كانون1/ديسمبر 05
   
 
 
    في الاول من أيار (مايو) يرفل مئات الملايين من العمال في إشراقة المنجزات والانتصارات والدور التاريخي للطبقة العاملة. إنه اليوم الذي يتجلى فيه وعيها الطبقي. وتمتد جذور عيد الأول من أيار (مايو) في وعي العمال الطبقي – في التاريخ والخبرات والذكريات المتناقلة عبر الأجيال، في التقاليد العريقة والاعتزاز بدورهم التاريخي. ان جذور هذا العرض للتضامن البروليتاري عزيزة على قلوب كل العمال. إنها جزء من ماضي الطبقة العاملة وحاضرها ومستقبلها الى الأبد.
    وإذ انبثق عيد الأول من أيار (مايو) قبل مئة عام في غمرة النضال من اجل يوم عمل من ثماني ساعات في الولايات المتحدة فقد تطور الى يوم فريد للأعمال والتظاهرات الجماهيرية لشغيلة معمورتنا.
    ولهذه الذكرى المئوية لعيد الأول من أيار (مايو) ثمة أيضا أعمال وتظاهرات جماهيرية تؤكد مطالب الشغيلة حول طائفة من القضايا. وهي قضايا متعددة ومتنوعة تعدد البلدان وتنوعها. وفيما يلي بعض القضايا المطروحة في الولايات المتحدة على سبيل المثال.
    في مقدمة ما يعبّر عن مطالب الجماهير العريضة في الولايات المتحدة وفي البلدان كافة المطالبة بعزل ولجم القوى السياسية التي تهدد كوكبنا والإنسانية جمعاء، بخطر الفناء النووي. وينبغي أن لا يغيب عن ادراك احد أو تختلط عليه هوية هذه القوى. فبعد رفض واشنطن للمقترحات السوفيتية باتخاذ اجراءات عملية من اجل تنفيذ المبادئ التي اتفق عليها الجانبان في القمة الامريكية – السوفيتية في جنيف في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي يستطيع الشغيلة أن يشخصوا منابع خيبتهم.
    وحين خرقت السفن الامريكية في مياه بحر البلطيق والبحر الاسود وحين قامت ادارة ريغان بإجراء المزيد من التجارب النووية في نيفادا متجاهلة تجميد الاتحاد السوفيتي لتجارب الاسلحة النووية لم يعد ثمة مجال للشك أو البلبلة. فقد بات من الواضح أن مصدر الاستفزازات وتصاعد خطر المجابهة النووية كان من صنع اشد قطاعات إدارة ريغان العدوانية سعاراً وأتباعها في بلدان حلف شمال الاطلسي. وتردد هذه الذكرى المئوية لعيد الاول من أيار (مايو) مطلب الشغيلة بلجم هذه الاوساط وإزالة الخطر النووي.
    يضاف الى ذلك ان أعمال ريغان اضافت العديد من القضايا الاخرى التي ألقتها على عاتق الطبقة العاملة الامريكية وسائر الشغيلة.
    فالعمال يعرفون ريغان وبطانته بوصفهم مسؤولين معادين للنقابات والحركة العمالية بضراوة، وعازمين على تقديم الدعم التام لهجمة الاحتكارات على ظروف عمل الشغيلة وأجورهم ومستوى معيشتهم. وهم يتذكرون انقضاض ريغان على نقابة مراقبي حركة الطائرات، الذي قدم مثالا لأشد الاحتكارات عداءً للنقابات، ويتذمرون من تخريبه لتنفيذ قانون العمل الوطني وخلقه العراقيل أمام عقود العمل الجماعية.
    وتعرف الاقليات من الامريكان السود والهنود الحمر، سكان البلاد الاصليين والآسيويين والمنحدرين من جزر المحيط الهادي والبلدان الامريكية اللاتينية، تعرف ريغان عنصرياً منافقاً يعمل كل ما في وسعه لتقويض الدفاع القانوني الذي تحتمي به هذه الاقليات ضد المعاملة التمييزية.
    وتعرف النساء العاملات الامريكيات ريغان عدواً لحقوق المرأة وبخاصة حقها في الاجر المتساوي لقاء العمل المتساوي وحقها في تقرير وظائف امومتها.
    إن ريغان يختطف اللقمة من أفواه الاطفال الجياع والمعوزين والفقراء بتخفيض "كوبونات" الغذاء وغيرها من برامج الاعانات الاجتماعية. وهو يشرّد الفقراء من المأوى بإلغاء برامج الاسكان.
