أيار 05

 يمرُّ العراق بواحدة من اشد مراحل تاريخه الحديث حرجاً وارتباكاً. فليس في تاريخه هذا إلا فترات قليلة مشحونة بالأحداث والتقلبات والممكنات كما هو الحال الآن. في المقابل، ها هو منتصف العام الأول من عمر حكومة السيد السوداني ينقضي دون انجاز جدي يذكر، حيث بقيت الحكومة على طبيعتها، مجرد حكومة ردود فعل. ولم تكن، كما هو متوقع، على مستوى المسؤولية. فهي في النهاية، كما أشرنا في عدد سابق، ليست إلا انعكاسا للطبيعة الهشّة للتحالف الذي شكلها، وللكتل السياسية التي يتكون منها. إنّها مجرد تمظهر جديد لنهج المحاصصة الطائفية/ الإثنية، الذي يتملص، بسبب ديناميكية اشتغاله ذاتها، من اي محاولة لترويضه او كبح جماحه من داخله، ان وجدت. وبالتالي، يندر من لا يتفق على ان البديل لنهج ومنظومة المحاصصة، يقع خارجه، وأن مضمون هذا البديل هو التغيير الشامل.

 لقد قطع هذا البديل مراحل مهمة في طور تشكله؛ حيث لعبت القوى السياسية والاجتماعية التي انبثقت عن انتفاضة تشرين، بالإضافة الى الأحزاب السياسية الوطنية العريقة، دورا أساسيا في عملية بلورته. وستظل الحركة الاحتجاجية، التي ارتقت الى مستويات اعلى خلال انتفاضة تشرين 2019، المعين الذي لا ينضب في رفد مشروعه ما دام قائما. فعلى الرغم من ان الحركة الاحتجاجية في عراق ما بعد 2003، تمتد لسنين طويلة قبلها، لكن ستبقى الانتفاضة علامة فارقة في تاريخ الاحتجاجات الجماهيرية العراقية. فقبلها كانت اللوحة السياسية عند الكثيرين مبهمة ومشوهة، أما الآن، فهناك رؤية واحدة واضحة، تصوغ الأهداف النهائية بدقة مقبولة الى حد كبير. وذلك لأن الانتفاضة أكدت على ما كانت بعض القوى المدنية والديمقراطية تؤشر عليه، من ان نهج المحاصصة بمختلف أشكاله، وهو الواقع الصارخ في السنوات العشرين الماضية من تجربة "العراق الجديد"، هو المسؤول عن إنتاج الأزمات وجميع الظواهر السلبية التي يعاني منها البلد. وان التغيير يعني بناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية، قائمة على أساس العدالة الاجتماعية. وان هذا التغيير سيكون نتاجا لحركة جماهيرية واسعة، سواء في ساحات الاحتجاج ام في صناديق الانتخابات.

وهنا، وفي هذه اللحظة الفارقة، يجب أنْ نسلطَ الضوء على بعض القضايا الملحّة بخصوص التغيير الشامل والحركة الاحتجاجية:

القضية الأولى، وإن كانت انتفاضة تشرين تمثل نموذجا راقيا وتجربة فريدة، فمن المهم أن يدركَ الجميع مكانها الحقيقي في التاريخ، بحيث لا يطلب منها، كما كان من المفترض، أن لا يُتوقع منها، ان تعطينا رؤية سياسية ونظرية أكثر مما فعلت.

الثانية، إذا كانت الأسباب والظروف الموضوعية التي أدت الى اندلاع الاحتجاجات، ما زالت قائمة، بل وتتفاقم باستمرار، وأن عدم بزوغ فعل احتجاجي واضح المعالم في الوقت الحالي لا يعني بأي حال من الأحوال نهاية الحركة الاحتجاجية كإمكانية، فإن هذا يدفعنا ـ كمتابعين - الى التساؤل عن أسباب هذا الخفوت. خصوصا عن العامل الذاتي، وما هي طبيعة التحولات التي حدثت للجماهير المحتجة والمنتفضة ذاتها خلال هذه المرحلة؟ نؤشر هنا فقط، ان أحد اهم إنجازات الحكومة الحالية، هو نجاحها في تقديم "الرشى" الاجتماعية لبعض فئات وشرائح الشعب.

