنهم يرغبون في آمال جديدة راسخة، ومُثُل جديدة لا تتزعزع، ورؤية للعالم يمكنهم على أساسها فهم الطبيعة والمجتمع وحياتهم الخاصة، رؤية للعالم ليست عقيمة، ولكن لها تأثير خلاق وبناء. ويجب ألا ننسى أن أكوام العنف الفاشي لا تتكون حصرا من وحوش الحرب، ومن المرتزقة الذين يستمتعون بطبيعتهم بالرعب، ومن حثالة المرتزقة رخيصة الثمن، بل نجد فيها أيضًا العناصر الأكثر نشاطًا وقدرة على التطوير في أوساط معنية. وعلينا أن نعمل بينهم بكل جدية وتفهم لوضعهم وشوقهم المتقد، وأن نبين لهم أن الطريق بالنسبة لهم لا يسير الى الوراء، بل إلى الأمام، إلى الشيوعية. وإن اتساع الشيوعية كرؤية عالمية سيجعلنا نكسب تعاطفهم.
ان الأممية الثالثة، وعلى نقيض الأممية الثانية، ليست أممية لنخبة البروليتاريين البيض في أوروبا وأمريكا فقط، بل هي أممية المستغَلين من جميع الأجناس. لذا يجب على الحزب الشيوعي في كل بلد ألا يكون نصير العمال الأجراء بالمعنى الضيق للكلمة فقط، وليس فقط نصير مصالح بروليتاريا العمل اليدوي فقط، بل أيضا نصير عمال العقول، وقائد عمال. جميع الفئات الاجتماعية، التي من خلال مصالحها الحيوية، والتي، من خلال شوقها للارتقاء إلى الثقافة المتطورة، تصبح في معارضة بشكل متزايد للنظام الرأسمالي. ولذلك فإنني أرحب ترحيبا حارا بحقيقة أن مؤتمرنا قرر خوض النضال من أجل حكومة العمال والفلاحين. هذا الشعار الجديد ليس ضروريا للبلدان ذات الأغلبية الزراعية في البلقان فقط، مثل بلغاريا ورومانيا وغيرهما، بل أيضا ذو أهمية كبيرة لإيطاليا وفرنسا وألمانيا وخاصة بالنسبة لأمريكا. ويكاد يكون ذلك ضرورة في النضال من أجل هزيمة الفاشية. انه يعني الذهاب الى أوسع قطاعات المستغلين من الفلاحين والعمال الزراعيين وايصال الأخبار الجيدة عن الشيوعية المنقذة لهم. إنه يعني أن نُظهر لجميع الفئات الاجتماعية التي تجند فيها الفاشية أتباعا جماهيريين، أننا ـ نحن الشيوعيين ـ نشطون جدا في الدفاع عن مصالحهم، وفي النضال ضد سلطة البرجوازية الطبقية.
وعلينا أن نفعل شيئا آخر. يجب ألا نقتصر على النضال مع الجماهير ومن أجل الجماهير، من أجل برنامجنا السياسي والاقتصادي فقط. من المؤكد أن المطالب السياسية والاقتصادية تفرض أولويتها. لكن كيف يمكننا أن نقدم للجماهير أكثر من مجرد الدفاع عن خبزها؟ يجب علينا، في الوقت نفسه، أن نقدم لهم المحتوى الداخلي النبيل للشيوعية بأكملها، باعتبارها رؤية عالمية. وإذا تحقق ذلك، فإن حركتنا سوف تتجذر في جميع الفئات الاجتماعية، وخاصة بين المثقفين البرجوازيين الذين، نتيجة للتطور التاريخي في السنوات القليلة الماضية، أصبحوا غير مستقرين في تفكيرهم ورغباتهم، الذين فقدوا النظرة القديمة للعالم، دون ان يعثروا، في هذا الزمن العاصف، على رؤية جديدة وقوية للعالم. دعونا لا ندع الباحثين يتحولون الى تائهين.
وعندما أقول بمعنى هذا التسلسل الفكري: "اذهبوا إلى الجماهير!"، فإنني أؤكد على شرط النجاح الأساسي. يجب ألا ننسى كلمات غوته: "الجبنة المداسة تصبح مسطحة وليس قوية". علينا أن نحافظ على أيديولوجيتنا الشيوعية قوية جدًا، واضحة جدًا. وكلما تواصلنا مع الجماهير، كلما زادت ضرورة أن يكون الحزب الشيوعي وحدة متماسكة تنظيميا وأيديولوجيا. يجب ألا نسكب أنفسنا على الجماهير مثل قناديل البحر. إن هذا من شأنه أن يؤدي إلى الانتهازية الأكثر ضررا، وسوف نعاني أيضا من الإفلاس المشين لجهودنا في مواجهة معاناة الجماهير. منذ اللحظة التي نتخلى فيها عن وجودنا الحقيقي كحزب عبر تقديم التنازلات لـ "تدني وعي الجماهير"، الجديدة منها والقديمة - فإننا نفقد الأهم والأكثر ارتباطا للباحثين عنه: شعلة حياة تاريخية جديدة تشرق وتدفئ وتعطي الأمل والقوة النضالية.
