كانون1/ديسمبر 05
   
    في مقدمة كتابه الأخير "عصر التطرفات" يلاحظ أريك هوبسباوم أنه "في جميع الأحوال ليس من المحتمل لمن عاش هذا القرن الاستثنائي أن يمتنع عن الحكم. لكن الفهم يظل هو الأصعب". ما الذي يجعل فهم التاريخ صعبا؟ الجواب المباشر هو لأن الفهم لا ينفصل عن الإقامة في التاريخ وصنعه والذي هو في نفس الوقت صنع الإنسان لنفسه. بعبارة أخرى أن صعوبة الفهم تبدأ من لا إمكانية النظر في التاريخ من زاوية متجردة كما هو الحال مع الطبيعة مثلا. وبما أن التاريخ هو حصيلة تداخل الذاتي بالموضوعي، المرغوب بالمفروض والخيالي بالواقعي، فقد تعددت زوايا مقاربته: إنه كليّة تبحث عن كليتها. تعدد المقاربات تحتمها عوامل إيديولوجية أو نظرية، تعكس الأولى مصالح اجتماعية أو نظرية سياسية أو خلفيات ثقافية تفسر بالاستناد إليها أحداث الماضي ويعاد تشكيلها من حيث الأهمية والأسبقيات. وعادة ما يكون اختلاف الأيديولوجيات الحديثة على الماضي امتدادا لاختلافها على الحاضر. إلا أن العكس يمكن أن يكون هو الصحيح بالنسبة للفرق والطوائف الدينية، فالاختلاف بينها يبدأ من التنافس على امتلاك حقيقة الماضي. وفي الحالتين لا يخفى الفهم المتداول، والذي ينتمي الى مجال الوعي اليومي، تحيّزه سيّما وانه يعبّر عن نفسه في شروط صراعية وسجالية مباشرة.
    أما الثانية، أي الاختلافات النظرية، فتفرض نفسها بالدرجة الأولى على المختصّين بدراسة التاريخ وتتأتي من مناهج البحث كما من المفاهيم. وإذا عزف المؤرخون إجمالا عن تقديم الحكم على الماضي وفهمه، فلا يكفيهم ذلك الاختلاف، لأن أبجدية الفهم عندهم ذات ترتيب غير موحد. فمنهم من يقرأ التاريخ كسجل لإرادة الأفراد العظام، أو مآثر لعامل واحد أو غاية نهائية محددة، ومنهم من يرجعه إلى تدخّل العناية الإلهية، أو يراه كعملية خطيّة أو دورانية. وبينهم آخرون يفرغونه من المعنى والقوانين. ولكل واحدة من هذه النظريات أو القراءات نقيضها الذي يعد إمساك الصورة بالمقلوب. ومن هنا لا نستطيع أن نعثر على نسخة واحدة للتاريخ أو على تقدير إجماعي لكل صغيرة وكبيرة فيه. فالتاريخ محمول دائما على صيغة الجمع. انه تواريخ أو روايات تنتج من داخل سياق بحث المؤرخين عن الموضوعية والحقيقة. ورغم اختلاف مقارباتهم واجتهاداتهم، فأن اعتمادهم الموضوعية أو التجرد النسبي كمعيار يهديهم إلى قراءة أحداث الماضي وفق منطقها الخاص، والى نبذ الأهواء والأحكام الجاهزة، يسمح بوضعهم في خانة واحدة هي خانة الداعين إلى إمكانية التوصل إلى فهم عقلي للتأريخ.
