أيار 06
    تحلُّ هذه الأيام الذكرى التسعون لميلاد الحزب الشيوعي العراقي، حزب العمال والفلاحين وسائر شغيلة اليد والفكر، حزب النضال والتضحية، الذي تأسس عام 1934 كضرورة موضوعية اقتضتها التطورات والتحويلات والاستقطابات الطبقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية على الساحة الوطنية والأممية. ومن ذلك التاريخ غرس جذوره متشعبة في جميع أرجاء الوطن. ومن الصعب في هذه الكلمة الموجزة جرد ما اجترحه الحزب في سوح النضال وإعطاء تقييم قريب من الواقع لما قام ويقوم به من مهمات لونت تاريخه الطويل المفعم بالعطاء. فقد اقترن نضاله منذ انبثاقه في الجمع بين المهمات الوطنية والطبقية، في النضال من أجل تحقيق سيادة البلاد واستقلالها الناجز من السيطرة الاستعمارية والدفاع عن حقوق ومصالح الجماهير الكادحة في العهد الملكي. وقد دفع جراء مواقفه الصلبة أثمانا باهظة منها اعدام قادته الأماجد فهد وصارم وحازم عام 1949. وتواصلت قوافل الشهداء في العقود المتعاقبة في ظل الأنظمة المستبدة لتسهم في رسم واضاءة دروب النضال للشيوعيين والوطنيين والديمقراطيين. إنها مآثر يحق للشيوعيين العراقيين الافتخار بها واستلهام الدروس منها من أجل مواصلة النضال بلا كلل لتحقيق شعار الحزب الأثير: وطن حر وشعب سعيد.
    لقد ساهم الحزب في التمهيد لثورة 14 تموز 1958، سواء من خلال عمله النضالي اليومي المتفاني على المستويات السياسية والثقافية والتعبوية والجماهيرية أو من خلال اسهامه في جبهة الاتحاد الوطني التي كانت مقدمة سياسية ونضالية لدعم الثورة ودعم الضباط الاحرار الذي اخذوا على عاتقهم تنفيذها، وفي مقدمتهم الزعيم عبد الكريم قاسم. وخلال سنين نجاح الثورة القصيرة تبنى الحزب موقف الدفاع عنها وعن منجزاتها على الصُعد الاجتماعية والاقتصادية، والتي أحدثت تحولات مهمة في بنية المجتمع لم تتحقق طيلة العهد الملكي. وفي الوقت نفسه، مارس الحزب نقد الميول الفردية في إدارة الحكم، ومن اجل تحقيق حريات أوسع، والتحذير المتواصل من مخاطر الارتداد والاجهاز على ما تحقق من مكتسبات تقدمية مهمة والذي كانت تخطط له القوى القومية والرجعية وبقايا الاقطاع التي تضررت مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد قيام الثورة، مدعومة من قوى إقليمية ودولية.
     إن نجاح انقلاب 8 شباط الدموي عام 1963 على يد البعث والقوى القومية الرجعية وما اعقبه من محاولة يائسة لتصفية الحزب الشيوعي من خلال سجن وتعذيب واعدام المئات من اعضائه وفي مقدمتهم سكرتير الحزب الشهيد سلام عادل، مثّل حقبة سوداء في تاريخ العراق المعاصر كانت لها تداعيات في العهود اللاحقة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تمثّلت في قيام نظام استبدادي قمعي معادٍ للحريات وحقوق المواطنة، بعد مجيء البعث ثانية إلى الحكم إثر انقلاب 17 تموز 1968، ذلك النظام الذي أدخل الوطن  في دوامة من الأزمات لا تنتهي والحروب وارتهان سيادة البلد والحصار الاقتصادي القاسي والتجويع الذي دفعت ثمنه الباهظ جماهير شعبنا وخصوصا الكادحة منها.
    وبعد أن حاول نظام البعث ثانية بعد عام 1978 الاجهاز على الحزب من خلال ممارسة الأساليب الفاشية نفسها التي اعتاد عليها من السجن والتعذيب والتصفيات الجسدية، تبنى الحزب أسلوب الكفاح المسلح الذي خاضه الأنصار الشيوعيون ببسالة نادرة في ذرى جبال كردستان العراق، والذي ساهم في الحفاظ على تنظيمات الحزب داخل الوطن وتعزيزها.
    مثّل سقوط النظام الدكتاتوري المدوي في نيسان 2003، إثر الاحتلال الأمريكي – البريطاني مرحلة جديدة في تاريخ العراق. وجاء هذا السقوط السريع نتيجة متوقعة لتقلص قاعدة النظام الاجتماعية بسبب سياسات القمع والتنكيل ومصادرة الحريات والحروب، بعد أن اقتصرت هذه القاعدة على المستوى العائلي بل أن حتى هذا المستوى لم يسلم من التصدع والضعف.
    وطيلة السنوات الماضية التي تلت سقوط النظام أعاد الحزب بناء تنظيماته ومارس أساليب النضال التي تلائم المرحلة الجديدة في اشكالها المختلفة السياسية والفكرية والتعبوية والجماهيرية التي شملت المشاركة الفاعلة في انتفاضة تشرين المجيدة عام 2019، وفي الكثير من الاحتجاجات الجماهيرية التي سبقتها وتلتها. وهو يرفع منذ عقد مؤتمره الوطني الحادي عشر في تشرين الثاني 2021 شعار "التغيير الشامل: دولة مدنية ديمقراطية وعدالة اجتماعية".
    إن تبني نهج المحاصصة الطائفية-الإثنية في إدارة الحكم والصراع حول شكل بناء الدولة من قبل القوى والأحزاب والكتل المتنفذة وانتشار السلاح خارج سيطرة الدولة وارتهان سيادة البلاد للولاءات الخارجية الإقليمية والدولية، وخرق هذه السيادة من خلال الاعتداءات المتكررة من اطراف إقليمية ودولية عدة دون رادع، وعدم تبني رؤية واضحة لخطط تنموية اجتماعية - اقتصادية شاملة، ولّد الكثير من المشكلات المستعصية وغذى الفساد المالي والإداري الذي استشرى في مفاصل الدولة والمجتمع وأعاد إنتاج المنظومة السياسية ذاتها، منظومة المحاصصة والفساد التي فشلت فشلا ذريعا في إدارة الحكم؛ لذا بات التغيير الشامل مطلباً ملحاً، وهذا يتطلب حشد كل طاقات القوى المدنية، الحزبية والجماهرية والنقابية وممارسة الضغط الشعبي والاحتجاج والمشاركة في الانتخابات لتغيير موازين القوى لصالح القوى المدنية الديمقراطية الحقيقية التي تؤمن حقاً ببناء دولة المواطنة والمؤسسات والحريات والعدالة الاجتماعية إنها الدولة المدنية الديمقراطية.
في عام 2024 يتجدد الأمل بعراق جديد، عراق خال من الازمات والفساد والتهميش والإقصاء والاستعصاءات الدائمة وتناسل الازمات ومكائد حيتان السلطة وحروب المتحاصصين من القوى المتنفذة.  
  مجدا للذكرى التسعين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي، مجدا لهذا السِفر النضالي المفعم بالدروس البليغة التي يتطلب التمعن فيها بعمق لاستخلاص زاد نضالي متجدد دائما.