ويحفز ريغان لتقويض ما تبقى من المزارع العائلية بممارسة حق النقض ضد اصدار تشريع طوارئ لإغاثة هذه المزارع، ويطرد الطلبة ويحرم الشباب من التعليم بتخفيض المنح الطلابية والاعتمادات المخصصة للتعليم ويغلق ردهات مستشفيات الطوارئ بوجه المرضى والمحتضرين بتخفيض اعتمادات العناية والاسعافات الطبية ويسرق المسنين بتخفيض معاشاتهم الاجتماعية.
    ويعمد عسكريو ادارة ريغان وصناع استفزازاتها الخارجية الى تدبير اعتداءات جديدة على غرار حرب فيتنام باعتداءاتهم على نيكاراغوا وكوبا والسلفادور ولبنان وليبيا.
    وما هذا إلا غيض من فيض القضايا التي تواجه شغيلة بلدنا.
   وفي هذه الذكرى المئوية تواجه الطبقة العاملة الامريكية تحديات جديدة. انها تواجه الهجمة العنصرية التي يشنها ريغان والاحتكارات ضد العمال وعليها ان تجد السبل للانتقال من النضالات الدفاعية وتقديم التنازلات، الى النضالات الهجومية. انها تواجه المعضلة الناجمة عن اندماج مجموعات ضخمة من الاحتكارات. فهذه وحوش يعادل حجم رأسمالها تريليون دولار.
    والطبقة العاملة تقف بمواجهتها وبخاصة في مواجهة احتكارات صنع الاسلحة التي باتت بوصفها النواة الرجعية الجشعة للمجمع العسكري – الصناعي. وهي احتكارات تحقق القسم الاعظم من ارباحها من الانتاج العسكري.
    ويخلق ظهور تكنولوجيا جديدة معضلات جديدة تماما أمام الطبقة العاملة فهو يفضي الى بطالة طويلة الامد ويغير نوع العمل الذي يؤديه العمال لكنه لا يلغي أو يغير من جوهر الصراع الطبقي.
    كل هذا وغيره يلقي بظلاله على الصراع الطبقي.
    لقد ناضلت الطبقة العاملة في السنوات الخمس والستين الاول من قرننا الحالي (المقصود هنا القرن العشرين لأن المقال كتب في 1986 – المحرر) من اجل حق التنظيم النقابي القانوني، وتسعى هجمة ريغان والاحتكارات الآن الى ارجاع عقارب الساعة الى الوراء بالغاء الاساس القانوني للنقابات وتقويض ما حققته الطبقة العاملة من خلال سنوات طويلة من النضال، فإن مستوى المعيشة والأجور الحقيقية تنخفض منذ عشر سنوات. (....)
    ومن التحديات الجديدة التي تؤثر في الصراع الطبقي واقع ان 30 مليون امريكي يعيشون دون مستوى الفقر، وان 20 مليون انسان عاطلون عن العمل في ذروة الانتعاش الاقتصادي، وان خمسة ملايين عائلة ذات اطفال مشردة وجائعة، وان آلاف المزارع العائلية تصفى كل عام. يضاف الى ذلك تأثر حياة الشغيلة ونضالاتهم باشتداد العنصرية وتفاقمها.
    وفي مدن عديدة يتجمد الناس بردا ويتضورون جوعا ويموتون بسبب الاهمال وانعدام العناية الطبية. وأصبح هذا الوضع حالة طوارئ وطنية. وما من ولاية بمنأى عن ذلك فقد زحفت الآفة حتى بلغت الضواحي والمناطق النائية. ففي مدينة نيويورك وحدها، حيث اصبحت الازمة حالة طوارئ حقيقية، ثمة 300 ألف عاطل عن العمل، 60 ألف مشرد، 144 ألف إنسان يتقاسمون السكن مع سواهم وما يربو على 25 في المئة يعيشون حالة من الفقر بحيث لا يحق لهم الحصول على "كوبونات" الغذاء. وتفيد الارقام الرسمية ان صفوف "العمال الفقراء" ازدادت على الصعيد الوطني 40 في المئة في سنوات ريغان الخمس الاخيرة.
    ان المشردين والجياع والعاطلين معضلة دائمة وليس معضلة دورية. ففي خلال الانتعاش الاقتصادي تباطأ معدل الزيادة الى حد ما، لكن اجمالي عدد المشردين والجياع يزداد كل عام. وهذه المعضلة ليست إلا الطرف الظاهر من جبل الجليد وليست إلا جزءا من صورة التدهور الاقتصادي – الاجتماعي. اننا نواجه أزمة خاصة ليست لها نهاية منظورة.
