كانون1/ديسمبر 05
   

    يثير الوضع المأساوي الذي يعيشه العراق (والمنطقة العربية عموماً) حالة من النوستالجيا بين أوساط واسعة من المثقفين العراقيين تحديداً تنطلق من اختراع ماضٍ متخيل وردي، هو العهد الملكي، لتنطلق بعدئذ الى النظر الى التحولات التي شهدها العراق منذ عام 1958 كحدث خارجي، طارئ لا تفسير له غير رغبات العسكريين الذين أدخلوا العراق في دوامة العنف والاستبداد. مثل هذه النظرة تريح العقل الكسول إذ هي تعفي المرء من التفكير في البنى الاجتماعية التي لم تجعل ثورة تموز ممكنة الحدوث فحسب، بل انها لقيت حماساً منقطع النظير في بين معظم أوساط الشعب العراقي يوم ذاك.

   يكفي التساؤل عن الفرق بين الانقلاب العسكري في 1958 وانقلاب بكر صدقي 1936 لكي نتوصل الى ان المؤسسة السياسية (أو العسكرية) لا تخلق شيئاً لا أساس له في المجتمع. ففي عام 1936 لم تكن مشروعية النظام الملكي مطروحة على جدول التغيير السياسي، ولا مؤسساته الناشئة كالبرلمان، ولا رجال الحكم الرئيسيين. أما 1958 فجاءت على خلفية مختلفة تماماً: خيبات أمل مريرة ناجمة عن أربعة عقود ظهرت خلالها قوى اجتماعية جديدة كانت تجد نفسها مهشمة في المجتمع والاقتصاد والسياسة، حياة دون إنسانية لملايين الفلاحين في الوقت الذي كان الوضع الاقتصادي للعراق في تحسن مستمر، استغلال بشع من جانب كبار ملاك الأرض، مدن تكتظ بمئات ألوف النازحين الذين يعيشون في ظروف مزرية في صرائف خلف السدة والشاكرية وحي العاصمة، وغيرها، وشركات نفط أجنبية كانت تغرف مئات الملايين من دون أن تسعى السلطات الحاكمة الى تقييد نشاطها.

   تمأسس المثقف اليساري العراقي اليوم، فاستعار عقلاً ولغة لا ترى في ماضي العراق غير بغداد الأندية والصحافة المتعددة الألوان (نسبياً)، وحلقات المثقفين في مقهى البرازيلية، ونسي ان الغالبية الساحقة من العراقيين كانت تعيش في عالم آخر، ما جعل آمالها وخيباتها مادة طيعة للثورات واستبدادها. وما لم نرَ الثورات في سياقها المجتمعي، لن نستطيع التفكير بمستقبل الديمقراطية في العراق. ذلك ان حصر الذهن في ماضٍ ديمقراطي متخيل، وافتراض ان الديمقراطية المستقبلية ليست غير استئناف لممارسات قطعها حدث خارجي طارئ هو الثورات، يعني عدم رؤية التغيرات الهائلة التي حصلت على امتدداد نصف قرن، والقوى الاجتماعية التي نشأت وصعدت، وأنماط رؤاها وتفكيرها السياسي، بغض النظر عن عواطفنا تجاه الفاعلين الجدد في هذا المجتمع.

   أرضية التحول في العراق - كما أراها -  تكمن في أزمة البنى قبل الرأسمالية التي كانت قائمة في الزراعة. ان عجز هذه العلاقات عن استيعاب التوسع في قوة العمل، وفي احتواء هؤلاء الناس وازدياد الثروات الذي صاحبه مزيد من التهميش أدى إلى ازدياد السخط في أوساط هؤلاء الضحايا، وهم الغالبية الساحقة من أبناء المجتمع.

   أزمة نظام المحاصصة أدت الى تهميش الغالبية الساحقة من أبناء الشعب عرباً وكرداً، وهذا هو أساس تذرير المجتمع العراقي. يتطلب هذا الحكم توضيحاً، أو بالأحرى توضيحين: يتعلق الأول بنظام المحاصصة وأزمته، والثاني، بمعنى وعواقب التذرير الاجتماعي.

