أيار 05
    جرت في 18 كانون الأول 2023، انتخابات مجالس المحافظات العراقية. وقد جاءت حصيلتها، لتؤكد ما كان متوقعا. استمرار هيمنة قوى السلطة، قوى المحاصصة والفساد والسلاح المنفلت. ففي ظل عملية انتخابية شابها، كسابقاتها، الارتياب والشكوك، منذ تشريع قانونها، لم تكن النتائج على وجه العموم مفاجأة. وقد رسخه هذه الظنون عدم التطبيق المزمن لقانون الأحزاب! الذي يبدو انه يُعامل، مثل غيره من القوانين، وكأن صلاحيته قد انتهت بفعل التقادم. يضاف الى ذلك عدم التزام القوى المتنفذة بنظام الحملات الانتخابية، من قبيل: الاسراف في بذخ المال السياسي وشراء الذمم؛ واستخدام الضغط والاكراه والوعيد، وعلى وجه الخصوص في التصويت الخاص، الذي كان له تأثير واضح على نتائج الانتخابات؛ وأخيرا، الاستخدام البائس للخطاب الهوياتي. دون ان يتناسى أحد، ان كل هذا جرى في ظل انحياز واضح للمفوضية العليا "المستقلة" للانتخابات.
  وليس مستغربا أن تصبح الانتخابات، عند قوى منظومة المحاصصة والفساد فكرة ترتقي الى مصاف العقيدة! يكفي المرء ان يسمع صراخهم وهم يتشدقون، ويتبادلون التهاني، بنتائج الانتخابات، مبشرين الناس بالعواقب والخير الوافر الذي ينتظرهم. ذلك أن اجراء الانتخابات، عند هؤلاء السادة "الديمقراطيين"، عمل ذو أهمية سياسية كبيرة. فهم وبعد ان فقدوا الكثير من هيمنتهم الايديولوجية، بتهاوي الكثير من مفردات خطابهم الطائفي المكوناتي السابق، لم يتبق لهم سوى الانتخابات كي تكون تأكيداً على ان هناك "شرعية دستورية" لاستحواذهم على السلطة، "ديمقراطيا". بل ان الانتخابات اضافت لهم "شرعية ثالثة"، بالإضافة الى الشرعيتين الدستورية والديمقراطية، ونعني هنا شرعية الاعتراف الدولي.
    اما في ما يخص مقاطعة الانتخابات، فلم يكن حجمها "الحقيقي" بحد ذاته، مفاجأة. كما لم يكن غريبا أن تكون نسبة المقاطعة في بعض المحافظات عالية مقارنة بمحافظات اخرى. وكذا الحال بالنسبة للوضع داخل المحافظة الواحدة. ففي بعض المناطق كانت نسبة المشاركة في الانتخابات عالية نسبيا، بينما قاطعت مناطق أخرى. ودون الدخول في تفاصيل هذه التفاوتات، ليس حجم المقاطعة او العزوف إلا مؤشراً لا لبس فيه لا على تراجع الثقة بالعملية الانتخابية وآليتها فحسب، وانما حتى بالعملية السياسية برمتها. وهي دلالة أيضا، على الفجوة التي ما فتئت تتسع بين الكم الأكبر من المواطنين والفئة السياسية المستحوذة على السلطة منذ عقدين. وبالتالي، لم يكن من المستغرب ان الملايين من الفقراء والكادحين، عزفوا عن المشاركة في الانتخابات. فلهؤلاء هموم ومشاغل حياتية ووجودية أهم بكثير من الانتخابات. وكذا الحال بالنسبة للعديد من شرائح "الطبقة الوسطى". فقسم من هؤلاء جُبلُ أساساً على اللامبالاة السياسية، خصوصا المرتبطين منهم بهذا الشكل او ذاك بالسلطة، مهما كانت الرابطة واهنة او غير مُدركة.
ان المثير للاستغراب - لكن ليس عند الجميع! - هو حجم مقاطعة تلك الشرائح والقوى الاجتماعية والسياسية، ذات المصلحة في إحداث التغيير. وهي قوى من المفترض بها سلفا ان تكون واعية، ومدركة ان التغيير يتطلب استخدام آليات سلمية متنوعة، من بينها الانتخابات. ان مقاطعة هذه الشرائح قضية جوهرية، وهي بحاجة الى وقفة جادة، بل الى دراسة وتحليل مفصليين، من قبل الباحثين والفاعلين السياسيين. وهنا، دون ان ندخل في الكثير من التفاصيل يمكننا تصنيف هؤلاء المقاطعين بناءً على حججهم للمقاطعة الى: أولئك الذين وصلت فيهم درجة انعدام الثقة بالعمليتين الانتخابية والسياسية الى حدود الكفر بالديمقراطية، بل وحتى الحنين الى الدكتاتورية؛ من يرى ان مجالس المحافظات هي أساساً حلقة زائدة؛ أولئك الذين يضعون حداً فاصلاً لا يمكن تجاوزه بين الحركة الاحتجاجية والانتخابات، فالمساهمة في الأخيرة تعطي مشروعية للسلطة التي لا يمكن تغييرها الا بالأولى؛ من ينطلق في قراره للمقاطعة من مقاطعة وعزوف الملايين من العراقيين المعلن للانتخابات؛ وأخيراً، وهؤلاء الأكثر اتساقاً فكرياً، من لا يدعون الى إلغاء مجالس المحافظات، ولا يرفض العملية الانتخابية بالمطلق، ولكن يدعون لمقاطعة أي عملية انتخابية، في ظل الظروف الراهنة، والتي يرون انها اكثر من مناسبة للاستناد الى حركة احتجاجية واسعة، بل وربما الى ثورة شعبية سلمية لأحداث التغيير.  
