أيار 17
 
 
“حيثما نبحث عن الانتلجنسيا لا نجد إلاّ المثقفين” – د . الطاهر لبيب(1)
 بداية تنطلق هذه الدراسة من فرضية انه ليس هناك من (تطابق) أو (توافق) يجمع ما بين مصطلح (الانتلجنسيا) كما نشأ وتبلور ضمن سياقات المجتمعات الغربية - روسيا تحديداً- وبين ذات المصطلح كما جرى تبنيه وشاع استعماله في الدراسات الأكاديمية والخطابات الإيديولوجية الخاصة بالمجتمعات الشرقية، ليس فقط لاختلاف الأمكنة التي انبثق عنها والأزمنة التي ظهر فيها فحسب، وإنما لاختلاف المعطيات وتباين السياقات وتنوع الثقافات التي ساقت الفكر/ الوعي لنحت وبلورة مثل هذا المصطلح/المفهوم كذلك. ولهذا نعتقد إن الباحث العراقي (عقيل الناصري) يجانب الصواب حين يستنتج إن “ظروف نشأتها في العراق هي قريبة، إلى حدّ ما، على نشأتها في روسيا، حيث كان نظام العبودية له السيادة في الريف الروسي ولغاية إلغائه قانوني عام 1863، والتطور الرأسمالي متأخر نتيجة ضعف قوى الإنتاج وسيادة تعددية للأنماط الاقتصادية لغاية ثورة أكتوبر. وهكذا كان الحال بالعراق في المرحلة العثمانية، إذ تشكلت هذه الفئة في ظروف مشابهة للظرف الروسي، إن لم يكن الأسوأ، حيث سيادة النزعة الدينية المحافظة بمؤسساتها التقليدية وعدم تطور القوى المنتجة، وسيادة العلاقات ما قبل الرأسمالية وبخاصة المشاعية الريفية. هذه الظروف أثرت بقوة على سياق تطور فئة الانتلجنسيا وتبلورها”(2). هذا وقد كان الباحث الفلسطيني (ناجي علوش) قد تنبّه لهذا الأمر وأشار إليه بالقول: “إن المثقف من وجهة نظرنا واحد مما يسمى (الانتلجنسيا) يملك قدراً من الثقافة التي تؤهله لقدر من النظرة الشمولية، وقدراً من الالتزام الفكري والسياسي. ولكن هذا التعريف يضعنا أمام إشكال، لأن الانتلجنسيا لم تتكون في وطننا، كما تكونت في روسيا أو أوروبا. فلم يحدث عندنا عصر تنوير، ولا عصر ثورة علمية، ولا ثورة برجوازية تحررية على الإقطاع والكنيسة. وكل ما حدث عندنا، منذ الحملة الفرنسية 1789م وحتى الآن، لا يدعو أن يكون اتجاها”إصلاحيا”توفيقيا”، استند إلى التراث حينا”، والى الثقافة الأوروبية حينا”، والى الاثنين معا”في بعض الأحيان، وانعكس هذا في الثقافة ضعيفاً مهزوزاً، وولد مدارس فكرية وسياسية مقلدة. وعليه، فنحن هنا أمام مفهوم للانتلجنسيا لا ينسجم تماماً مع المفهوم الأوروبي المعروف”(3). هذا بينما أشار عالم الاجتماع (الطاهر لبيب) إلى إن مفهوم “الانتلجنسيا ليس أكثر غرابة من صيغ الإيديولوجي والديمقراطي والليبرالي والامبريالي وغير ذلك مما دخل في الاستعمال العربي”(4).
ولتبرير مثل هذا الافتراض فان الضرورة المعرفية والمنهجية تحتم علينا استعراض معنى ذلك المصطلح وإظهار دلالته من جهة، وبيان الفوارق الجوهرية التي تفصل ما بين طبيعة وخصائص الجماعة التي يخصها ويعنيها في بيئة المرجع/الأصل، وبين طبيعة وخصائص الجماعة/ الجماعات التي تتطفل عليه وتتسمى باسمه في بيئة الترجيع/الانتحال من جهة أخرى. حيث إن “الاستخدام الأصلي للمفهوم يختلف عن استخدامه في السياق البولندي والروسي أوائل القرن التاسع عشر، حيث تختلف الانتلجنسيا في كلا البلدين، بوصفها فئة اجتماعية، بفعل ظروف تاريخية واضحة. فالانتلجنسيا الروسية، التي تشكلت من عناصر تنتمي إلى الطبقات الإقطاعية التي كانت قائمة في روسيا خلال القرن التاسع عشر، كانت تقع في البداية على تخوم طبقتي الأوتوقراطية القيصرية وجماهير الفلاحي. غير أن عمليات إدماجهم قد استعارت بعض شمائل وعادات الطبقة الارستقراطية الإقطاعية المتوسطة، ثم أضافت إليها فيما بعد رخصة المؤهلات التعليمية، التي حلت محل المؤهلات العسكرية وغيرها من المؤهلات”(5).