    برغم تعارفنا على تسمية نظام العلاقات الزراعية الذي كان سائداً حتى إقرار برامج الاصلاح الزراعي بالاقطاعي أو شبه الاقطاعي، إلا انه، وبرغم وجود سمات مشتركة له مع النظام الاقطاعي، لم يكن كذلك بالمعنى العلمي الدقيق. أما أزمته فتجلت في ان زيادات الانتاج التي تحققت منذ الاربعينيات (وهي زيادات يتغنى بها المدافعون عن النظام الملكي اليوم بتذكيرنا ان العراق كان مصدراً للمواد الزراعية) تمت على حساب انهيار مستمر في انتاجية الفلاح والأرض. اجتماعياً تمثلت الأزمة، وهي الوجه المقابل لتدهور الانتاجية، في مظهرين: الأول ان الفلاح العراقي صار في وضع شديد الشبه بأقنان الأرض في ظل الاقطاع الأوروبي، كان شبه آدمي كما وصفته دورين وارنر، أكبر المختصين في مجالها آنذاك، يعيش في مستوى دون الكفاف، ويمنع عليه مغادرة الأرض حتى يفي بديونه التي كان من المستحيل عليه ايفاؤها حتى في أكثر المواسم خصوبة. المظهر الثاني لأزمة النظام تمثل في الهروب الواسع من الأرض للسبب نفسه. وليس مصادفة ان أصول الغالبية الساحقة من المهاجرين الى بغداد والبصرة في الخمسينات كانت من الألوية (المحافظات) التي عرفت أبشع انواع الاستغلال، أي العمارة والكوت. وتجلت الأزمة في أن العراق الذي تدفقت عليه موارد نفطية كبيرة نسبياً منذ عام 1952، كان من أفقر بلدان المنطقة عشية ثورة تموز، حيث قدر الراحل الكبير محمد سلمان حسن حجم البطالة آنذاك بـ 40 بالمئة من السكان النشيطين اقتصادياً آنذاك.

    كانت الأزمة أدت الى تفتت العلاقات الاجتماعية السابقة وتذرير الأفراد، أوَ ليس هذا مؤشراً (ومبشراً) بنشوء المجتمع المدني الذي يقوم على المواطن الفرد؟ هنا يتطلب الأمر التوضيح الثاني. الفرد المذرر المنفصل عن قطيع العشيرة، الطائفة، الملّة، أو الانتماء الجهوي هو يشعر بولاء لدينه، ملّته، اقليمه، أو حتى روابط الدم التي تربطه بأقاربه، بل هو الفرد الذي يختار (أو يرفض) طوعاً هذا الولاء من دون قسر اجتماعي أو قانوني. وعليه فإن نشوء هذا الفرد لا يحدث لمجرد انه فقد ثقته بشيخ القبيلة وهاجر الى بغداد أو البصرة، في حالة الفلاح العراقي التي أشرنا اليها. انه يحدث حينما يتيح الشرط الاجتماعي هذه الامكانية: امكانية أن ينتقل الفرد عبر المواقع الاجتماعية والجغرافية من دون قيد قانوني أو عرفي. ولا يتحقق ذلك إلا عبر التصنيع ونشوء الطبقات الحديثة المميزة للعصر البرجوازي.

    حين ينتظم الأفراد المذررون في الجماعات الحديثة ينفسح المجال أمام هذا الحَراك الاجتماعي، ومن دون أن يعيد الأفراد انتاج أشكال ولاء وتكافل اخرى تضمن جماعيتهم. ان الفهم المبسط لعملية التذرير يطمس الفرق بين "العوام" وهم أفراد مذررون لم ينتظموا بعد في طبقات حديثة، قادهم سخطهم (المشروع بلا شك) الى تأييد استبداد الثورة الفرنسية، والثورة العراقية وديمومتهما، وبين الجماعات الحديثة التي يبلور توازن القوى في ما بينها ادارات مجتمعية للصراعات، وقيوداً على السلطات.

