أيار 18
 شيئاً فشيئاً صار الاحتباس الحراري قضية مفروغا منها الى حد كبير، سواء على المستوى الرسمي، ام الشعبي. فهي لم تعد جدلا أكاديميا محصورا بين العلماء والمختصين، ومعهم بعض المهتمين بقضايا البيئة. يتناقشون في ما بينهم في مسائل ثقوب الأوزون وارتفاع مستوى ثاني أوكسيد الكاربون في الغلاف الجوي. او يتباحثون في مواضيع التغيّر المناخي وأثره في ذوبان جليد الأقطاب، وارتفاع مستوى المحيطات والبحار، وهم قلقون من التقاعس في مجابهة الخطر المحدق. بل صارت ازمة المناخ حقيقة جلية وواقعا معاشا بالنسبة للبشرية، او غالبيتها على اقل تقدير. فموجات الحر المستمرة، وحرائق الغابات المتكررة، والجفاف والفيضانات وغيرها الكثير أثبتت بما لا يقبل الشك ما كان سابقا يعد ترفا علميا. بل ان دراسات حديثة أشرت بكل وضوح الى المستقبل القاسي والخطر الذي ينتظر البشرية ان هي لم تتدارك الامر. وفي اعتراف واضح وصريح بمسؤولية البشرية عن انبعاث الجزء الاكبر من الغازات الدفيئة، التي تتسبب بالتغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة، تتضافر منذ سنوات العديد من التدابير والجهود الدولية في مجال ما بات يعرف بـ”سياسات المناخ”.
اما بخصوص العراق، فالواقع اشد قسوة، والمفارقة أكثر غرابة. فإضافة الى الازمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والامنية التي يئن تحت وطأتها العراقيون، تأتي أزمة المناخ القاسية لتضيف وبالا آخراً على رؤوسهم. ففي هذه السنة، وقبل وصول أولى موجات حر صيفهم الطويل القاتلة، التي تعايشوا معها سنينا طويلة، جاءت مشاهد العواصف الترابية المتكررة، بسحبها الملونة الفوارة وهي تحتل سماءهم ثم تصب جام غضبها عليهم، فتغشي عيونهم وتحجب رؤياها، ولتغطي رمالها بيوتهم واثاث منازلهم وسياراتهم وتخنق انفاسهم وحياتهم.
وبهذا الخصوص، تشير العديد من الدراسات الى ان العراق سيكون من بين البلدان الخمسة الأكثر عرضة لتغير المناخ وبالتالي لانحسار الغطاء النباتي. فدرجات الحرارة في ارتفاع متزايد، كما وتراكمت حدة الجفاف في السنوات الاخيرة بسبب قلة الامطار وانخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات وتلاشي واختفاء البحيرات والمسطحات المائية. وبالتالي أصبح العراق من أكثر البلدان تصحرا وتدهورا في خصوبة أراضيه، فالعراق يفقد سنويا 100 ألف دونم من أراضيه الزراعية، والصحاري تشكل الان ما يقارب 39 % من مساحته، وهي في تزايد مستمر. وهذا يعني انه خلال عقود أو حتى أعوام من الان سيرتفع عدد أيام العواصف الترابية والرمال، لتغطي كل غالبية أيام السنة، كما تذكر بعض التوقعات الرسمية. كما ان معدلات درجات الحرارة ستستمر في الصعود.
وهنا نأتي الى وجه المفارقة الغريب. في مقابل واقع العراق المأساوي هذا، وفي مقابل مستقبله الكابوسي المتوقع، يبرز بوضوح لافت ضعف وضآلة الدور الحكومي والرسمي في التعامل مع هذه المخاطر والتحديات. بالتأكيد عند الحديث عن ضعف الإجراءات الحكومية في مكافحة التغير المناخي والتصحر، لا يقصد نهائيا ارتفاع درجات الحرارة وقلة الامطار، فهذه “امورٌ قدرية”. وهي ربما تحتاج، كما صرح أحد المسؤولين المعنيين بشؤون الغابات والبستنة، الى الدعاء والاستغفار والاستسقاء. لكن ماذا بالنسبة لجهود الحكومات والمؤسسات المتخصصة لضمان حصة عادلة ومنصفة من الإيرادات المائية لنهري دجلة والفرات بعد انخفاضها الهائل الذي تسببت فيه السياسات المائية لدول الجوار؟! بهذا الصدد، يبدو اننا خسرنا حرب المياه - وهي حرب بكل ما في كلمة حرب من معنى - مع دول الجوار. انها حرب أخرى نخسرها، ولكن دون ان ندخلها حتى، بل دون ان تبدأ. يبدو ان أسهل طريقة لمعالجة شحة المياه عند الحكومة هي تخفيض الخطة الزراعية، وليذهب الفلاحون الى الجحيم. والجحيم هو ان يغيروا أنماط حياتهم، وان يعيشوا في عشوائيات أطراف المدن والعاصمة ومراكز المحافظات، التي ينزحون اليها باستمرار.   
وماذا بالنسبة لما كشفت عنه وزارة الزراعة منذ مدة، من ان العراق يحتاج الى أكثر من 15 مليون شجرة لتشكل احزمة خضراء تقف في وجه زحف الكثبان الرملية، وتخفف من حدة العواصف الرملية؟!  هل جرى الشروع بتنفيذ حملات للتشجير ومشاريع تثبيت الكثبان الرملية، ومن يتابعها والى اين وصلت؟! وماذا بالنسبة لتصريح وزارة البيئة التي اعتبرت غالبية حملات التشجير الجارية في البلاد غير مجدية بذلك لأنها لم تتم بأشجار مستدامة؟!
عند امعان النظر في إجراءات الحكومات العراقية المخجلة لمجابهة التصحر والتغيّر المناخي، وعند مراقبة البؤس والفقر والتهميش، بأكثر صورهم مدعاة للفزع والسخط، وهم يزدادون اتساعا وعمقا، وعند متابعة الازمات وهي تطحن العراقيين تحت رحاها، عند كل ذلك وغيره الكثير تبرز امامنا حقيقة واحدة عارية. قد يجوز لنا التعبير عنها بجملة واحدة صارخة، جملة قد تبدو مضللة بصراحتها للوهلة الاولى، ولكنها كأي حقيقة أخرى، صادمة وقد تغشي العين بقساوتها: ان الحل لمشاكل العراق أوله ومنتهاه هو مسألة “السلطة”؛ فبدون تغيير حقيقي شامل يتضمن إزالة المنظومة السياسية الحالية بنهجها وفكرها، بشخوصها ورموزها، لا يمكن الشروع اصلا ببناء غد أفضل. فأحلام العراقيين وهمهم الاكبر، بعد ان استمدوا وضوح رؤيتهم من مرارات السنوات الماضية، ومن الخذلان، والاهم من تجاربهم النضالية لن تكون في قادم الأيام أقل من مسألة السلطة.
وإذ نحتفل مع العراقيين بذكرى ثورة تموز 1958، فإننا نستلهم وإياهم دروسها جميعا، بنجاحاتها واخفاقاتها، دروس تمتد منذ ان غُرست بذورها الاولى عام الوثبة 1948 الى ان انتكست عام 1963. فالاستناد على الأجنبي دفع الى الثورة، ومجابهة الشعب المتظاهر الأعزل بالسلاح قاد الى الثورة، واغلاق الطريق امام المشاركة الديمقراطية الحقيقية أدى الى الثورة، كما ان التفرد والتفرق والصراع كانت من أسباب نكستها.