    لكن هل هناك فعلا إمكانية من هذا النوع؟ قد يكون ليو تولستوي أفضل من يمثل الموقف الرافض لهذه الإمكانية. ففي الخاتمتين اللتين ألحقهما بملحمته "الحرب والسلم" تبنى تولستوي موقفا لا إداريا من التاريخ، موحيا بذلك بلزوم تحرير سرد أحداثه من قيود التعليمات الفلسفية، وتركها تجابهنا بتجلياتها المثيرة وامتداداتها العشوائية وانبثاقاتها المفاجئة. ولهذا فالإصرار على معرفة التاريخ ستدمر تفرّد حقيقية. فأي معنى للفعل الإنساني إذا كانت معرفته ممكنة حتى قبل الآتيان به؟ كم سيكون مرعبا كشف خبايا النفس الإنسانية؟ وما قيمة الحضور في التاريخ إذا ما صودرت منه تلك القوى الغامضة التي تحرك البشر بهذا الاتجاه أو ذاك؟ هكذا يكون أمامنا موقفان؛ واحد للمؤرخين "الموضوعيين" وهو يتقصى النتائج عبر الأسباب والظواهر عبر البواطن الدفينة والدوافع المباشرة عبر الضرورات الخفيّة. والآخر ويمثله تولستوي، يقف متأملا البعد السامي للتاريخ كمرادف لما هو لا نهائي وغير عادي وغير قابل لتمثيلات الوعي. بعبارة فلسفية فان التاريخ بالنسبة لتولستوي ينتمي إلى عالم الشيء بذاته، ذلك العالم الذي نقاربه بالمصادرات وحدها ولا ندرك منه إلا تجلياته الخارجية بهيئة وقائع منفردة ومعطيات جزئية في تغيره الدائم يقاد التاريخ بغايات غامضة تحيّر الفهم وتخذل الاستنتاجات الثابتة والأحكام القاطعة. فما هو خيّر ومفيد من ظواهره يمكن أن ينقلب بسرعة، حسب تولستوي، إلى سيئ وضار. وكذا يمكن أن تنقلب الأدوار المجيدة لأبطاله إلى كوارث.
    عدم الاطمئنان إلى وجود خارطة ثابتة للدلالات التاريخية واستبعاد اجتماعها في "عمارة" متماسكة لم يدفع تولستوي وحده لتعليق الحكم. فهذا ماوتسي تونغ الذي لم يفهم من السياسة إلا كتدخّل واع للتأثير على حركة التاريخ وضبط إيقاعه، ينحو منحى سابقه اللا ادري. فعندما سُئل مرة عن رأيه بالثورة الفرنسية، وكانت قاربت ذكراها المئوية الثانية، أجاب بأن الوقت لم يزل مبكرا للحكم عليها، ويحتمل رأيه أكثر من تفسير واحد. فلعله أراد التهرب من تقديم اعتراف واضح بأهمية تلك الثورة التي دشنت عصر البرجوازية. أي انه ربما أراد الاستهانة بالتراث السياسي والحقوقي للبرجوازية وذلك من منظور مستقبلي يراهن على تراث، لم يحن أفضله بعد، للاشتراكية والشيوعية من ناحية أخرى. قد تدفعنا إجابته المقتضبة للتفكير في احتمال أكثر تعقيدا، عندئذ يكون لماو سبب آخر لإرجاء الحكم على الثورة الفرنسية، غير انتظار الحدث الأعظم الذي سينفي كل ما سبقه ليبدأ التاريخ الحقيقي للإنسانية. ولعلّ سبب ماو يعود إلى تسليم غير مصرح به بزوغان التاريخ في تحولاته وفي تشكيلاته. فإذا أوحى ظاهر الأحداث أن تعاقبها الزمني يتضمن، بل يحتم، نسخ اللاحق للسابق والمقموع للسائد، فان عمقها يوحي بخلاف ذلك. على مستوى العمق يظهر التاريخ محكوما بصيرورة دائمة لا تنتظرها لحظة اكتمال أو محطة أخيرة وتتهاوى عندها الحدود والامتيازات التراتبية للمستقبل على الحاضر وللحاضر على الماضي. فليس التعاقب الزمني هو الذي يحدد حقيقة التاريخ، وإنما التناسب المتغير للعلاقات التي تربط أحداثه. ونكون في هذه الحالة