    نتوصل مما سبق الى ان انهيار المشروعية الاقتصادية والايديولوجية للنظام القديم من دون نشوء بديل ارقى تاريخياً، أي عملية تصنيع وتحديث واسعة النطاق، تكمن في جذر الاستبداد الذي رافق الأزمة الثورية في العراق (والمنطقة المحيطة) أزمة العلاقات ما قبل الرأسمالية ليست ظاهرة عراقية أو عربية حصراً، ففي التاريخ الأوربي هناك ظاهرة طاعون الشحاذين في أوربا بين انهيار الاقطاع وصعود الرأسمالية فاصل امتد الى مئتي سنة، ولكننا اليوم نقول ببساطة ان سقوط الاقطاعية قد أعقبه مباشرة صعود البرجوازية. فترة القرنين من الزمن التي مرت بها أوربا تشبه أوضاعنا عشية الثورات. طاعون من الشحاذين لا توجد آلية لامتصاصهم، لولا عملية التصنيع والتحديث وامتصاص العاطلين عن العمل لأنتهوا الى ما انهينا اليه. ما حصل عندنا ان تهميش الأيدي العاملة لم يؤد الى إعادة تنظيمهم في آليات جديدة، آلية المصنع والنشاطات المدنية بالتحديد. وعلى هذه الأرضية قامت الثورات أو الانقلابات العسكرية. ومن هذه الأرضية استمدت الثورات شعبيتها.

    لذلك علينا أن ننطلق من وعي ذات الفترة، فالجماهير المنطلقة بغبطة وسعادة الى الشوارع لم تكن مخدوعة بل كانت تعبر عن سخط على النظام الذي تم إسقاطه وترحيب أو أمل بأن القادم الجديد سيجلب لها شيئاً. ان ما حصل لدينا ليس استثناء فإن وجود أفراد ذررتهم العلاقات السابقة، جعل من الممكن الاستفادة من سخطهم من قبل مجموعة من العسكرية أو غيرهم أنجزت هذه الثورات.

    ماهي خصوصية بلدان الشرق في هذا السياق؟ ما حصل عندنا هو وجود آلية مكنت الدولة من التسلط ولعب دور طفيلي. هذه الآلية سبقت ومهدت للثورات كثورة 1958. وهذه الآلية لم تنتجها الثورة بل استفادت منها، والمقصود هنا إتفاقية المناصفة مع شركات النفط. لقد جرى حديث عن الدولة وتدخلها بعد الثورات، وفي الحقيقة ان أرضية هذه الآلية قامت في العراق وفي ايران، وبشكل أقل، في مصر قبل حدوث الثورات التي جاءت لتلتقط ثمار هذه الآلية. ففي سنة 1950 كانت عوائد العراق من النفط هي 6 ملايين باوند استرليني، وفي سنة 1954 قفزت العوائد الى 54 مليوناً. ويعني هذا ان القفزة هي أكبر بأضعاف من القفزة التي حصلت سنة 1973 بالمعنى النسبي. أدى هذا الأمر الى زيادة الامكانيات المتاحة للدولة، وهذه هي الأرضية التي مكنت السلطات التنفيذية من أن تستغني عن البرلمانات بترافق مع فقدان البرلمانات لوظائفها الفعلية. وفي الحقيقة اذا لم نأخذ العنصر الثاني الذي لا علاقة له برغبة الطبقات، وأعني بالعنصر الثاني امكانية حصول الشيء وليس فقط كونه مرغوباً من جانب فئة ما، لن نفهم معنى الانتقال من الحكم غير المباشر الى الحكم المباشر. لا تستطيع أي سلطة أن تمد مجساتها الى المجتمع مباشرة كدولة مركزية. لذلك فإن البرلمان الملكي قام على أساس ضمني هو الاعتراف بأن سلطة الدولة على عشائر أو طوائف معنية تمر من خلال شيخ العشيرة أو وجيه الطائفة. وهذا هو المستوى الوسطي الذي يتوسط العلاقة بين القاعدة والحكم. وقد يعطينا هذا الأمر احساساً بالديمقراطية، وهو ما أوهم أشقاءنا اللبنانيين لفترة طويلة بأن هذه هي الديمقراطية، بينما هي، في الحقيقة، شكل من أشكال الحكم غير المباشر لمرحلة ما قبل الرأسمالية.