 وفي تصنيفنا أعلاه، لم نذكر تلك الرطانات التي تبرر عدم المشاركة في الانتخابات بطروحات غير علمية لا يليق بنا حتى ذكرها. فهذه جميعها تُصنف حامليها ضمن خانة العزوف لا المقاطعة.
    ولكن، مهما كانت حجج ومبررات المقاطعين والعازفين، ومهما كانت الشكوك والملاحظات جدية حولها، فإن الانتخابات قد جرت. وهي ليست مجرد لغة أرقام. فالانتخابات ونتائجها هي محصلة عملية طويلة، يقع في القلب منها الصراع الاجتماعي والسياسي. ولها معان وابعاد واسعة ومتنوعة. فعلى سبيل المثال، كان من اهم النتائج الضمنية للانتخابات الحالية، انها أطاحت بالتنازلات القليلة التي تم انتزاعها بفعل انتفاضة تشرين والحركة الاحتجاجية. والتي كانت قد مُسخت أساساً، بفعل الرشى الاجتماعية، الى مجرد تعيينات ومشاريع خدمية. كما كان من نتائجها أيضا، ان قوى التغيير حُرمت، بمقاطعة قسم كبير من جماهيرها، من منبر كان من الممكن ان يخاطبوا من خلاله الجماهير ويدافعوا عن مصالحهم بقدر أكبر من التأثير والهيبة والنفوذ، ناهيك عن استخدامه للصراع أو الدعاية.  
    ان هذا لا يمنعنا من الإقرار ايضا ان العلاقة بين تكتيك، سليم من الناحية النظرية، والظرف التاريخي الملموس ليست علاقة خطية. فعملية انتقاء التكتيك المناسب، يجب ان تقترن بتحليل ملموس للظرف الملموس، ليس الموضوعي فحسب وانما الذاتي ايضا، خصوصا لمزاج وقناعات الناس. وبالتالي، ان كانت المساهمة في انتخابات مجالس المحافظات بحد ذاتها ليست خطأً تكتيكياً، في ظل الظروف الموضوعية الراهنة، كما انها لا تتعارض مطلقا مع باقي اشكال النضال السلمي الاخرى، سواء كانت حركات مطلبية محدودة ام حراكاً اجتماعياً سياسياً واسعاً؛ لكن قطاعات كبيرة من الجماهير لم تكن مقتنعة بإمكانيات التغيير الحقيقية او الكامنة عبر الانتخابات، وهذا ما تؤشر له نسب المقاطعة بوضوح. وهنا، على القوى السياسية التي قررت المشاركة في الانتخابات وهي ترفع لواء التغيير، ان تتحمل مسؤولية قراراتها وان تتوقف مطولاً في دراسة ابعاد خطوتها هذه وحصيلتها. 
     إن انتخابات مجالس المحافظات ليست النهاية، فهي ليست الا نتاج للحظة توازن في الصراع السياسي والاجتماعي في العراق. ومنظومة المحاصصة ما زالت تحمل داخلها عناصر تدميرها. فالصراع على السلطة والمناصب والمكاسب بين البيوتات المكوناتية وداخلها على أشده. بل انه قد بدأ قبل الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات. ويمكننا أيضا ان نستشف مبكراً بوادر صراع قادم بين القوى المتنفذة الفائزة وحكومة وشخص رئيس الوزراء. فالأولى ستسعى الى تقييد أدواته وتحديد إمكانيات حركته بما يخدم مصالحها. كما ان التعكز على الرشى الاجتماعية لن يستمر طويلا. فالأزمة الكامنة في دولة مفرطة الريعية لن تفتأ تنفجر بمجرد انخفاض أسعار النفط. 
لكن الصراع لا يجري بين النخب فقط، ضمن الدائرة الضيقة لأصحاب الامتيازات، وانما جبهته الأهم تجري بينها وبين غالبية أبناء الشعب، ولا ننسى ان شبح الانتفاضة ما زال يطوف بالساحات.
طوبى للقابضين على جمر مبادئهم... السائرين في طريق الحق الموحش، والذي سيملأه الهتاف والضحكات يوماً.. ولو بعد حين....
 حتى ذلك الحين.. كل عام والعراق والعراقيون بخير.