ولكن مع ذلك، فانه إذا ما تصفحنا ودققنا في العديد من المصادر والمراجع الطافحة بمواضيع الثقافة وقضايا المثقف، سنلاحظ إن الغالبية العظمى من أصحابها تعمد تلقائياً إلى مطابقة/ مماهاة مفاهيم/مصطلحات ثلاث، ليس من الحكمة إهمال أو تجاهل ما بينها من اختلافات وتباينات لمجرد إن مصادرها اللغوية والاصطلاحية متشابهة مثل: (المثقفين Intellectuals)، و(الانتلجنسيا Intelligentsia)، و(النخبة Elite)، بحيث يبدو إن الحديث أو النقاش الذي يدور حول الشريحة الأولى ينسحب بالتبعية إلى الثانية أو الثالثة وبالعكس. ولعل المفكر السوري (برهان غليون) يجسّد وجهة النظر هذه بكل وضوح حين أشار إلى إن “ما نطلق عليه اسم المثقفين اليوم في العالم العربي (...) هو ما يتفق ومفهوم الانتلجنسيا الكلاسيكي”(6). لا بل إن هناك من اعتبر هذا المفهوم (الانتلجنسيا) هو بمثابة حاضنة تضم بين جنباتها كل من يمارس نشاطاً ذهنياً أو ينتمي لمؤسسة ثقافية، حيث ذهب الأستاذ بمعهد العلوم الاجتماعية-جامعة وهران بالجزائر الدكتور (عليوش كربوعا كمال) إلى الاعتقاد بأن “الانتلجنسيا هي كلية أو مجموع المثقفين كمنتجين للقيم الثقافية (علمية وفكرية وأدبية وفنية)، والقيم الإيديولوجية (رؤى ويوتبيات ومخططات تفكير وموديلات سلوك ومشروعات تغيير)، وتجسيدات وتحقيقات هذه العلاقات في بنيات مادية-ثقافية ومؤسسات إيديولوجية (مراكز بحث علمي، جامعات، مجلات ودور نشر، اتحادات وجمعيات ثقافية، ومؤسسات ثقافية وإيديولوجية كالصحافة والوسائل السمعية والبصرية. أي ما يمكن تسميته ب (بنية تحتية) ثقافية أو (صناعة ثقافية)”(7).
وليس بعيداً عن هذا الرأي ما ذهب إليه أستاذ الأناسة والاجتماع الديني في كلية الآداب-جامعة بغداد (علاء جواد كاظم) حين عدّ الانتلجنسيا “فئة اجتماعية تتباين في انتمائها الطبقي والإيديولوجي وتتميز بأنها الأكثر ارتباطاً بالعقل وعالم الأفكار والتجريد، ما يجعلها تقفز على المجتمع في أغلب الأحوال، وتساهم فعلياً في عملية إنتاج (منظومة تصورات) إيديولوجية أو بلورتها أو صياغتها أو توزيعها، وتمارس دوراً أساسياً في عملية التحويل الاجتماعي”(8). هذا من جانب، ولكن من جانب ثان نجد إن بعض المؤلفين كان أشد حرصاً وأكثر تحفظاً حيال التمييز بين دلالات تلك المفاهيم والمصطلحات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أشار العالم الاجتماعي البريطاني (توم بوتومور) إلى ضرورة أن “ نبدأ بالتمييز بين المثقفين و(الانتلجنسيا). وقد استخدم المصطلح الأخير لأول مرة في روسيا خلال القرن التاسع عشر للإشارة إلى الذين تلقوا تعليماً جامعياً يؤهلهم للاشتغال بالمهن الفنية العليا، ثم اتسع مدلوله بعد ذلك حينما استخدمه عدد من الكتاب لكي يشمل كل أولئك الذين ينخرطون في مهن غير يدوية، وهو بهذا المعنى يعادل (الطبقة المتوسطة الجديدة)، التي نستطيع داخلها أن نميّز بين شرائح عليا وأخرى دنيا (...) على إن المثقفين من ناحية أخرى، ينظر إليهم بصفة عامة بوصفهم يشكلون الجماعة الأصغر التي تتألف من أولئك الذين يسهمون مباشرة في ابتكار ونقل ونقد الأفكار. وتضم هذه الفئة المؤلفين، والفنانين، والعلماء، والفلاسفة، والمفكرين، والمتخصصين في النظريات الاجتماعية، والمعلقين السياسيين”(9).
