أيار 18
 مع صدور هذا العدد (428)، يكون العراقيون قد طووا، منذ أيام، آخر صفحات السنة الماضية (2021). وها هم يشرعون فعلا، في المساهمة بكتابة أولى صفحات العام الجديد. يحدوهم الأمل من صميم قلوبهم، ان يكون هذا العام، بعكس سابقاته، عامَ خير ومسرات وتفاؤل. ولأن قطاعات واسعة منهم تدرك انها ستساهم في صناعة عامها الجديد، فإن المساهمة هذه لا تأتي على هواهم، بل في ظل ظروف واجواء وملابسات معاطاة لهم، ولا يختارونها بأنفسهم. وان هذه الارضية يمكن تلمس بعض من معالمها الكبرى على أفضل وجه في احداث ووقائع السنة الماضية؛ بغية الاستفادة من دروسها وتجاربها، خصوصا وان قسما كبيرا منها يعكس مدى تطور مساهمة جميع الأطراف في انتاجها.
إنّ أحد اهم معالم السنة المنصرمة، يتمثل بالتدهور المتفاقم للأحوال المعيشية للناس، وازدياد معدلات البطالة والفقر والتهميش، وارتفاع معدلات التضخم ما تسبب في ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وما تركته من آثار مدمرة. وقد طالت المظالم هذه المرّة فئات وشرائح اجتماعية جديدة. وغدت هذه حقيقة واضحة، ولا تحتاج الى احصائيات رسمية او دولية لإعلانها، ولا ينكرها إلا “رجالات السلطة” ومدّاحيها. وقد جاء هذا التدهور الاقتصادي المتسارع في جزء غير قليل منه، محصلة للإجراءات الاقتصادية “الإصلاحية” التقشفية التي تمت صياغة بعضها في “الورقة البيضاء”، والتي استهلت اولى خطواتها بعملية خفض قيمة الدينار مقابل الدولار.
ولا يمكن إدراك عظم الكارثة المجتمعية في سنة 2021 الا بإضافة واقع المؤسسات الصحية والتعليمية. فقد مثلت حرائق المستشفيات الحكومية، التي راح ضحيتها عشرات العراقيين، أكبر مآسيها، حيث اكدت هذه الكوارث، استمرار انهيار القطاع الصحي في العراق، والإهمال وسوء أوضاع مؤسساته وهشاشة الخدمات التي تقدمها، وتقادم بناها التحتية. يضاف الى ذلك استمرار سوء إدارة ملف أزمة وباء كورونا. أما التعليم فمأساة أخرى. فلا شيء يكافئ الانتشار المتسارع للأميّة إلا الزحف المتعاظم للأمية “المقنّعة” بمختلف اشكالها بين غالبية الفئات المتعلمة. وفي الوقت الذي ما زال قانون أسس معادلة الشهادات سيئ الصيت الذي اقره البرلمان السابق يثير حفيظة ورفض المختصين والأكاديميين لما سيتسبب به من تدهور إضافي في المنظومة التعليمية؛ جاءت فضيحة شراء آلاف الشهادات الجامعية من بعض الجامعات اللبنانية، والتي تورط فيها العديد من الشخصيات البارزة من وزراء وأعضاء مجلس النواب ومسؤولين في مناصب رسمية حساسة. والمصيبة الأكبر ان ردود الفعل الرسمية حول هذه الفضيحة اتسمت، كالعادة، باللامبالاة وبالبرودة. كما ان الإجراءات التي اتخذت كانت خجولة ودون المستوى المطلوب، غالباً، بسبب “الرموز” المتورطة.
بالإضافة الى ذلك، كانت الحيثيات والظروف التي تسببت في انحسار او خفوت الحركة الاحتجاجية والمطلبية في عموم البلاد، والتي بلغت اقصاها في انتفاضة تشرين، واحدة من أبرز معالم السنة الماضية أيضا. على الرغم من ان الأسباب والظروف والعوامل التي تسببت بها ما زالت قائمة، بل وحتى في تفاقم مستمر. ومن معالمها أيضا، اجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة، وما رافقها من ملابسات أخّرت مصادقة المحكمة الاتحادية على نتائجها لما يقارب ثلاثة أشهر تقريبا، ما أدى الى تأخر عقد الجلسة الأولى لمجلس النواب الجديد.
