تشرين1/أكتوير 10
   
 
    تتباهى الدول المتقدمة بمفخرة الديمقراطية وتعتبرها من طبيعة الرأسمالية. ويصر المدافعون عن هذا النظام على العلاقة الوطيدة بين الرأسمالية والحرية والديمقراطية. وقد قدمت الانظمة الشيوعية، هنا ايضا، خدمة كبيرة للرأسمالية عندما سوّغت الادعاء بأن الاشتراكية، هي عدو الحرية والديمقراطية، وان الليبرالية الاقتصادية هي الطريق الوحيد الذي يضمنها.
    بإمعان النظر في هذا الادعاء، يمكننا الملاحظة، بداية، ان الرأسمالية، خلال الجزء الاكبر من تاريخها، لم تكن مرتبطة بالديمقراطية بأي معنى من المعاني، وان جميع المحافظين والليبراليين المدافعين عن النظام الرأسمالي كانوا دوما مصممين على مقاومة تقدم الشكل الديمقراطي، وخاصة فيما يتعلق منه بتوسيع حق الانتخاب والكثير من الاصلاحات الديمقراطية الاخرى ايضا. لقد احتاجت الرأسمالية في البداية لحريات معينة من أجل ان تتطور. وقد ارتبط هذا تاريخيا بمطالبة البرجوازية بهذه الحريات من اجل كبح الاستبداد وحماية الافراد، وخاصة ذوي الملكيات، حمايتهم من ابتزاز الدولة ورقابتها. ورغم اهمية هذه الحريات إلا انها ابقت سواد الشعب تحت ظروف قاسية من الكبت الاقتصادي والسياسي. وكانت هذه الديمقراطية، بالشكل الذي تحققت فيه، ديمقراطية تقتصر على من يملك ثروة، وبقيت الغالبية العظمى التي لا تملك حصة من ثروة البلد خارج نطاق هذه الديمقراطية. وجاء توسيع ممارسة الديمقراطية والحرية نتيجة لضغط عنيد من مصادر متنوعة، اهمها الحركات العمالية واليسارية، ضد قوى السيطرة والامتيازات، وبمساعدة بعض افراد الطبقة المسيطرة الذين كانوا يخشون عواقب المقاومة المستمرة لتوسيع الممارسة الديمقراطية. ومع نمو الحركات العمالية واحزاب الطبقة العاملة في العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر، بات من الصعب الاستمرار في حرمان الاغلبية من حق المواطنة السياسية. وهكذا اتاحت، على مضض حق الاقتراع، بداية للذكور، ثم أخيرا إبان القرن العشرين للنساء. ولكن من المفيد ان نتذكر حجم مقاومة أصحاب الامتيازات المتمترسة عبر اوروبا (وبطرق مختلفة في امريكا ايضا) لهذه الدرجة المحدودة في توسيع الديمقراطية، وكذلك ان نتذكر الآلية التي استخدمتها اجهزة الدولة تحسبا للمخاطر على تلك الامتيازات، المتمترسة منها والبرجوازية من الخطر المتمثل في تطبيق الديمقراطية.
    على ضوء هذه المقاومة الثابتة يجب ان ننظر الى اهم ادعاءات المحافظين، وتحديدا اصرار محافظي القرن العشرين على انهم، هم بالذات، اكثر المدافعين عن الديمقراطية غيرة. وما مكنهم من مواصلة هذا الادعاء هو المعنى الضيق الذي اعطوه للديمقراطية، فهم يعرّفونها على انها التنافس بين النخب السياسية من اجل الوصول الى السلطة عن طريق الحصول على التأييد الشعبي في الانتخابات القائمة على التنافس.
    في كتاب "الرأسمالية، الاشتراكية والديمقراطية" الذي نُشر لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1942 والذي قُدّر له ان يؤثر تأثيرا هاما على النقاشات اللاحقة حول معنى الديمقراطية، عرّف المفكر الاقتصادي جوزيف شومبيتر Jiseph Schumpeter الديمقراطية على انها "ترتيبات مؤسساتية للتوصل الى قرارات سياسية يحصل الافراد من خلالها على سلطة اتخاذ القرار عن طريق المشاركة في انتخابات قائمة على التنافس". وقد اعتبر أي شيء ابعد من ذلك في سبيل صناعة القرار الشعبي، خطيرا وغير مرغوب، وأيّد وجهة النظر هذه عدد كبير من منظري الديمقراطية في سنوات الخمسينات وما بعدها. ويمكن ان نضيف الى ذلك عددا من الحقوق السياسية والمدنية والمعروفة تقليديا بارتباطها بالليبرالية وما اكتنف تلك الحقوق من تقييدات.