    كانت السلطة المركزية في العهد الملكي عاجزة عن أن تمد مجساتها الى المجتمع مباشرة. لذا كان هناك مستوى متوسط، يمثله الأعيان والشيوخ ووجهاء المدن، قائم بين الدولة والأفراد من أبناء المدينة أو الريف. وجود هذا المستوى ليس رغبة من هذا الحاكم أو ذاك، بل يرجع الى ان الامكانية التقنية – بالمعنى الواسع لكلمة تقنية – لكي تمد السلطة مجساتها الى المجتمع لم تكن قائمة بعد. وحين قامت هذه الامكانية حصلت الثورات. وهكذا فقد كبار الشيوخ وأعيان المدن وظائفهم الاجتماعية وتجسد ذلك في الهجرات الواسعة والانتفاضات المدنية التي هي في أحد مظاهرها تعبر عن اختفاء دور أعيان المدن في تمثيل أبنائها والسيطرة عليهم. وبهذا المعنى وجدت سلطات استمدت قدرتها على الاستقلالية النسبية عن الفئات المهيمنة بفعل اتفاقيات المناصفة. ان هذه الأرضية لن ينتجها عبد الكريم قاسم بل استفاد منها لكي يعززها ويرتقي بها. والسؤال ما تأثير ذلك على آفاق الديمقراطية، وما هي العلاقة الدستورية بين الحاكم والمحكوم؟ من الناحية التاريخية نشأ الدستور قبل نشوء الرأسمالية، وكان تعاقداً بين النبلاء والملك الاقطاعي. وقد نشأ الدستور لتنظيم العلاقة المختلة بين الملك الضعيف الذي كان بحاجة الى فرسان الإقطاعيين. وكان النبلاء بحاجة الى الملك للدفاع عن اقطاعياتهم. وهذه كانت علاقة ملزمة وتعاقدية، فرضت قيوداً من جانب النبلاء على الملك، والتزامات من جانب الملك إزاء النبلاء، وحين ازداد ثقل التجار أصبحوا المرتبة الثالثة ودخلوا الى البرلمان. ان العلاقة الدستورية لم تنشأ برغبة هذا الحاكم أو ذاك. والماغنا كارتا (الوثيقة العظمى 1215) سنّت قبل نشوء الرأسمالية بكثير. القضية لا تكمن في ان اتفاق مجموعة من الناس على أفضلية الحكم الدستوري على الحكم اللادستوري سينتج هذا الدستور. ومن الممكن هناك أن يضعوا دستوراً جميلاً ولكن لا ضمانات فعلية لاستمرار هذا الدستور. باختصار، لا ضمانات راسخة لأي حكم دستوري من دون وجود توازن قوي تصل من خلاله الطبقات الاجتماعية المختلفة الى قناعة بحاجة إحداها للأخرى، وبتلازم بقائها مع بقاء الطبقات الأخرى. وهذا لا ينفي بالطبع الصراعات الاجتماعية التي تحاول كل فئة من خلالها تحسين شروط حياتها ووزنها على حساب الفئات الأخرى.

    إن نشوء الدولة الريعية عندنا بسبب اتفاقية المناصفة جعل هذه العلاقة الملزمة بين الحاكم والمحكوم غير قائمة. ولنقارن هذه الظاهرة مع الشعار الأمريكي "لا ضريبة بدون صوت"، فدفع الضريبة يعني ان جهاز الدولة وموظفيها، بمن فيهم القادة، مدينون الى المواطن الفرد الذي يتكفل معيشتهم مقابل خدمة مصالحه. وهذا ما يسمح للفرد بأن يكون له صوت في السياسة. ان العلاقة الملزمة بين الحاكم والمحكوم انتهت مع صعود الدولة الريعية، ولا أقصد هنا بالدولة الريعية الدولة الغنية، بل أقصد الدولة التي تستمد مواردها المالية من اقتطاعات خارج نشاط الفئات الاجتماعية، فحصول الدولة على المال عن طريق ضخ النفط مثلاً، وهنا لا تشعر الدولة المواطن بانها اقتطعت من دخله وبالتالي للمواطن حقوق عليها بسبب هذا الاقتطاع. وهذا هو جوهر فكرة المكرمة عند صدام حسين. فالمجتمع مذرر والسلطة تشجع الفرد ليكتب للرئيس مرحمة، لكي يزوده بالأموال. كان البعث واعياً كل الوعي بهذا الواقع فشجع الفرد على أن، يطلب بصورة الاستجداء، ولكن بالمقابل كان أي مطلب جماعي مهما كان بسيطاً يقابل بقمع شرس. (في اواسط السبعينات كان هناك خط هاتفي مباشر يمكن للأفراد استخدامه للاتصال "بالسيد النائب" لطلب المكارم الشخصية). وجرى تحريم الحصول على حقوق من الدولة التي عمَقَت الاحساس بان لا حقوق للمواطن تجاهها. يمكن للمواطن أن يستجدي ويأخذ كَمِنّة، ولكن لا حقوق له على الدولة. وهنا بالامكان الاغداق على أي شخص بصفته الفردية ولكن لا يجوز أن يطلب حقوقاً بصفته ممثلاً لمدينة أو طائفة أو تجمع نقابي. وكل هذه الأمور من المحرمات.