    وتعمل هذه الاوضاع على تغيير اتجاهات تفكير الطبقة العاملة ومضمون الصراع الطبقي واشكاله. وكانت اتجاهات التفكير الجديد هذه قد انعكست كلها في المؤتمر الاخير لاتحاد العمل الامريكي – مؤتمر المنظمات الصناعية. إذ كانت للمؤتمر لهجة جديدة وكانت هناك روح نضالية جديدة. وكان محور المؤتمر معادياً لرأس المال الاحتكاري والشركات فوق القومية وكان انصار التعاون الطبقي في موقف دفاعي. وكان الوعي الطبقي بمستوى جديد، أعلى. وكانت المشاعر المعادية لريغان وبخاصة حول سياسته الداخلية مشاعر قوية ونضالية. وكانت مشاعر العداء للامبريالية بمستوى جديد وبخاصة فيما يتعلق بأمريكا الوسطى وجنوب افريقيا.
    ونمت صياغة مطالب معادية للعنصرية انطلاقا من اسس جديدة. فقد عالج المؤتمر مسألة تغيير قواعد القدم (1) وتحقيق برنامج الاعمال الايجابية (2). وعبّر عن بلوغ مستوى أرقى من الاستقلالية السياسية والتحرك السياسي الموجه بصفة خاصة نحو انتخابات الكونغرس في عام 1986.
    إن عوامل كثيرة في تاريخ الولايات المتحدة أبطأت نضج الوعي الطبقي. وان عوامل كثيرة ساوت الذرى الحادة بالوديان المنبسطة. فقد تمتعت الرأسمالية بأفضل العوامل لممارسة نشاطاتها: وفرة في الموارد الطبيعية، ودفق واسع من الايدي العاملة والمهارات الاجنبية، وفي السنوات الاخيرة الارباح المحققة من الاستغلال الامبريالي في الخارج. وكان من المصادر الخاصة للربح وتراكم رأس المال العنصرية التي تمسك بها الرأسماليون منذ عهد العبودية.
    لكن هذه السمات الفريدة للرأسمالية الأمريكية أخذت تتدهور تدريجيا ومع تدهورها اشتدت حدّة الصراع الطبقي. وجرّ احتدام الصراع الطبقي في أعقابه تنامي الوعي الطبقي موفرا المادة الجديدة لتطور هذا الوعي.
    ويطرأ تغيير على أشكال الصراع الطبقي لكنه سيبقى قائما، يؤثر في الأحداث وفي مجرة التاريخ ما دامت هناك طبقات من المستغِلين (بالكسر) والمستغَلين (بالفتح) وما دام هناك نظامان اقتصاديان – اجتماعيان عالميان.
    إنّ فهم الصراع الطبقي فهما أعمق بوصفه النجم الهادي، ضروري لفهم دور العامل وموقعه في التاريخ فهما أعمق.
    ذلك هو الدرس الأساسي لمئة عام من عيد الأول من أيار (مايو) ومن المعارك الطبقية التي خاضتها البروليتاريا.
صفحات من تاريخ الأول من أيار
كيف كانت البداية
    كان الاول من أيار (مايو) (3) يوما رائعا في شيكاغو. فالريح العاصفة من بحيرة ميشيغان والتي غالبا ما تكون قارصة في الربيع هدأت على حين غرة وأشرقت الشمس الساطعة. لقد كان يوما هادئا في أكثر من ناحية: المعامل صامتة ومقفرة، المستودعات مغلقة، السائقون في عطالة، الشوارع مهجورة، البناء متوقف، ليس ثمة أعمدة دخان متصاعدة من مداخل المعامل والمسالخ صامتة.
    كان يوم سبت، يوم عمل في الأحوال العادية، لكن حشدا من العمال يتضاحكون ويتبادلون الأحاديث والنكات ويرتدون أحسن ملابسهم، تصحبهم زوجاتهم وأولادهم، كانوا يتجمعون للخروج في مسيرة تخترق شارع ميشيغان افينيو، كان الشارع بهيجا بروح العطلة – رجال ضخام، حمر الرقاب، يضيقون بعض الشيء ببدلات الأعياد التي اشتروها من دكاكين للألبسة الجاهزة، يكررون بارتياج: "الجميع خارجون عندنا، حتى القطط". لكن الجو كان قاتما في الشوارع الفرعية وعلى السطوح القريبة.