    على كل حال، اذا اعتبرنا ان الديمقراطية تمنح "الناس العاديين" سلطة حقيقية في جميع مجالات الحياة التي تهمهم، فإن فكرة كون المجتمعات الرأسمالية ديمقراطيا تنتمي الى اساطير السياسة، وليس الى واقع هذه المجتمعات. فالديمقراطية الرأسمالية تعني وجود صيغ ديمقراطية تجعل الضغط النفسي على السلطة والدولة ممكنا، كما تجعل اقالة الشخصيات المنتخبة بما فيها اقالة الحكومة نفسها، ممكنا أيضا، وليس هدفنا الاقلال من ذلك. كما ان الديمقراطية الرأسمالية تمكّن بالفعل من انتخاب حكومات تنشد الاصلاحات الجذرية.
    في الكثير من بلدان العالم صيغ شكلية للديمقراطية، ولكن الاجراءات والممارسات التي تقتضيها الممارسة الديمقراطية فيها تحولت الى خدعة، حيث نجد تزوير الانتخابات وإرهاب المعارضة. فانتخابات كهذه تنتمي الى حقل العلاقات العامة، وتقام أصلا من اجل الحصول على مساندة الولايات المتحدة لاشتراط هذه الأخيرة على البلدان التي تطلب المساعدات ان "تمارس الديمقراطية". مع ذلك يعد التحول من الديكتاتوريات الى انظمة "ديمقراطية" تحسنا يستحق الترحيب ولكن يبقى هذا التحسن محدودا حيث لا تؤثر التغيرات السياسية في النظام كإجراء الانتخابات كثيرا او مطلقا على النظام الاجتماعي الجائر، وهي لا ترمي، ذلك اصلا. أما في الأماكن ذات التاريخ الطويل في تطبيق الديمقراطية، حيث تتمتع الرأسمالية بتأييد عدد كبير من الناس، فيمكن للأساليب الديمقراطية ان تكون اكثر أهمية. ولا بد من الإشارة الى ان الانتخابات إذ تؤدي، أحيانا كثيرة الى تغيير كبير في السياسة وتقود أحيانا الى تغيير موظفي الإدارة ايضا، فإن انعكاس كل ذلك على السياسة العامة هو عادة أضعف بكثير مما تدعيه الأحزاب السياسية في حملاتها الانتخابية. ويلاحظ البروفسور ادمون مورغان ان المشاركة في الحياة السياسية التي كانت الانتخابات في أمريكا تتيحها قبل استقلالها انما كانت "صمام امان"، أي انها فسحة تتيح للمستضعَفين الشعور، بعض الوقت، بأن لديهم سلطة هم عادة محرومون منها، سلطة نصفها سراب، فهي طقوس لإعطاء الشرعية، أي حق العامة بتجديد موافقتهم على حكومة الأقلية". ويمكن قول الشيء نفسه عن الانتخابات في الولايات المتحدة حاليا وفي ديمقراطيات رأسمالية أخرى ايضا، مع إضافة ان الانتخابات قد تتمكن أحيانا من إحداث تغييرات فعلية.
    ويجب ان لا ننسى حقيقة أخرى حول الرأسمالية تقوض ادعاءها بالديمقراطية، لأن "الحرية الاقتصادية" تمكّن المتحكمين بالنفوذ الاقتصادي للشركات من اتخاذ قرارات هامة جدا تخص الحياة المحلية، الإقليمية والوطنية. ويكون لهذه القرارات تأثيرات عالمية كبيرة أيضا، ذلك دون الرجوع الى الجماهير التي تنعكس عليها هذه القرارات. وهذا يعني مثلا ان تندمج الشركة مع أخرى فيجد العمال انفسهم يعملون لدى رب عمل جديد دون ان يكون لهم أي رأي حول هذا الاندماج. ويسري ذلك على جميع المجالات التي تتحكم بها سلطة الشركات. ففيما يخص القرارات الهامة، نرى ان استشارة العمال المأجورين تبقى في حدها الأدنى، هذا اذا ما حدث أصلا.