    للثورات مهمات تدميرية لتقويض البنى المتفسخة، ومهمات بنائية لانشاء آليات أحدث للتنظيم. ثوراتنا في المنطقة أنجزت المهمة التدميرية بنجاح فائق: الاصلاح الزراعي حطم ما بقي من أسس ومشروعية العلاقات ما قبل الرأسمالية، ومحاولة حماية السوق وتأميم النفط ..الخ. ويسهل اليوم أن نقول بأن هذا الشعار أو ذاك كان خاطئاً، ولكن لا بد أن ننظر الى الأمور بمنظار ابن تلك الفترة لتلك الشعارات. فعندما ترى سطوة الشركات الاجنبية ونهبها وأنت ابن المدينة الجائع، يكون من الصعب الآن القول بأن الشعار المعادي لبريطانيا والتحرر من الاستعمار بصورة راديكالية آنذاك لم يكن هاجساً لرجل الشارع في ذلك الوقت. يجب أن نضع أنفسنا في تلك الفترة، فمواطن تلك الفترة كان يرى ان شركات النفط هي التي تنهب، وبالتالي من الصعب أن نتحدث في عام 2000 بأن رغبة التخلص من بريطانيا لم تكن هاجساً عند الشارع.

هذه هي أرضية صعود الدولة الريعية، الدولة التي ذررت وفتت.

    لكن بين التذرير ونشوء المجتمع المدني فجوة هائلة، هي الفجوة بين الدولة الريعية والدولة الصناعية، وهنا تكمن أزمتنا. قلتُ ان النظام العشائري فقد مشروعيته الايديولوجية عشية ثورة تموز 1958. وليس هذا مجرد شعار، بل ان ترجمته الفعلية تمثلت في كثرة حالات التمرد من جانب أبناء العشائر ضد الشيوخ، والهجرة شكل من أشكال الخروج على طاعة الشيخ. لكن هذا لا يعني قط ان مجتمعاً مدنياً نشأ على انقاض ذلك.

    قبل ستين عاماً درس باحث موهوب هو صالح حيدر الريف العراقي وتوصل الى ان القبيلة فقدت وظيفتها، كما فقد الشيخ سلطته المعنوية مع تحوله الى مالك أرض على حساب أبناء قبيلته. 

    لكنه أبرز ان البديل الذي ظل يحظى بثقة الفلاح هو فخذ العشيرة ورئيس الفخذ. لقد اكتسب السركال وظيفة اجتماعية أكبر من وظيفة شيخ القبيلة، لذا فان انتهاء الوظيفة الاجتماعية لشيخ القبيلة لا يعني صعود المواطن الفرد. والمجتمع المدني والديمقراطي ليست وصفات أو برامج سياسية، فهذه مقولات تاريخية لا يمكن أن تنشأ لمجرد ان مجموعة من المثقفين والسياسيين يريدون قيامها. انها لا يمكن أن تتأسس دون أن تتوفر لها أرضية تسمح لها بتأدية وظيفة اجتماعية.

