أيار 04
 
ما أنْ يصدر هذا العدد ليكون بين يدي قرّائه، سيكون قد انقضى ما يقارب خمسة أشهر على نيل حكومة السيد السوداني ثقة مجلس النواب. فانطلاقا من نص الدستور، تشرع الحكومة في تأدية مهامها الرسمية، منذ لحظة تصويت مجلس النواب على وزرائها، وعلى المنهاج الوزاري. وهذه المدة، على الرغم من قصرها النسبي، لكنها برأينا كافية ليشرع المختصون والباحثون والسياسيون في عملية تقويم أولي لأدائها والحكم عليها. بل وحتى تحديد الخطوط العريضة لما سيؤول إليه الوضع لاحقا.
وعلى الرغم من الملاحظات الجدية على عدد غير قليل من الوزراء، فإننا نرى، بغية الابتعاد عن الشخصنة، أن أي حكم وتقويم للحكومة يجب ان ينطلق من المنهاج الحكومي وفاعلية الحكومة في انفاذه. وكذلك من المسؤولية التضامنية التي يتحملها معا رئيس مجلس الوزراء والوزراء في أداء الحكومة لمهامها وايفائها لتعهداتها، وإنْ كان الأول يتحمل المسؤولية الأكبر بحسب بنود الدستور.
المنهاج الحكومي.. رؤية شعبوية
من المفترض ان يكون المنهاج الحكومي المُعبر الاساسي عن شخصية الحكومة. فهو يمثل رؤيتها الاستراتيجية، ومخططا عاما تضع على أساسه الوزارات برامجها وخططها للمرحلة اللاحقة من عمرها، وبالتالي الوثيقة الأرأس في تقويم أداءها. وبالفعل كان منهاج حكومة السيد السوداني انعكاسا حقيقيا لشخصيتها.
وهنا يجب أن نعترف أن هناك العديد من المحاور والقضايا المهمة والقطاعات الخدمية الاساسية في حياة المواطنين، اخذت لها موقعا بارزا في المنهاج الوزاري لحكومة السيد السوداني. لكن يبدو ان رؤية الحكومة الجديدة، لإيجاد حلول لهذه القضايا والاشكاليات، او لتطوير القطاعات الخدمية قاصرة ويشوبها خللٌ كبير. فالعموميات ملمح واضح يشوب الكثير من فقرات المنهاج. حيث صيغت الفقرات بإطلاق وعمومية عالية، والخطوات التي "ألزمت" الحكومة نفسها بها لا يمكن إنجازها ضمن سياقات العمل الحالية، خلال مدة السنة. وهي المدة التي من المفترض إجراء انتخابات مبكرة فيها، كما ورد في ورقة المنهاج.
 فهل سيتمُّ حل مشاكل، مضى على بعضها عقود، والاستجابة لمطالب رفعت منذ سنين، بمجرد جُملٍ عامة دون أي ملموسية، ووعود معتادة ومكررة؟! ام ان علينا انتظار اعلان "البرنامج الحكومي الشامل"، الذي طال انتظاره، لمعرفة التفاصيل؟! هذا البرنامج التفصيلي الذي من المفترض ان تطلقه الحكومة بحسب ما جاء في نهاية مقدمة المنهاج "غير المعنونة"، كي تبدأ في تنفيذ خطتها بحسب الأولوية. وهذه هي خمسة أشهر قد مضت ولم نسمع شيئا عن البرنامج الموعود!
ان أي قراءة سريعة لمنهاج حكومة السيد السوداني ستسبر "اغواره"! بسهولة ويسر، وتكتشف كنهه، كرؤية شعبوية بامتياز. ويكفينا لفهم سبب ذلك ما أشارت له مقدمة المنهاج صراحة، عندما ذكرت ان إعداده كان على أساس ما تم الاتفاق عليه بين الكتل السياسية بـ (ورقة المنهاج الوزاري)، والتي أدرجت لتكون جزءا لا يتجزأ منه.
حكومة ردود أفعال!