إزاء نظرة تاريخية جذرية، أي نسبية، ترفض مقولات الاستمرار والتواصل الخّطي على مستويي حدوث الحدث والتفكير فيه. أو نكون إزاء نظرة تأويلية تماهي الأحداث الكبيرة مع النصوص التأسيسية التراثية، فتدعي أن وراء المتحقق فعليا آفاق كاملة غير متحققة، مثلما أن وراء النصوص المغلقة مدلولات مفتوحة وغير مطروقة بعد. وربما قاربت عبارة ماو الآنفة الذكر هذا القصد، فالثورة الفرنسية بالنسبة له ما زالت مشروعا أوليا يتطلب ترجمة جديدة بلغة السياسة والحقوق والثقافة والاقتصاد. من سيفعل هذا وكيف؟
    في كتابه "مقدمة للحداثة" يقول هنري لفيفران: التاريخ يواصل مسيرته كقوة اغترابية رغم الوعي المتزايد بالاغتراب، فتجلياته الآنية تباغت حنكة الوعي وتصميم الإرادة، وتبقى عائمة في تأجيل دائم وعود النهاية التي تبشر بها الأيديولوجيات. ليس للتاريخ مثيل في إبداع التنويعات على سخرية القدر، وليس هناك من يدانيه مكرا في التلاعب بالمتناقضات. يكفي هنا أن نتذكر النتائج العكسية التي انتهت إليها أكثر أشكال التدخل فيه ادعاءً بالجذرية والشمولية، والعواقب السلبية التي تفتقت عنها أكثر الأفعال توكؤا على الوعي واليقين الفلسفيين. أي مقارنة بليغة وراء استعارة النظم الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية النهاية الحتمية من نظيرتها الرأسمالية لتترك لها ما ادعته أصلا لنفسها.... أي المستقبل؟
    الاعتراف بموضوعية التاريخ، التي لا ترادف بأي حال القول بقدريته ، يعادل الاعتراف بمكره الخفي ومفارقاته غير المتوقعة، أو الاعتراف بحضور الإنسان فيه طورا وغيابه عنه طوراً آخر. الاعتراف بهذه الموضوعية يعني أيضا إمكانية تصّور زمن التاريخ وزمن الإنسان (بالمعنى الوجودي أو النفسي) منخلعين وغير متطابقين.
    ومشكلة الوعي الأيديولوجي ومأساته تكمن في تناسي الزمن الخاص للتاريخ. ذلك الزمن المتأرجح بين خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، بين خلق ممكنات مرغوبة وبين وأدها في أي لحظة، مشكلة الوعي الأيديولوجي أن يؤنسن التاريخ مسقطا عليه نهاية سعيدة (بطريقة تقارن بالرؤية الأخروية للأديان والطوائف)، ويستعجل محو الفواصل بين ما هو قائم وما لم يحن أوان قيامه بعد. لكن كل هذا الاختزال ضروري للأيديولوجيات لكي تمضي في تعميم منطق الجزء على الكل ومنطق اللحظة على الزمن لكي تجعل المستقبل حتمياً والطريق إليه قويماً بيناً. بالمقابل يرد التاريخ على تمثيلات الأيديولوجيات بان يجعل إشراقها ظلاما وإرادويتها عمقا... فيوقفها بحركة واحدة في نقطة الصفر، ويريها أنها ما لم تكن مأخوذة بالهذيان فعلى الأقل بفقدان التمييز بين ما يبقى وما ينبغي أن يزول. يمكن الآن أن نجمع ما تقدم في أربع نقاط:
أولاً؛ أن صعوبة فهم التاريخ لا تكمن فقط في التوفًر على مادة دراسته من وثائق شهادات وآثار ...وإنما أيضا في تباين زوايا النظر إليه فلسفياً. وقد رأينا كيف يذهب البعض إلى أن فهم التاريخ يقف عند ظواهره دون جوهره، وانه  ـ الفهم - لا يبرر تقديم أحكام نهائية عنه، أو انه يفترض إمكانية النفاذ إلى قوانينه مع عدم القدرة على مواكبتها دون توهمات ذاتية.