    يقال دائماً بأن استبداد النظام وفساده هما اللذان أبَّدى هذا الوضع، وفيهما تكمن أسباب الاخفاق. عند مراجعة تجارب دول معينة نجحت في التحديث ككوريا الجنوبية وتايوان نجد ان الفساد والمحسوبية والقرابة والدكتاتورية القمعية كانت ملازمة لها، ومقاربة لما حصل في منطقتنا. ولذا فإن الفساد وحده لا يفسر لماذا أخفقنا، في حين نجح دكتاتوريون وفاسدون آخرون. القضية هنا بتصوري، تتعلق بفكرة الدولة الريعية. ففي العالم الثالث كان هاجس الأنظمة التي جاءت الى الحكم بعد الثورات هو كيفية تحقيق أعلى ما يمكن من العملات الصعبة لكي لا يتم الاعتماد على الخارج عبر الاستدانة. ففي النموذج الكوري الجنوبي وتايوان على سبيل المثال كانت الأنظمة تتغاضى عن مظاهر الفساد بشرط تحقيق نسب عالية في التصدير. والنجاح هو المعيار. لقد كانت هذه الأنظمة مختلفة خصوصاً بعد اعتراف امريكا بالصين والخوف من أن تفك الولايات المتحدة دعمها عنهم. وهذا ما دفعهم للتصدير لتوفير عملة صعبة وتطلب الأمر المنافسة وتطوير الكفاءة في أسواق فيها بضائع متعددة المناشئ.

    ما حصل عندنا هو ان وفرة المال النفطي لم تفرض قيوداً كهذه على دولنا. كان الهدف الأول للدولة عندنا القضاء على البطالة، وهو هدف شعبوي بامتياز. ولم يكن هدف الخطط الخمسية تقليل المديونية لأنها لم تكن موجودة بالمعنى الحقيقي، وهذا أدى الى خلق أرضية اجتماعية مرتاحة نتيجة توفير وظائف وفرص عمل، ونتذكر قرار مجلس قيادة الثورة لعام 1974 بتوفير وظيفة لكل خريج جامعة. بلد مثل كوريا لم يكن يستطيع اتخاذ مثل هذا الاجراء. وأصبحت مهمة الدولة الريعية التوظيف وهذا أدى الى ترهل جهاز الدولة وصعود الأنظمة الشعبوية. وما إن أدركنا أن القمع لعب دوراً كبيراً في اسكات الشعب عن التمرد، علينا الاعتراف بأن التحسن الهائل لمستوى المعيشة أدى الى خلق نوع من الاذعان لدى الشعب العراقي. والاذعان لا أقصد به التأييد أو الحب، ولكن، على الأقل في أسوأ الأحوال قبول وصمت.

    لئن دخلت دولة العهد الملكي الى المجتمع عبر وسائط كشيخ العشيرة مثلاً، فإن دخول الدولة الحالية الى المجتمع يمر عبر الحزب وهو ليس قاعدة شكلية أو مجرد واجهة. رغم ان هذا الحزب مترهل كأي حزب حاكم، إلا اننا سنخدع انفسنا لو قلنا انه ليس ثمة بعثي يأخذ علاقته بالحزب كعلاقة جدية. ان مثل هذا التصور خداع للنفس عند اليساريين والإسلاميين عموماً. واضافة الى الحزب هناك المنظمات الجماهيرية التي لم تكن أيضاً مجرد واجهة شكلية للسلطة، وأعضاؤها من الانتهازيين، بل هناك من انضم اليها بقناعة، وأحب هذه الاتحادات. ولهذا دخلت الدولة الى الحكم المباشر الذي يوصل مجساته الأيديولوجية والقمعية الى أقصى البلاد، ويتدخل حتى عبر العائلة.