والأمر الضروري هو أن نكيف أساليبنا في التحريض والدعاية، وكذلك أديباتنا، وفقا للمهام الجديدة. إذا لم يصل الجبل إلى محمد، فليس أمام محمد خيار سوى الذهاب إلى الجبل. إذا لم تأت إلينا الجماهير الجديدة التي نحتاج لتعبئتها، فيجب علينا أن نبحث عنها ونتحدث إليها بلغة تتوافق مع وضعها، دون ان نتخلى قيد أنملة عن رؤيتنا الشيوعية. نحن بحاجة إلى أدبيات خاصة للتحريض بين المزارعين، نحتاج إلى أدبيات خاصة لموظفي الخدمة المدنية والموظفين والبرجوازيين الصغار والمتوسطين من جميع الأنواع، ومرة أخرى أدبيات خاصة للعمل بين المثقفين. دعونا لا نقلل من الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقفون ليس فقط خلال الثورة، بل أيضا بعدها. ولنتأمل هنا أعمال التخريب المدمرة للغاية التي تعرض لها المثقفون في روسيا بعد ثورة أكتوبر. نريد أن نتعلم من تجارب إخواننا الروس. لذلك، يجب أن نكون واضحين أنه ليس سواسية، سواء في لحظة الثورة أم بعدها، ان يقف المثقفون معنا أو ضدنا.
إن النضال ضد الفاشية يفرض علينا عددا غير عادٍ من المهام الجديدة. ومن واجب كل فرع من فروع الأممية الشيوعية أن يتولى وينفذ هذه المهام وفقا لظروف بلده الخاصة.
يجب أن نبقى مدركين أن التغلب الأيديولوجي والسياسي على الفاشية وحده لا يكفي لحماية البروليتاريا المناضلة من عنف وغدر هذا العدو. تواجه البروليتاريا حاليا الفاشية تحت ضغط الدفاع عن النفس. ولا ينبغي لها إهمال حماية نفسها ضد الإرهاب الفاشي ولو لدقيقة واحدة. إن الأمر يتعلق بحياة البروليتاريين وحضورهم الجسدي، وبوجود منظماتهم. إن الحماية الذاتية للبروليتاريين هي قضية الساعة. ولا ينبغي لنا أن نكافح الفاشية على غرار ما فعله الإصلاحيون في إيطاليا، الذين توسلوها: "لا تؤذيني، لا أؤذيك أيضاً!" لا! العنف بالعنف! ليس العنف باعتباره إرهابًا فرديًا، فهذا مصيره الفشل، لكن سلطة النضال البروليتاري الطبقي الثوري المنظم هي المطلوبة.
لقد بدأنا الحماية الذاتية المنظمة للبروليتاريا ضد الفاشية في ألمانيا بتنظيم المئات في المصانع، وقد تم التوسع في تنظيم هذه المئات ومحاكاتها في بلدان أخرى، فسيتحقق التغلب الأممي على الفاشية. إن نضال البروليتاريا والحماية الذاتية ضد الفاشية يعني: جبهة بروليتارية موحدة.
إن الحماية الذاتية للبروليتاريا ضد الفاشية هي إحدى أقوى القوى الدافعة التي يجب أن تؤدي إلى توحيد وتقوية الجبهة البروليتارية الموحدة. بدون جبهة موحدة، من المستحيل أن تتمكن البروليتاريا من الدفاع عن نفسها بنجاح. لذلك من الضروري توسيع وتعميق تحريضنا في المصانع. قبل كل شيء، يجب عليها التغلب على اللامبالاة، ونقص الوعي الطبقي والتضامن في نفوس العمال الذين يعتقدون: "يمكن للآخرين أن يقاتلوا ويتحركوا، ولا يتوقف الامر عليّ".
يجب علينا أن نغرس في داخل كل بروليتاري هذه القناعة: ان الأمر يتوقف عليّ أيضا. ولا يتحقق الأمر بدوني. يجب ان أكون مساهما. وأن النصر يلوح لي. يجب على كلّ بروليتاري أن يشعر بأنه أكثر من مجرد عبد للأجور، تلعب معه سحب ورياح رأسمالية القوى المهيمنة. ويجب أن يشعر وان يكون واضحا بالنسبة له، أنه عضو في الطبقة الثورية التي تطرق دولة المالكين القديمة، لتحولها الى دولة نظام المجالس (السوفيتات). إذا أشعلنا الوعي الطبقي الثوري لدى كل عامل ونفخناه في شعلة الإرادة الطبقية فقط، سوف ننجح عسكريا أيضا في إعداد وتنفيذ التغلب الضروري على الفاشية.
إن هجوم رأس المال العالمي ضد البروليتاريا العالمية، الذي عززته الفاشية، قد يكون وحشيًا وعنيفًا ومؤقتًا، لكن البروليتاريا سترد في النهاية. مع الاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية وسلطة البرجوازية الطبقية، وعلى الرغم من فاشية "ماثي" في النهاية، فان التمزق والتفكك الفاشيين للمجتمع البرجوازي يحدثانا بصوت عالٍ وبقوة عن النصر المستقبلي عندما تناضل البروليتاريا بعلم وارادة في جبهة موحدة. يجب ان يرتفع الحضور العملاق للبروليتاريا فوق فوضى الظروف الراهنة صارخا: أنا الإرادة! أنا القوة! أنا النضال، النصر! والمستقبل ملكي!
تصفيق عاصف ومستمر. المجتمعون ينهضون وينشدون الأممية.
1 – هوندسفوت – غرونر، نسبة الى فيلهلم غرونر (1867-1939)، جنرال، نائب وزير الحرب عام 1916 ورئيس مكتب الحرب في بروسيا. مؤلف "قانون الخدمات المساعدة". وفي أبريل 1917، أصدر دعوة لقمع حركة الإضرابات، حيث أهان كل مضرب ووصفه بـ "الكلب". في جمهورية فايمار كان مسؤولاً عن "لوائح مدة الخدمة" الصادرة في 5 آب 1922، والتي حالت دون تطبيق نظام عمل 48 ساعة في الأسبوع في مؤسسة سكك حديد الرايخ في جمهورية فايمر. تولى العديد من الوزرات حتى عام 1932.