ثانيا؛ مع عدم وجود نقطة أخيرة تمنح امتيازاً لتصور الماضي وفق غاية ثابتة أو اجتماعية، تصبح معروفة التاريخ مجالاً لصراع التأويلات. فمن نقاط عدة متباينة في تزامنها أو في تعاقبها تنحدر احتمالات عدة للتأويل تمثل البعد الذاتي من حركة التاريخ. فكل تأويل يشكل مصدر إضافة لقيمة الحدث المؤول...أي لا يكتفي بالتسجيل دون إعادة التشكيل.
ثالثا؛ لا يتضمن الادعاء بأن مقاربة التاريخ لا تتم من خلال المعرفة العلمية الدقيقة أن التأويل بحدِ ذاته يخلو من مسلمات أو مسبقات متحيزة. كذلك فأنه لا يخلع قيمة متساوية على جميع التأويلات المطروحة عن حدث أو سيرة أو عهد. رغم الانتقائية التي تحكم التعامل مع الوقائع والمعطيات فإن للتأويل مستويات متعددة تحددها معايير الانطباق على الموضوع، التماسك الداخلي والفائدة العلمية. ويمكن للتأويل، عند استيفائه شرط البحث أن يتجاوز إغراءات السرد ليطرح تعميمات نظرية ومعارف صلبة.
رابعا؛ لا ينفصل التأكيد على وجود تمايز في درجة موضوعية التأويلات عن التأكيد على موضوعية التاريخ والمتمثلة في استقلاله عن إرادة ووعي الفاعلين فيه واشتراطه لأدوارهم ونتائج أفعالهم. في هذه الحالة يخطئ من يماهي موضوعية التاريخ مع صورته كقوة خارجية غريبة تجهض مسعى البشر وتحاصر وجودهم. الاستنتاج الأدق المترتب على القول بالموضوعية يفضي إلى رفض معارضة التاريخ الفعلي بتمثيلاته التخيلية والمؤمثلة، والى اعتبار تحقق أو عدم تحقق التمثيلات غير مرتبط بعامل الإدارة وإنما بالكيفية التي يبسط بها التاريخ نفسه. خلاف الطبيعة التي تقودها قوى عمياء لا تعي ذاتها في الزمن، فإن التاريخ تحركه قوى واعية ويتجاذبه توتر بين الأفعال ونظام الأشياء.
    لا تقترح الاستطرادات أعلاه أكثر من مقدمة عامة قد تكون مفيدة للتفكير في حدث محدد تعددت أشكال الإخبار عنه واختلفت الأحكام عليه. الحدث المقصود هو ذلك الذي وقع في الرابع عشر من تموز 1958 وحّول النظام السياسي العراقي إلى جمهوري بعد أن كان ملكيا.
    سنشير إلى أربعة أنواع من الكتابة عن هذا الحدث. أولاً؛ المذكرات المنشورة لبعض الضباط الأحرار. ثانيا؛ التقييمات والمعالجات الصادرة عن المنظور القومي البعثي للسلطة. ثالثا؛ الكتابة التاريخية الأكاديمية كما تجلت في سفر حنا بطاطو "الطبقات الاجتماعية القديمة...." . رابعا؛ وجهات نظر متفرقة لكتاب وصحفيين في المنفى.