الثالثة، ان الاعتقاد الذي يستنتج أن التغيير الشامل، وهو يستند بالضرورة على حركة احتجاجية، فإن هذا يعني انه ينجز فقط عبر تمرد غاضب أو عصيان مسلح مع أو بدون القوات المسلحة، هو اعتقاد خاطئ ووجهة نظر غير سليمة عفا عليها الزمن ووجّهت لها سياط النقد منذ عقود. ولا يروّج لها إلا الطائشون، أو رجالات السلطة وأزلامها وأشباههم، وذلك بغرض شيطنتها وتبشيعها بين السواد العام من الناس، أو لجرّ الثوار والجماهير والحركة الاحتجاجية الى معركة غير متكافئة.

الرابعة، من المفروغ منه أن التغيير في العراق يجب ان يكون شاملا. لكن ان يكون التغيير شاملاً لا يعني انه يتماهى بالمطلق مع "التغيير الحاسم"، الذي يحدث مرة واحدة والى الابد. ان مثل هذا التغيير القطعي صعب بل وربما حتى مستحيل في عراق اليوم لأسباب عديدة. من بينها على الاقل الآليات التي يدار بها البلد حاليا؛ وتشظي السلطة وتشرذم الولاءات. فأي تغيير حاسم يتطلب بالضرورة أدوات ومؤسسات لإنفاذ سلطته، وتحقيق إرادته. وهذ ما يفتقر له العراق حاليا. وبالتالي، أن التغيير القادم في العراق وإن كان شاملا فهو بحكم الواقع - ان استمرت الأوضاع على ماهي عليه الآن - عملية تدرجية تراكمية. وهذا يعني أيضا، أن على قوى التغيير أن توجد صيغ للتعامل مع القوى السياسية والاجتماعية التي يمكن ان تنسلخ موضوعيا عن منظومة المحاصصة.

الخامسة، ان موازين القوى السياسية والاجتماعية الحالية، تؤشر على ان التغيير لن يطرح خلال صيرورته قيادات يمكن ان تدعي زعامته. كما انه لن يحدث على ايدي أحزاب او حركات سياسية منظمة فقط، مهما كان الدور الضروري الذي تلعبه وستلعبه في تحديد سمات ووجهة المشروع. فهذه الأخيرة ستتحمل المسؤولية ليس فقط بالمساهمة في تفكيك نظام المحاصصة، وانما في رسم ملامح النظام القادم. ان التغيير سيكون أساسا نتاجا لتلاقي الآراء والإرادات العامة ضمن مجاميع وقوى اجتماعية هي على الاغلب غير متماسكة، ومتنوعة المشارب والمرجعيات بل وحتى متصارعة. لكن يوحدها ذلك الإجماع المدهش على وحدة الهدف وضرورة التغيير. وفي الغالب، سيستمر هذا المضمون للحركة الاحتجاجية في العراق في قادم الايام. 

وأخيرا، في مثل ظروف العراق الحالية، يمكن تلخيص السيناريو الأكثر ترجيحا بالنسبة للاحتجاجات القادمة، في إدراكها أن تأثيرها المعنوي كبير جدا ويساوي، بل وفي كثير من الاحيان أكبر من أثرها المادي. وان انتصارها الفعلي يتمثل في قدرتها على تحشيد أكبر عدد ممكن من الجماهير. في مقابل زعزعة معنويات وبث الفرقة بين أطراف قوى المحاصصة وأذرعها الضاربة. اما الانتصار النهائي، فإن امكانية تحققه هو رهن تشابك وتداخل العديد من الظروف والعوامل، من بينها، العزلة والوهن الذين يجب أن يصيبا منظومة المحاصصة، لأسباب مختلفة، من بينها أسباب اقتصادية على وجه الخصوص. وربما سيكون من بينها حتى ذلك الحين، الدور الذي ستلعبه مشاركة قوى التغيير في انتخابات المجالس التمثيلية المختلفة، والنتائج التي ستتحصل عليها، وفعاليتها هناك.