حين انسحبت دولة الرعاية الاجتماعية بشكل عام في أوائل الثمانينات، تجلى الكثير من مظاهر المعاناة الكبيرة في الوضع المعيشي والصحي. وما يعيشه الإنسان العراقي ليس بفعل الحصار بل ان الحصار عمَق هذه الظاهرة التي كانت قائمة منذ الثمانينات. لقد كان محتّماً على الدولة العراقية أن تتراجع عن اتساعها. فالتدخل له منطقه الداخلي سواء وجدت حرب أم لا. حين بدأت الدولة بالخصخصة في العراق، فإن هذا الأمر يختلف عما جرى من خصخصة في بريطانيا في عهد تاتشر على سبيل المثال. ففي بريطانيا كان هناك نظام الضمانات الصحية والمساعدات الاجتماعية التي تسند ظهر المواطن. أما المواطن العراقي وعندما حصلت الخصخصة فقد وجد ان لا آلية اقتصادية أخرى تستطيع أن توظفه وتشغله، ولا مستشفيات تستطيع أن تعالجه، ولا مدرسة لتعليم أولاده. وبهذا المعنى انبعثت الهويات الجزئية من جديد. وأقصد بها الهويات دون الوطنية، وهي ليست تكراراً لهويات الأربعينات. إذ تلعب تلك الهويات الجزئية دوراً في التواصل بين السلطة والناس. والمتابع لأحداث الانتفاضة (انتفاضة 1991-المحرر) يجد أن العشائر العراقية، حيث ما بقي لها نفوذ، لعبت دوراً مشيناً في قمع الانتفاضة، فحين هرب المنتفضون، وأغلبهم من أبناء المدن والمراكز الحضرية، كانت العشائر هي التي سلمتهم الى السلطة. وعلينا ألا نبالغ بأن العشيرة لا تزال متضامنة ومتجانسة. حيث ما وجدت العشيرة فإنها لم تعد تلعب هذا الدور الكبير.

   ان التباري من قبل بعض جهات المعارضة بأن أبناء العشائر يقاومون غير صحيح، فمن يقول بأن الشخص الذي يقاوم يفعل ذلك باسم عشيرته؟ ويبدو ان البعض يساهم في تأجيج العشائرية وهي غير موجودة. وان إعادة إحياء هذه المؤسسة له مدلول راهن يتعلق بالخصخصة لا بالمعنى الاقتصادي فحسب بل حيث لا أساس موجود آخر لكي تصعد رأسمالية محلية فاعلة. لقد عمقت السياسة الريعية لنظام التذرير، فربطت الافراد على امتداد نصف قرن بالدولة كرب عمل، ومشتر لخدمات المقاول والصناعي، ومجهز لمواد أولية مستوردة ومنتجة محلياً بأسعار مدعومة من قبلها. فلما انسحبت الدولة، اتجه المقاول الى ملء نشاطات كانت الدولة تقوم بها لكنها لا تتطلب تشغيل قوة عمل دائمة واسعة الحجم. ووجدت الغالبية الساحقة من المواطنين أنفسها عزلاء دون ضمانات. وهنا يكمن جذر انبعاث الهويات الطائفية، والعشائرية والإقليمية، التي تقدمت لملء الفراغ لتقديم العون والعلاج والتعليم، أو المواساة في أسوأ الاحوال، لمن لم تعد لديهم ضمانات أخرى. انها ظاهرة حديثة ذات وظائف اجتماعية مختلفة، وليست مجرد استمرار للهويات السابقة.

   كيف أرى المستقبل؟ لا شك ان النظام الحالي سيسقط اليوم أو غداً. وهناك آثار قائمة ستفرض نفسها على النظام حتى لو استمر. ففي ظل هذا الخراب القائم، ليست هناك كتلة اجتماعية – ولا أقصد احزاباً – في العراق لديها برنامج تحديثي حقيقي وبرنامج بديل. ان اليسار الذي كان يتبارى في تبني برامج كبيرة، أصبح تحت ضغط السطوة اللبرالية، ويستحي ان يطرح برامج اجتماعية حتى لا يقال له انه مع التدخل. ان القضية ليست في التدخل من قبل الدولة أو اللا تدخل. ان الديمقراطية شكل للنظام المطروح كبديل، ولكن ما هو المحتوى؟ لقد غابت صورة أي شعار مستقبلي لدى الحركات السياسية كالتقدم والتحديث ناهيك عن الاشتراكية والتنمية ..الخ. ان الحديث يجري عن بديل ديمقراطي، أما شكل هذه الديمقراطية ومحتواها فلا تجدها في الخطاب القائم. وبهذا المعنى غابت صورة المستقبل، وغابت كتلة معينة من المجتمع لها برنامج تحديثي.