    كل واحد من هذه الأنواع أراد إبراز بعد أو أكثر من أبعاد الحدث. فالمذكرات أعادت نسج الحدث من خلال التفاصيل الجزئية والأدوار الفردية. والنوع الثاني أرخ له من زاوية أيديولوجية مسلمتها الأساسية أن عبد الكريم قاسم خطف الثورة وانحرف بها عن مبادئها القومية، وان "ثورة" البعث في 1968 هي وريثة تلك المبادئ وأداة إعادة حركة التاريخ إلى مضمارها الصحيح. النوع الثالث يدرس الحدث في سياقه التاريخي وبقدر مشهود له في سعة الاطلاع والتجرّد. أما النوع الأخير فيدعو إلى مراجعة الحدث بصورة جذرية ومن زاوية ما ترتبت عليه من نتائج وخيمة وطويلة الأمد كتدخل العسكر في السياسة وبروز الظاهرة السلطوية، ويعتبره بمعنى ما المدخل للكارثة التي أصابت العراق حاليا.
    من بين هذه المقاربات المختلفة في سرد الحدث وتقييمه سنتوقف عند الاثنتين الأخيرتين لأنهما يخدمان السؤال الذي وضع من اجله هذا المقال، وهو، هل ما حدث في الرابع عشر من تموز كان ثورة أم انقلابا؟ كما نلاحظ فأن النوعين الأول والثاني من الكتابة يسلمان منذ البداية بأن الذي حدث كان ثورة وليس انقلابا. والملفت أن المقاربة القومية البعثية لم يهمها من الحدث إلا دور الإرادة السياسية في تحقيقه، ولم تعتبره ثورة إلا من باب الاستئثار به وإعادة امتلاكه. فـ " ثورة" السابع عشر من تموز 68 هي ثورة تموز 58 بعينها ولكن بعد أن أزيح عنها رجالها غير المرغوب بهم وسياساتها غير القومية. على النقيض من هذا تقرأ دراسة حنا بطاطو حدث تموز 58 من خلال مفرداته دون الوقوع في انحيازات القوى التي تصارعت عليه، وتحلل انعكاساته على المستويات الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية دون إصدار أحكام قيمة. يبدأ بطاطو نقاشه بالرد على فكرة ويلدمارجي غالمان السفير الأمريكي السابق إلى العراق والتي وصفت الحدث التموزي بأنه مجرد انقلاب نفّذته حفنة صغيرة من الضباط، وبأن الحشود البشرية التي تدفقت إلى الشوارع "لم تمثل العراقيين وإنما (كانت) مجموعة من السفاحين وقطاع الطرق جنّدها دعاة محرضون"(ص 806 من الطبعة الانكليزية).
    أما بالنسبة إلى حنا بطاطو فإن دور الجماهير كان أكبر وأهم مما صوره السفير الأمريكي، لكنه في نفس الوقت لم ينكر أنه في فوضى التغيير الجذري ثمة دائما دور لقطّاع الطرق ولأعمال العنف والقسوة. لقد قطع نزول الجماهير إلى الشارع إمكانية الثورة المضادة، واسند موقف المجموعة الصغيرة من الضباط التي قادت ونفذت التحرك الذي شكل ذروة "نضال جيل كامل من الطبقات الوسطى ودون الوسطى والعاملة " وكان تتويجاَ لنزعة عصيانية تجسدت في انقلاب بكر صدقي (36) وحركة رشيد عالي الكيلاني (41) ووثبة كانون وانتفاضتي عامي (52) و(56). ضمن هذا السياق التاريخي يمكن النظر إلى حدث تموز 58 كنقلة جذرية غيرت نظاما بنظام. أما إذا تركنا مقدماته التاريخية ونظرنا إليه من زاوية نتائجه اللاحقة فسنبلغ مع بطاطو نفس الاستنتاج. يقول "ما كان ممكنا لظاهرة سياسية سطحية أن تفجر العواطف بتلك القوة، وان تثير المخاوف والآمال بتلك الجدّية كالتي تخللت الفترة المحصورة بين عامي 58 و59. إن الرابع عشر من تموز قد جلب حقا أكثر من مجرد تغيير حكومة. فلم يقوّض النظام الملكي ولم يضعف بصورة جذرية الموقف الغربي في المشرق العربي وحسب، وإنما أيضا أثر بعمق في حظوظ جميع الطبقات الاجتماعية" (ص 806-807 ). ما يشير له بطاطو هنا يرتقي في الحقيقة إلى قطيعة تاريخية جلبت إلغاء المكانة الاجتماعية للطبقات القديمة من شيوخ إقطاعيين وملاكي أراض حضر، وتغييراً نوعيا في مواقع وأدوار الشرائح الوسطى ودون الوسطى والعمال وفي علاقات الملكية في الريف.
