أيار 04
من الجلي ان الأزمة العراقية وصلت منعطفاً حاداً، وبلغت مستويات حرجة ومتصاعدة باستمرار خلال الأشهر الأخيرة. وقد امتازت هذه المرة بالعديد من السمات، التي قد تُصعّب من محاولات التنبؤ بمساراتها اللاحقة بدقة ووضوح. ناهيك عن التكهن بسيناريوهاتها، والمآلات والأبعاد المحتملة لهذه المسارات والسيناريوهات. خصوصا وان الإمكانيات المفتوحة امامها متعددة، وبعضها شديد الخطورة. ان صعوبة توقع ما ستؤول إليه الاحداث يعود بالدرجة الأساس الى ان الصراع السياسي الأبرز، يحجب الى حد بعيد الطبيعة المعقدة للمضامين الاجتماعية الناظمة والموجهة له ولغيره من التناقضات. وما يرافقها من تغيير شبه دائم في موازين القوى السياسية والاجتماعية. وأحد أبرز اشكال هذا التغيير هو التفكك وإعادة التشكل المستمرين داخل كتل وقوى المحاصصة التقليدية.
*****
الأزمة السياسية الحالية او ما يطلق عليها بـ”الانسداد السياسي”، هي تجلٍّ جديد شديد الخطورة للأزمة البنيوية العامة للبلاد. انها ازمة اخرى في مسار نهج المحاصصة الذي دشن بعد عام 2003. ولأن المجال لا يتسع هنا بالخوض في تفاصيل السياق التاريخي الملموس الذي افضى الى الوضع الحالي، ولا في موازين القوى السياسية والاجتماعية التي نتجت بعد انتفاضة تشرين، والتي اعيدت بلورتها بصورة أوضح بعد انتخابات تشرين الأول 2021، فإننا نستطيع ان نركز على الحصيلة بشيء من الاختزال: الازمة السياسية في العراق هي “ازمة سلطة... ازمة نظام”. إنها عبارة عن مأزق شرعي وسياسي، يدلل بوضوح على ضعف هيمنة وسيطرة القوى السياسية الحاكمة، وعدم قدرتها على إعادة انتاج سلطتها وهيمنتها. ويدلل أيضا على عدم قدرة أي جناح من اجنحتها المتصارعة على حسم الصراع لصالحه بصورة نهائية.
فمن جهة، خسرت قوى المحاصصة الطائفية والقومية الدعم الشعبي والجماهيري الى حد كبير. وهذا ما أشّرته بوضوح الموجات الاحتجاجية التي عمّت العراق. وكذلك النسب الضعيفة في المشاركة في الانتخابات. والنتائج الخجولة التي تحصلت عليها قوى المحاصصة التقليدية دليل ناصع على ذلك. وهذا يؤكد انها فقدت الدور “العُرفي” والسياسي لتمثيل “المكون”. خصوصا إذا اضفنا الى كل ذلك الانشقاقات المستمرة داخل الكتل والقوى السياسية، التي تحدث، غالبا، في صراعها على المغانم والنفوذ تحت يافطة الدفاع عن حقوق المكون، او في تنازعها على تمثيله.
من جهة أخرى، فقدت القوى السياسية المتنفذة قدرتها على الهيمنة. وذلك لأن قطاعات غير قليلة من الجماهير تحررت الى حد كبير من وعيها الزائف بأيديولوجياتها التقليدية: “المكون والتوازن والطائفية والاثنية...”. ومن جهة ثالثة، وأخيرة، ان اتكاء قوى المحاصصة، بعد ان فقدت شرعيتها الأيديولوجية والسياسية والتمثيلية، على العنف والاكراه السافرين يعد واحدا من أبرز مؤشرات الضعف الذي وصلت إليه. وقد كان القمع السافر الذي تعرضت انتفاضة تشرين أحد أبرز صولاته.
بالتأكيد، لا يمكن اختزال الصراعات الدائرة بين القوى السياسية الحاكمة على انه مجرد تنافس على السلطة من داخل السلطة، من اجل الاستئثار بها وبمراكز النفوذ والثروة. وذلك بسبب التمايز الواضح في المحتوى الاجتماعي لكلّ منها. ولكنه مع ذلك يعد مؤشرا واضحا على تصدع غير قابل للإصلاح داخل القوى السياسية الحاكمة منذ 2003، وبيّنة جلية على تهافت أيديولوجيات المحاصصة الطائفية الإثنية. ان واحدة من أبرز دلالات السعي الى حسم الصراع السياسي الحالي في الساحات، هي ان الآليات الدستورية والشرعية، والاطر الأخرى التي تم التعارف عليها سابقا لحل المشاكل أصبحت غير مجدية، وصارت كلها أضيق من ان تضم المتنافسين بين جنباتها.   
*****
إن الأزمة العراقية ما كانت ولم تكن أبدا أحادية الجانب. فلا يمكن فهمها بشموليتها دون فهم جانبها الآخر، دون الإحاطة بعنصرها النقيض: قوى التغيير، وما هو مستوى التطور الذي وصلت إليه، بتشكيلاتها السياسية ومضامينها الاجتماعية؟! فإذا كان القديم يتداعى ويحتضر، فإن ولادة الجديد ما زالت متعسرة لجملة عوامل ذاتية وموضوعية. وفي ظل هذا المأزق التاريخي ستبقى الإمكانيات مفتوحة. وإحدى هذه الإمكانيات هي التغيير الشامل نحو دولة مدنية ديمقراطية عصرية وعدالة اجتماعية. فلا يكفي لإحداث التغيير ان يعجز من هم في السلطة عن الحكم والقيادة حسب الطريقة القديمة، ولا ان يرفض من هم في الأسفل مواصلة العيش كما كانوا في الماضي. فهذه وان كانت شروطا جوهرية للتغيير، لكنها لا تعني بالضرورة أن الوضع أصبح جاهزا لإحداث التغيير. فهذا الأخير يتطلب كي يتحقق نضوج أسبابه الجوهرية. والجوهري هنا هو الممارسة البشرية، وتموضعها الفعال والملموس في عملية التغيير.
وفي النهاية، دون ان نكون متفائلين بتطرف، او متشائمين بإسراف، نشير الى الواقعة الاتية: أصبحت الأزمة العراقية بكل المقاييس أزمة وجود، أزمة “نكون أو لا نكون”؛ وصار بقاء الحال كما كان في السابق، أمراً صعباً، بل وحتى مستحيلاً! إن إمكانية التغيير الشامل لم تطوَ ولن تطوى بعد الآن. بل بالعكس تماماً، انها تفصح عن نفسها بقوة أكثر فأكثر. لكن، إذا لم يكن في وسع قواها الحقيقية ان تدفع باتجاه الانتصار على نظام المحاصصة بعد، وإذا كان الاخير قد يخرج محتفظاً بشيء من صلابته الظاهرة، فإنه بكل تأكيد سيكون أقل ثقة بنفسه، لأن مناعته أصبحت ضربا من ضروب الوهم. ربما سيبقى هذا النظام قادراً على القيام ببعض التسويات والمناورات، لكن الأكيد انه ما عاد يمتلك القدرة على حسم الصراع لصالحه، وان اقصى أمانيه هو تأجيل لحظة الانهيار فقط. وستقول الجماهير كلمتها في نهاية المطاف.