    وفي متفرعات الطريق الرئيسي للمسيرة والشوارع المحاذية له كانت فرق من رجال الشرطة المسلحين وعملاء من القوات الخاصة يتجمعون وهم على استعداد لاستخدام القوة من اجل فرض "القانون والنظام". وعلى السطوح الاستراتيجية توزع رجال البوليس ومرتزقة البنكرتون وجنود الميليشيا مسلحين بالبنادق وغيرها من ادوات الحرب. وفي ترسانات الولاية استنفر 1350 رجلاً من افراد "الحرس القومي" تحت السلاح، يرتدون البزات العسكرية ومسلحين ببنادق على أهبة الاستعداد للانقضاض. وتجمع في بناية ادارية مركزية الاعضاء القياديون للجنة مواطني شيكاغو الذين ظلوا في اجتماع مستمر طوال اليوم. وكانت ترد الى هنا الاخبار عن النزاع الوشيك من جميع نقاط المدينة. لقد كانت هذه اللجنة بمثابة هيئة الأركان العامة التي توجه المعركة لإنقاذ شيكاغو من اليوم الشيوعي، يوم عمل من ثماني ساعات.
   شرعت المظاهرة في الانطلاق، الألوف تتحرك وكل عضو تتملكه مشاعر جياشة بالتضامن المتصاعد، الرائع وهو يغذ السير. كان الاطفال يبتعدون أحيانا عن آبائهم ويندفعون الى المقدمة. كان الناس يضحكون بانتشاء غريب متطلعين باستمرار الى الوراء، نحو التيار الهادر الذي كان رمزا مرئيا لقوة العمال اذا ما توحدوا. وكان في عداد هذا الجمع الذي بدأ بلا نهاية "فرسان العمل" وأعضاء اتحاد العمل الامريكي، تشيكيون وألمان وروس وايرلنديون وإيطاليون وسود ورعاة بقر سابقون يعملون الآن في المسالخ. وكان هناك كاثوليك وبروتستانت يهود وفوضويون وجمهوريون وشيوعيون وديمقراطيون واشتراكيون وأنصار "النظام الضريبي الواحد"... جميعهم موحدون لا يثنيهم شيء عن انتزاع يوم العمل من ثماني ساعات... انعطفت المظاهرة الى شاطئ بحيرة ميشيغان حيث اجتمع حشد من الناس للاستماع الى كلمات تلقى باللغات الإنكليزية والتشيكية والألمانية والبولندية.
..... لم تسفك دماء، ولم تتكرر كومونة باريس. فقد تلاشى صخب الصياح وانفضت قوات المليشيا وبدأ افرادها ممتعضين قليلا وهم يتوجهون الى منازلهم فيما ظهرت بزاتهم متميزة بشكل بغيض بين جموع المدنيين الذين شارك الكثير منهم في المظاهرة. وعمدت الصحافة الى التقليل من تنبؤاتها العديدة بوقوع أعمال عنف متذرعة بشتى التبريرات.
    وكان البوليس المحبط من جراء عدم تمخض الأول من أيار (مايو) عن شيء بعد كل هذه التوقعات، قد شعر بقدر من الارتياح عندما انهال بالهراوات على عمال مؤسسات شركة مكورميك الذين فصلوا عن العمل بسبب قيامهم بالإضراب وهو يدفع بثلاثمئة عامل متواطئ إلى داخل المعمل. وفي وقت الإغلاق كان حشد كبير من المستخدمين والعمال المسرّحين ينتظر خروج العمال المتواطئين حين انقض عليهم رجال الشرطة فجأة شاهرين المسدسات، فتراجعوا حين أقدم رجال الشرطة، حسبما ذكر احد الشهود، الى "فتح النار على ظهورهم. وكان الفتيان والرجال يقتلون راكضين".
 

- غاس هول السكرتير العام للحزب الشيوعي في الولايات المتحدة

- المادةة تمثل مقتطفات من القصة الوثائقية للمؤرخين الأمريكيين ريشارد بوير، وهربرت موريس "حكاية العمال التي لم يقصها أحد"، موسكو، 1957. 

 -  نشرت المادة في (الثقافة الجديدة)، العدد 173/ 174، أيار/ حزيران 1986، ص 20 – 27.

--------
الهوامش
  1. تمنح "قواعد التقدم" امتيازات للعمال ذوي الخدمة الطويلة دون انقطاعات في صناعة واحدة. ويتمتع بها أساسا العمال البيض فقط بسبب التمييز ضد عمال الأقليات القومية "الملونة" والنساء.
  2. يهدف "برنامج الأعمال الإيجابية" الى تأمين المساواة الحقيقية للأقليات القومية "الملونة" والنساء.
  3. يجري الحديث عن الأول من أآيار (مايو) عام 1886.
 
 
 
 
 
 
 
 
* (الثقافة الجديدة)، العدد 173/ 174، أيار/ حزيران 1986، ص 20 – 27.