 يمكن القول ان السمة الأبرز لحكومة السيد السوداني خلال الأشهر الخمسة المنصرمة، انها حكومة سياسات شعبوية، سياسات قائمة في كثير من الأحيان على ردود الأفعال، حتى حين سعت الى تطبيق فقرات منهاجها. وقد بدا ذلك واضحا منذ ما يمكن تسميته بـ "حملة التطهير" الواسعة على قرارات حكومة تصريف الاعمال السابقة، الاقتصادية والأمنية، وعلى وجه الخصوص التعيينات التي قامت بها الاخيرة. مرورا بالتعامل الغريب وغير المسبوق مع قضايا الفساد والمتهمين بها، سواء بما يسمى "سرقة القرن" ام غيرها من القضايا. وهو تعامل وضع الكثير من الملاحظات والاسئلة حتى على أداء بعض المؤسسات القضائية العراقية، ثم جاءت الإجراءات الارتجالية التي اتبعتها في التعامل مع ازمة أسعار صرف الدولار، وارتفاع مستوى الأسعار، والتي "توجت" بتعديل سعر صرف الدينار، دون أي سعي حقيقي لتجفيف منابع تهريب العملة الأجنبية واغلاق منافذها. يضاف لها الحملات الكبرى للتعيين في مؤسسات الدولة.
ان الحكومة الحالية تسعى بالدرجة الأساس ـ باتباع مثل هذه السياسات ـ الى إعادة انتاج القاعدة الاجتماعية التي تهرأت خلال السنين الماضية، سواء لشخوص الحكومة المباشرين أم من يقف وراءها من قيادات وكتل. ومن جهة ثانية، انها تنطلق من الامكانية التي توفرها مثل هذه الإجراءات لشق وحدة الحركة الاحتجاجية.
هشاشة التحالف الذي يقف خلف الحكومة
 إنّ الحكومة الحالية، ومنهاجها، ليسا إلا انعكاسا للطبيعة الهشة للتحالف الذي يقف خلفهما، وللكتل السياسية المفككة التي تشكله، ولقواعدها الجماهيرية الهزيلة والزبائنية. كما انه تعبير صادق عن الظروف والملابسات التي تشكلت في ظلها الحكومة، عن طبيعة الصراعات ومستوى تطورها والآليات التي حسمت فيها، بالتراضي او بالإزاحة. 
كما ان التحالف الذي أوصل الحكومة الحالية الى سدّة السلطة، هو كسابقاته التي كانت تقام عند اعلان تلك الحكومات، ليس الا تمظهرا سياسيا جديدا للمحاصصة. وبالتالي، فإنه لا يستطيع إخفاء الصراعات المحتدمة بين اطرافه المختلفة، بل وداخل الكتل "المكوناتية" ذاتها. صراع حول مصالح شخصية وفئوية وحزبية ضيّقة، ومن أجل تقاسم الحصص في المناصب والمغانم.
 يظهر جليا، من مسارات المرحلة السابقة، قبل وبعد ان تسلمت الحكومة الجديدة مهامَ عملها، ان القوى السياسة المتنفذة ما زالت غير مكترثة بتفاقم الازمات، والاخطار التي تُحيط بالبلاد. وهي عاجزة عن التعلم من دروس السنوات الماضية، خصوصا الغضب الشعبي الذي وصل الى ذروته في انتفاضة تشرين الباسلة واصطفاف المجتمع حولها.
 مع الوقت سيزداد الشك في قدرة الحكومة على تنفيذ وعودها، كما سيتجلى عاجلا أم آجلا ضيق افق إجراءاتها وفشل حلولها الترقيعية. وسيفيق كل من اطمأن لوعودها مع ارتفاع الهتاف، وعودة الجماهير الى ساحات الاحتجاج. 
 وفي المقابل، سيزداد التعويل على قوى التغيير السياسية، وعلى الحركة الاحتجاجية في إحداث التغيير الشامل. وهنا نتوقف فللحديث تتمة.