    ان ذوي النفوذ الاقتصادي ملزمون ان يعملوا ضمن الضوابط التي تحددها سلطة الدولة، كما ان عليهم الاهتمام الى حد ما بالآراء الخارجية، ما جعل العلاقات العامة صنعة مزدهرة. ولكن هذه الشروط التي تخضع إليها القوى الاقتصادية، متساهلة جدا بحيث تترك متسعا للمناورة والاستقلالية لأناس عليهم، بحكم مواقعهم، ان يهتموا بالدرجة الاولى بجني اكبر الارباح لشركاتهم، واي همّ آخر لا يشغل سوى مساحة ثانوية في قراراتهم. وما يجعل هذا الامر أسوأ هو نمو الشركات المتعددة الجنسيات بحيث ان اهتمامها محدود بالمدينة او الاقليم او البلد حيث تعمل.
    لا تملك الديمقراطية حق الدخول الى قاعة اجتماعات مجالس ادارات الشركات، وليس لها حضور يذكر في عملية الانتاج بشكل عام. ان "مشاركة" العمال في عملية الإنتاج تعدّ مسألة أساسية. ولكن هذه المشاركة لا تغير الطبيعة التسلطية لعلاقات الإنتاج في البلدان الرأسمالية، فهي تقوم على حماية امتيازات الإدارة واستخدامها لتلك الامتيازات. بكلمة أخرى، هناك أقلية صغيرة من الناس تسيطر على جانب حياتي واسع يهم الجميع، وهذه الأقلية لا تخضع الى المساءلة إلا بقدر ما يسمح القانون بذلك، فهي ليست مسؤولة امام احد سوى أصحاب الأسهم. أما أصحاب الأسهم فسعداء في الغالب بترك المبادرة للإدارة شرط الحفاظ على الأرباح الكافية.
    لا بد من الإشارة الى صفة أخرى من صفات الديمقراطية الرأسمالية، وهي ان الحقوق التي تنادي بها مهددة دوما بالتآكل ان لم نقل بالإلغاء الكلي. ويمكن لأصحاب النفوذ في المجتمعات الطبقية التي تستوطن فيها الصراعات، ان تضايقهم هذه الحقوق لأنها معوقة لغاياتهم، فيحاولون تقليص مضامينها ومداها، خاصة عندما تزداد حدّة الصراعات الطبقية. أكثر الأمثلة على ذلك وضوحا هي القيود الصارمة التي يخضع لها حق الإضراب في الديمقراطيات الرأسمالية. فلهذه الأنظمة الرأسمالية جانب تسلطي قوي موازٍ للصيغ الديمقراطية ومتساوقٍ معها تقريبا، ولكنه في صراع دائم معها. كما يجد هذا الجانب التسلطي انعكاساته العملية في الحياة اليومية: في الجمود البيروقراطي الذي يتعامل به المتلقون للمعونات الحكومية، في طريقة التعامل مع العمال الاجانب، في ممارسات البوليس الفظة وإنكار المسؤولين والقضاة لهذه الممارسات او تبرئة أصحابها، في الظروف الرديئة لحياة السجون في غالبية هذه البلدان، وما إلى ذلك.
    يمكننا القول ان الديمقراطيات الرأسمالية اقل الأنظمة التسلطية قسوة، ولكن حقيقة كون سجلات الديمقراطيات الرأسمالية فيما يخص الحقوق المدنية والسياسية أفضل من سجلات الانظمة التسلطية، يجب ان لا تنسينا المظالم التي تشكل جزءاً من الحياة اليومية لكثير من الناس الأشد فقرا في هذه المجتمعات. يمكن للمرء ان يهز كتفه بلا مبالاة قائلا ان ما يعزى الى النظام الاجتماعي الرأسمالي من صفات يصح بالنسبة الى أي نظام اجتماعي آخر، وان اكثر ما يمكننا ان نطمح إليه هو تخفيف الشرور الفادحة الجلية. اما الاشتراكيون فلا يقبلون بهذا ويعتقدون ان من الممكن، في الظروف المناسبة، تحقيق ماهو افضل من ذلك بكثير.          
نشرت الماد في العدد 278، أيلول – تشرين أول 1997، ص 13 -17