أيار 05

 نشرت (الوقائع العراقية)، الجريدة الرسمية لجمهورية العراق، في عددها الذي يحمل رقم 4726 في 23 حزيران 2023، قانون الموازنة العامة العراقية للسنوات 2023، 2024، 2025. ولأن الموازنة ليست تلك الجنبة القانونية الشكلية فقط، اي ليست ذلك القانون الذي يحدد وينظم موارد الدولة ونفقاتها فحسب. وانما هي أساساً ذلك المضمون السياسي والاجتماعي الذي يعكس موازين القوى السياسية والاجتماعية في لحظة تشريعها. خصوصا بكونها تمثل مصالح تلك القوى المتنفذة والمسيطرة، وهي قوى متصارعة ومتناحرة بحكم طبيعتها. بالتالي فإن دراسة الموازنة وتمحيصها، وتحليلها لا ككل واحد فقط، وانما ايضا دراسة كل مفصل من مفاصلها على حدة، دراسة عميقة وشاملة، من قبل المختصين والسياسيين، وعلى وجه الخصوص من قبل القوى التي تحمل شعارات التغيير، لا يعد رفاهية فكرية، ولا هي ايضا من قضايا الترف المناكد. لا بل إن الاخيرين بحاجة كذلك الى معرفة طبيعة ونوعية المساومات والتنازلات والصفقات، بل وحتى "الخروقات الدستورية"، التي جرت في شأن كل فقرة منها والكيفية التي اقرت بها.

وإن كنا لا نرغب في تعداد كل ما في الموازنة من مثالب، ولا ان ندخل في تفاصيل ما وجه لها من نقد. فلكل مقام مقال. لكن هذا لا يمنعنا من الإشارة الى بعض معالمها الأساسية. ومن بينها: كونها موازنة ثلاثية؛ وكونها اعدت مثل سابقاتها، دون حسابات ختامية، حسابات تقوّم إنجازات الدولة في العام السابق؛ وكذلك ما فيها من عجز هائل وغير مسبوق، والذي سيزيد من تكبيل الحكومة الحالية والحكومات القادمة؛ وأيضا كونها تعكس الطبيعة الريعية للدولة والاقتصاد العراقيين، من خلال تخمينها لإيرادات الدولة اعتمادا على مصدر واحد هو النفط فقط، بل وتعتمد على سعر للبرميل ومعدلات للتصدير مبالغ فيهما. يضاف الى ذلك كله الحجم الهائل للنفقات التشغيلية فيها، وكذلك كبر حجم الاخيرة النسبي، سواء نسبة الى النفقات الاستثمارية، او ما بين الوزارات والقطاعات المختلفة. كما وتسم الموازنة، كمثيلاتها في الأعوام السابقة، بضعف واضح في الاهتمام بالقطاعات الإنتاجية، الصناعية والزراعية. وأخيرا، يجب ان لا نغفل أيضا عن انها اقرت زيادة غير مبررة في نفقات ومصاريف رئاسة الوزراء ومجلس النواب.

هنا نود تسليط الضوء قليلا على معلم مميز للموازنة العراقية. لأنه غاب عن الكثير من المراقبين. وهو ترسيخ ذلك التناقض الواضح منذ سنوات، بين الاستمرار الواعي، بل وربما حتى المدروس، في اضعاف وتغييب دور الدولة القيادي او التوجيهي، في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية، عامة كانت ام خاصة، وما يرافقه من نشوء رأسمالية تابعة مشوهة وسوق مشرعة الأبواب، وما يتطلبه كل ذلك، بحكم منطق اللبرالية الجديدة، من سياسة مالية انكماشية؛ وبين سياسيات الحكومة التي ترفع باستمرار من النفقات التشغيلية -لغايات ليست بريئة على الاطلاق- سواء عن طريق زيادة النفقات التشغيلية، بصورة مبالغ فيها، في قطاعات لا يمكن أصلا ان تحفز الاقتصاد، او عبر التوظيفات الكبيرة والمستمرة في وزارت الدولة ومؤسساتها المختلفة. وما يستلزمه كل ذلك من ضخ للأموال، أي سياسة مالية توسعية. وحجم هذا التناقض لا يمكن ادراكه الا إذا وضعنا في الحسبان تخبطات السياسة النقدية في السنوات الثلاث الأخيرة.

وكما جرت عليه العادة، استندت الحكومة، ومن تمثلهم من قوى متنفذة، في دعايتها لتمرير موازنتها هذه شعبيا، على حجج واهية ومبررات زائفة. معولة على حلول ترقيعية، هي في ذاتها تعد توكيداً على غياب تام لأي رؤية استراتيجية تنموية للنهوض بواقع البلاد الاقتصادي والاجتماعي المتردي. فحل مشاكل البلاد، وتحسين مستويات معيشة المواطنين بالنسبة للحكومة، يكون عبر زيادة إيرادات الدولة "التخمينية". والأخير يأتي من: زيادة - تخمينية أيضا- في سعر برميل النفط، ومن العجز المالي "المخطط". والعجز "يُغطى" من الوفرة المالية التي قد تأتي من زيادة أسعار بيع النفط! او زيادة صادراته! او من المبالغ المدورة في حساب وزارة المالية. وإن لم يكن، فـ "يُغطى" بالاقتراض الداخلي والخارجي. والأخير، فلا يعني الحكومة الحالية. أنه مشكلة معلق حلها برقاب الاجيال القادمة. اما البطالة، فعلاجها سهل، وذلك عبر التوظيف في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية. ومشاكل بسيطة، من قبيل ترهل أجهزتها وارتفاع مستوى البطالة المقنعة فيها، فتعد مسائل يمكن التغاضي عنها. اما حل مشاكل الزراعة والفلاحين، ومعهم كل الكادحين والفقراء والمهمشين، فلا تعني الحكومة. فأمرها وأمرهم موكول الى السماء. ربما لأن غالبيتهم قاطعوا الانتخابات؟! وربما لأنهم سيقاطعونها مرة أخرى!!

ان أي حديث عن مزايا للموازنة الحالية، هو حديث غير سليم. فأي ايجابية فيها ستختفي تحت الضغط الكاسح لسلبياتها التي ستتنامى مع الوقت. فكما تحمَل العراقيون اعباء ما اقترفته الحكومات المتعاقبة منذ 2003، سيقع على كواهلهم وابناءهم عاجلا ام آجلا وزر ما اجترحته وما ستجترحه الحكومة الحالية.    

إن حصيلة الملاحظات والتعليقات الانتقادية التي وجهت الى الموازنة طيلة الأشهر الماضية، منذ كانت مشروعا وحتى إصدارها كقانون، يمكن تلخيصها بفقرة واحدة: ان معدي مشروع الموازنة ومشرعيها، يفتقرون الى العمق الفكري ليتعلمو من دروس الاقتصاد، ويفتقدون كذلك الى القدرة على استخلاص العبر من دروس التاريخ. والويل كل الويل لمن يتغافل عن حضور حصص الاقتصاد و يتناسى مواعظ التاريخ... وهذا ما ستثبته الأيام.