    ويعود حنا بطاطو ليتعرض إلى النتائج العميقة لذلك التدخل العنفي، وذلك في مجال تفسيره للأخطاء والتذبذبات التي وقعت فيها الثورة. فيذكر من بين الأسباب، عدم وجود تجانس لدى الطبقة الوسطى وانقسام ممثليها في الجيش الذي كان هو السلطة، وضغط الطبقات الدنيا التي كان يحركها الحزب الشيوعي. لكن الحاسم بين الأسباب، حسب رأي بطاطو، تمثل في أن كسر الثورة لبنية السلطة القديمة والتشكيلات الطبقية التقليدية قد أدى إلى "خلخلة التوازنات الحساسة بين مختلف الجماعات العرقية والطائفية في العراق، وبشكل خاص تلك التي كانت قائمة بين العرب والأكراد والشيعة والسنة (807). في ضوء هذا يمكننا الاستنتاج بأن مأساة ثورة تموز 58  نتجت عن اقتران عدم سيطرتها على ديناميكية الصراعات بين القوى والأفكار في الداخل، مع عوامل ضغط خارجي فرضته السياسات الاستعمارية الغربية والتيار القومي الناصري.
    لا شك في أن تحليل بطاطو، كما لخصناه عكس قناعة سائدة بأن ما حصل كان ثورة، لكننا نجد اليوم من لا يكترث به ويعارض "حكمه" القناعة السائدة التي يراها متجذرة في شعارات بالية وبلاغات خطابية جوفاء. ففي العصر الليبرالي الجديد، عصر سقوط أيديولوجيات التحرر، عادت عبارة السفير الأمريكي السابق إلى العراق لتفرض نفسها في سوق التداول. الانقلاب هو الكلمة المناسبة لوصف فعل ضباط طائشين من قبل مثقفين فتنتهم، كما يبدو، الليبرالية مثلما فتنتهم قبلها الماركسية، وأغمضوا عيونهم عن عسرها وأوجاعها. وردت مفردة الانقلاب بصورة عرضية في مقالات صحفية خصصت لأوضاع العراق الراهنة، لكنها لم تدعم من يعتمدها بحجج وأدلة صورت حدث تموز 58 كجرثومة ماض استفحلت لتفتك بالحاضر. وواضح أن صفة الانقلاب تتضمن حكما سلبيا على تغيّر ضرب الحالة "الطبيعية" للأشياء ليشيع فيها اللاستقرار واللاشرعية واللامعنى. حسب القائلين به فهو وحده يفسر أصل وفصل كل صغيرة وكبيرة وقعت في العراق خلال العقود الأربعة الأخيرة، لكنه بحد ذاته لا يحتمل تفسيراً من خارجه بعوامل اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. انه السطح والعمق معاً. فهذا الانقلاب فتح الباب على مصراعيه للتنافس على احتكار البعد السياسي، لأكثر أشكاله عنفية ولا حضارية، ومعه ظهرت نزعة إرادوية تقدّس السلطة لذاتها وتتخيل المجتمع طيناً من صلصال بيد صانع محترف هو الحاكم. وإذا كانت هذه هي حقيقة حدث الرابع عشر من تموز 58 فسوف لا يصعب مد خطوط مستقيمة بينها وبين ما تلاها وتشخيص أوجه شبه وقرابة بين دكتاتورية عبد الكريم قاسم الرحيمة ودكتاتورية صدام الهمجية، ورغم أن الأمر لم يصل بعد إلى إجراء مماهاة صريحة بين الظاهرتين، إلا أن اختلافهما يبدو في الدرجة لا في النوع. وعلاقتهما التي يتخللها عامل الزمن الذي يشكل مع عامل المكان الشرطين المسبقين