   كيف سيسير الأمر في هذا المجتمع المذرر؟ ان كردستان العراق صورة مصغرة أمامنا لما يجري. لا نشاط واسع للقوى المجتمعية – القطاع الخاص – فالحصار عزز هذا الشيء. فالامكانيات المالية تمر من خلال قادة الأحزاب. وازداد الشكل الريعي في كردستان. فإذا لم يكن للفرد علاقة مع أحد الحزبين، لن يستطيع الشروع في نشاط حياتي مجز. ومن دون حماية ميليشيا من الميلشيات حتى الاشتغال في التهريب يغدو متعذراً. وهذه هي احدى نتائج الدولة الريعية. والأوسع والأخطر من هذا هو ما الذي سيحدث في ظل تباري القوى جميعاً بالحديث عن الليبرالية ؟ ان الشكل الأكثر احتمالاً هو دور البنوك، وبضمنها البنوك الاسلامية، ووصفات صندوق النقد الدولي تشجع ذلك. وفي العراق سيتأجج الصراع الطائفي، فالبنك السعودي، وهو مؤسسة مالية، والبنك الإيراني، أيضاً مؤسسة مالية، ولكنهما سيتحولان الى واجهة لأحزاب وحركات سياسية، ولن ينعدم في ظل البطالة والخراب من يعمل لديها. ان صورة الخراب الاقتصادي في ظل الانفتاح الذي قاده السادات ستكون مضاعفة لدينا.

    وأنهي كلامي بالقول ان امكانية اقامة ديمقراطية بالمعنى الذي نتمناه صعبة في المدى القصير طالما هناك مجتمع يعمل بدورات متوازية. فمن يعمل بالبيع على الأرصفة لا علاقة له كنمط قيم وعلاقات اجتماعية ومنظومات بمن يعمل في شركات الاستيراد والتصدير التي تتعامل مع الولايات المتحدة. وهذا الأخير لا علاقة له بمن يعمل ضمن المؤسسات المالية الاسلامية. وفي حالة عدم وجود آلية تربط فئات المجتمع وتشعرهم بأن الواحد منهم يحتاج الآخر، لن تكون هناك ضرورة لعلاقة دستورية. ولكن يجب أن نميز بين رغبة خيرة للقيام بشيء وبين أرضية سلمية قيامه، والمسافة بين الأمرين كبيرة. ربما سيُحزن العلمانيين القولُ بأنه ربما كان علينا أن نقلل مما نتمناه وأن نرضى كبداية للطريق نحو الديمقراطية بالاعتراف بالطريقة التي يرى الناس أنفسهم بها.

    ذلك ان الهويات ليست، ولا يمكن أن تكون حصرية قط. لقد تعودنا أن نحصر الولاء الحديث بالوطن، ولكن حين يشعر المرء بنفسه عراقياً فهذا لا يعني انه لا يمكن أن يشعر بنفسه مسلماً أو مسيحياً أو آشورياً أو كردياً، أو غير ذلك. وهذه الظاهرة ليست عراقية أو عالمثالية بل تجدها في أكثر الدول تقدماً، وفي أحيان تاريخية معينة قد يطغي شكل معين من الهوية ولكن الهويات تكون على الدوام ملتبسة ومتراكبة في ما بينها.

    فإذا كان الفرد يرى ان انتماءه العشائري يسبق غيره فعلينا أن نوجد آليات للديمقراطية لا تقول له بأن هذا الأمر مختلف. دعنا نجد أشكالاً لمن يرى نفسه ابن عشيرة قبل أن يكون عراقياً، ودعه يتممه بهذا الشيء حتى يكتشف الى اين يوصله ذلك. أما القفز على حقائق الواقع والقول ان المواطنة تسبق هذا الشيء فإن ذلك يولد ردات فعل متفجرة.

 

المادة تمثل نص المداخلة الشفوية التي قدمها الدكتور عصام الخفاجي في ندوة معوقات الديمقراطية التي اقيمت في هولندا في نيسان 2001، وهو أستاذ جامعي وكاتب .

نشرت في الثقافة الجديدة/ العدد 303/ كانون الأول 2001