وبعيدا عن الدخول في تفاصيل الاحداث السياسية، من حيثيات ونتائج العملية الانتخابية، ودون التركيز على اسباب انحسار موجات الحركة الاحتجاجية، وخبو صوتها - فكلاهما بكل وقائعهما مجرد تمظهرات ملموسة للازمة المركبة التي تمر بها البلاد؛ فإنه يمكن ايجاز المحصلة الفعلية للسنة الماضية بالتالي: ان الصراعات متعددة المستويات على شكل ومضمون عملية التحول “الديمقراطي” في العراق دخلت في السنة الفائتة مرحلة جديدة. فمن جهة تعمقَ الفرز والتمايز داخل قوى المحاصصة الطائفية/ الاثنية السياسية، وبينها وبين بعض حواملها الاجتماعية الطبقية من جهة أخرى. تلك القوى التي تسعى الى تأبيد “ديمقراطية” شكلية ومكوناتية، تستطيع بواسطتها تأمين سلطتها وسيادتها ونفوذها ونظام امتيازاتها. غير أن هذا الفرز والتمايز، بغض النظر عن ارتفاع مستوى صراع الخطابات والزعيق السياسي، لم يصل الى درجة التفكك السياسي والاجتماعي. وقد ترافق هذا الفرز مع تنامي عزلة هذه القوى السياسية. وتمظهرت أبرز تجليات هذه العزلة في الانتخابات الأخيرة، متمثلة بمستوى التصويت المتدني لصالح هذه القوى والذي جاء مترافقا مع مقاطعة سياسية ومجتمعية واسعة وعزوف كبير عن المشاركة في الانتخابات. بل وحتى لامبالاة شعبية تجاه نتائج ومآلات الانتخابات.
ومن جهة أخرى، لما كانت الازمة لا تعني عدم استطاعة القوى المهيمنة في المنظومة/ “القديم المحتضر” على إعادة انتاج بنيتها وهياكلها الناظمة بنفس الصياغات السابقة فحسب، وبذات القدرة والكفاءة، وإنما تعني أيضا وبذات الوقت عدم قدرة القوى السياسية والاجتماعية المضادة على إنضاج البديل المطلوب، فـ”الجديد لم يولد بعد”. ان هذه القوى الأخيرة سواء كانت قديمة ام ناشئة، وان كانت قد أدركت، بناء على فهمها لدروس الحراك الاحتجاجي والمطلبي عموما ودروس انتفاضة تشرين على وجه الخصوص، ان التغيير الشامل هو الوسيلة والغاية، وان زمن الإصلاح والحلول الترقيعية قد ولى بغير رجعة، فإنها لم تتمكن في السنة المنصرمة من التقاط اللحظة السياسية التاريخية. فما زالت قواها مبعثرة، بل وحتى متصارعة أحيانا، وخطابها السياسي غير واضح، بل ان علاقاتها السياسية مع بعضها البعض ومع الآخرين غير ناضجة.
مع كل ما قيل، فقد وفّرت السنة التي انقضت والسنوات التي سبقتها المساحات الرحبة للعراقيين لكي يساهموا في بناء غد أفضل لهم ولعوائلهم ولبلدهم، بدءا من العام المقبل. وعبّدت دروس وخبرات انتفاضة تشرين والنضالات الاحتجاجية الأخرى الطرق، وفتحت الابواب على مصراعيها امام تنوع اشكال النضال من اجل انجاز التغيير الشامل. وكان اهم الدروس التي استنبطها العراقيون منها ان المساهمة في صناعة الغد لا تأتي ابدا دون صراع مع المضطهدِين، بغية تغيير معادلة السلطة نهائيا لصالحهم. ومع استحالة التشبث بالآليات والأساليب القديمة، فإن المُلح والآني في هذا العام، امام القوى المدنية والديمقراطية، سياسية كانت ام اجتماعية، هو لملمة قدراتها المشتركة وجمع شتات قواها وتوحيد جهودها، بغية تشكيل الضد المكافئ لقوى المحاصصة، وكي لا تضيع اللحظة التاريخية مرة أخرى. وان تعمل معا على تحديد أهدافها بوضوح وعلى تقريب وسائل وطرق نضالها، وان تسعى جاهدة الى توحيد خطابها السياسي والتعبوي، متوجهة دائما وبقوة نحو الارتقاء بالفكر النضالي، ونحو خلق وعي جماهيري وطني ديمقراطي، وطبقي في ذات الوقت.  
ان النضال طريق وعر، مليء بالآلام والأمنيات، بالفرح والانتصارات، وأيضا بالتضحيات والانكسارات أحيانا. والتغيير، أي تغيير كان ومهما كانت سعته ومدياته هو عملية قلقة بطبيعتها، فكيف إذا كان يراد له ان يكون تغييرا شاملا!
ولأن الشعب العراقي لم يفقد ابدا لذة العيش ولم تدب في جسده الشيخوخة، لذلك فهو ما زال لا يخشى السير في طريق النضال الصعب، متسلحا بإرادة الحياة ... وسينتصر حتماً!