لتحديد الظواهر وبالتالي اختلافها، هي كعلاقة الواقع بالإمكانية أو البذرة بالثمرة. ولهذا فنزع صفة الثورة عن الأولى - لأن الثورة وفق منطق المراجعين ينبغي أن تقترن بنقلة إيجابية خصوصاً في مجال الحق السياسي - يشمل الثانية المدعية وراثتها. أو بطريقة معكوسة فان الشطب على الثمار المرّة للحاضر، وهي لسوء الحظ كثيرة ولا تترك في النفس إلا مداداً قليلاً من الأمل، ييسر الاستغناء عن بذرة الشر التي زرعها العبدان كريم وسلام! ولعمري فإن هذه المعادلة الشرطية الحسنة النيّة تضع المجتمع العراقي ككل بين قويسات بانتظار استبداله بآخر ينطق بقيم الديمقراطية والمدنية من المهد.
    بلغة التحليل النفسي، فأن الذي حصل في الرابع عشر من تموز 58 هو أشبه بجريمة قتل الأب (الذي هو النظام الملكي في هذه الحالة). وستلاحق لعنة غياب الأب/ الرمز فاعلي الجريمة من أفراد وجماعات إلى يوم غير معلوم. وليس من المستبعد تماما أن قصد كتابات المراجعة أو التحريفية (جرياً على عبارة بائدة لا تعني اليوم سوى التفكير بطريقة مختلفة) هو للتذكير بأن حقيقة من هذا الحجم لا تظهر إلا متأخرة وبعد طول نسيان أو إنكار. والحال فأنه مع استحالة العودة إلى أيام الملكية لا يبقى إلا أن نقرّع أنفسنا على ما فعلناه في التاريخ أو على ما فعله التاريخ بنا. الخطأ التاريخي المحكوم بظروفه القاهرة، يتحول هنا إلى محرم (تابو) يعلو على التاريخ.
    من المحتمل أيضاً أن ورود مفردة الانقلاب في الكتابات المذكورة برره اعتراف مسبق بأن الذي حصل فعلاً في 58 كان ثورة أنطفأ وهجها من اللحظة الأولى؛ إنها ثورة بفعل ما قوضته أي النظام القديم وليس بفعل ما تمخضت عنه، إنها ثورة ولو بالمعنى السلبي للكلمة لأنها على حدّ ملاحظة ذكية لحنا بطاطو جلبت انعطافاً عميقاً في بنية المجتمع العراقي ككل دون أن تتمكن من الإمساك بقيادة الأمور سياسياً. ولعل ما رشحها لان تسمى انقلاباً هو هذا الفشل السياسي تحديداً.
    لكن هل يكفي الفشل السياسي الذي جاء به التنازع المحموم على السلطة بين العسكر وتسابق الأحزاب على الشعارات التعبوية الثورية، لتفسير عجز الثورة عن تحقيق ما كان ينبغي لها تحقيقه؟
    لماذا لم تحتل الديمقراطية آنذاك نفس الأهمية التي تحتلها اليوم؟ هل يمكن مقارنة درجة الوعي بها في فترة ما بعد نهاية الحرب الباردة مع درجة هذا الوعي أيام التحرر من الاستعمار والاجتهاد على أنسب الطرق لدخول الاشتراكية؟ بل إذا كانت الديمقراطية دون سواها هي المطلوبة فهل يمكن تصور تحققها دون وسائط وظروف هي بالتأكيد أكثر نقصا من الهدف الذي تصبو إليه؟
    حقاً أن البشر يصنعون التاريخ ولكنهم يفعلون ذلك وفق شروطه، فليس وعيهم، الذي يأتي متأخراً عن لحظته التاريخية، هو الذي يحدد كينونتهم، كما يقول ماركس، وإنما العكس هو الصحيح.
    إنّ وعي البشر لما تحقق ولما لم يتحقق من التاريخ هو جزء من التاريخ نفسه وجدلية التقدم والتراجع لا تمنح الأول صفة الإيجاب المحض والثاني صفة السلب المحض، ولا تعترف بامتياز للأول على الثاني. ليس التاريخ ظاهرة جمالية بل واقع ثقيل ومؤذ لأنه لا يقف دون التمادي على الغايات المنتظرة منه أو على الرغبات المسقطة عليه والتي تحاول إنهاء القصة قبل الأوان. والأسئلة الموضوعة على التاريخ هي مثل الغايات المودعة فيه، لا تطرح بصورة مجردة وإنما تعايش على مستويي الوجود والفعل.
    ولهذا لا تعثر على "إجاباتها" لا في زمن الممارسة المفتوح والناقص أبداً. هذه الإجابات هي مثل ثعلب ندرك منذ البداية أننا سوف لا نهتدي إلى مكانه بالضبط، ناهيك عن الإمساك به دون أن يحول ذلك من مطاردتنا له. أما عندما نتخيل الإجابات في متناول اليد، عندما نعجز عن تقدير الفاصلة الزمنية بين الفعل والوعي، بين الحدث والذاكرة. فالمجاز الأنسب للتاريخ هو مجاز القنفذ، هذا الحيوان المنطوي على نفسه يكون دائما حيث يكون وبالكاد يتحرك إذا ما اقتربنا منه. والذي يرى التاريخ وفق المجاز الأخير هو الأكثرية استعداداً للادعاء بامتلاكه وبسطه وتبسيطه كيفما يشاء، وبالتالي للحكم عليه بدلاً من فهمه. ولا يساوره في هذا شك بأنه في الحقيقة يمارس عنفاً نظرياً عليه، ناتجاً عن توهمّ مركزية ما للذات، توهمّ يرجع الغياب إلى الحضور والآخر إلى الأنا.
    بالطبع فإن القول بخلاف هذا، أي الدفاع عن استقلالية التاريخ وافتراق حركته عن مخططات الذات العارفة، لا يتضمن إضفاء صنمية عليه ومصادرة حقّ نقده واحتمالات تأويله. فمعرفتنا به لا نبلغها إلا من خلال التأويلات، وهذه تتفاوت في قوتها. فنسخة حنا بطاطو عن حدث الرابع عشر من تموز 58 هي أكثر تعقيدا وإقناعا - لأنها تحديداً افترضت كل التاريخ الحديث للعراق لتفسير حدث واحد من أحداثه الفاصلة - من النسخة الأحادية للذين اعتبروا الحدث مجرد انقلاب فوقي عطّل الحركة "الطبيعية" للتاريخ وهيّأها لانحدارات مأساوية.
    عدا التفاوت المشار إليه فإن حجة التأويل، كما يبدو، لم توضع في موضعها الصحيح عند حصرها بالمفاضلة بين مفردتي الثورة والانقلاب. إن حدث تموز 58 فتح، ولو فترة قصيرة، آفاق خيال اجتماعي جديد لمفاهيم الشعب والسلطة، للحياة الخاصة والعامة، للقانون والاحتفال، للمعتقدات الشعبية والسياسية، للمدينة الكبيرة والتظاهر. وهذه المفردات تستحق قبل غيرها براعة التأويل لنقل فهمها من مجال الأسباب السياسية والاقتصادية المباشرة إلى مجال الدلالات النفسية والثقافية العميقة.  
* (الثقافة الجديدة)، العدد 278/أيلول – تشرين الأول 1997