وفي سياق التمييز ما بين هذه المفاهيم الإشكالية والكشف عن طبيعتها واستخلاص دلالاتها، لم يقف طموح الباحث العراقي (حيدر علي محمد) بالإعلان عن شيوع ظاهرة الخلط بين مضامين ودلالات تلك المفاهيم، وبالتالي الإقرار بحقيقة وجود اختلاف وتباين بينها فحسب، وإنما حاول البرهنة على وجود (مفاضلة) ابستمولوجية يمكن ادعائها لصالح مفهوم (المثقف) بالمقارنة مع مفهوم (الأنتلجنسي). وهو الأمر الذي أكده بالقول “تختلط في اللغات الأوروبية كلمة (intelligentsia) و(intellectual) في كثير من الكتابات أو أحياناً نرى في كثير من الكتابات العربية هذا الخلط بين الكلمتين: فالانتلجنسيا مدلول تاريخي-اجتماعي محدد يشير إلى المتعلمين تعليماً عالياً يتألف من (الأطباء والمحامين والمهندسين والمعلمين والصحافيين والكتّاب سواء كانوا مشتغلين بالفكر أو عدمه وسواء كانت لهم اهتمامات عامة خارج مهنتهم وتخصصاتهم أو لم تكن. باعتقادي إن هناك فعلاً ثمة خلط (ايستمولوجي) بين (intellectual) و(intelligentsia) حيث أن الأول لا يشير فقط إلى النشاط الفكري فقط بل أنه يعني أيضاً الخروج على النخبة المتقوقعة على مراكز معارفها المختلفة ذا الاطلاع الواسع، والمجرد عن البعد التاريخي. وهذا عكس الثاني حيث إن ثقافة هذه الشريحة، لا تتقيد بالنظام المعرفي الواحد، ولأنها لا تؤمن إلاّ بالثقافة التقليدية السائدة التي تتألف من نتف معرفية ومن اختصاصات مختلفة”(10).   
ومما يضاعف من طابع الغموض الذي يحيط بمفهوم (الانتلجنسي) ويكسبه خاصية الممانعة على التحديد والتعين، كما هو حال نظيريه مفهوم (المثقف) ومفهوم (النخبوي) لجهة تنوع معانيه واستشكال دلالته بالنسبة لمن يتصدى لدراسة الفاعل الثقافي (المثقف)، ومن ثم الكشف عن ماهية الدور المسند إليه والوظيفة المكلف بها. لاسيما وان معتاه ودلالته تختلف من بيئة حضارية لأخرى، ومن سياق تاريخي لأخر، ومن نسق ثقافي لآخر، ومن إطار اجتماعي لآخر كما تفيد معظم الدراسات المهتمة بهذا الموضوع. وهو ما أشار إليه عالم الاجتماع البريطاني (توم بوتومور) حين كتب واصفاً طبيعة مفهوم الانتلجنسيا قائلاً “يستخدم مصطلح intelligentsia استخدامات متعددة؛ فهو في المجتمعات الغربية يشير إلى صفوة داخلية صغيرة تضم الكتاب وذوي الثقافات الراقية، وهي جماعة لها كيانها المستقل، وقد يكون لها أيضاً - في أوقات معينة- بعض التأثير الاجتماعي والسياسي”(11).
هذا في الوقت الذي ميّز فيه المفكر اللبناني (نديم البيطار) بين مفهوم (المثقف) وبين نظيره مفهوم (الانتلجنسي) على أساس الموقف السياسي من السلطة القائمة، واضعاً معيار (النقد) الفكري كشرط أساسي لتحول الأول إلى الثاني. موضحاً “إن المثقف الذي يهتم فقط بالأفكار والتحليل الفكري والوقائع يكون منظراً، والذي ينشغل بالأفكار المعيارية والتقييمية يكون أخلاقياً، وهو يصبح جزءاً من الانتلجنسيا عندما يهتم بالنوعين ويوحدهما في نقد يرفض الأوضاع القائمة عن طريق الفكر المنضبط والمنظم. الانتلجنسيا تتميّز إذن عن المثقفين الآخرين في كونها، كما يقولون في بعض الأوساط الفكرية الفرنسية، لا تشكل (كلاب حراسة) لهذه الأوضاع، للنظام القائم، لما هو موجود، بل بالأحرى، قوة نضالية في خدمة ما يجب أن يكون”(12). نجد إن هناك من لا يعترف - أصلاً -بوجود من ينطبق عليهم هذا المفهوم ضمن جماعات الفاعلين الاجتماعيين في المجتمعات العربية المعاصرة، فمن خلال استعراضه لآراء ومواقف طائفة من علماء الاجتماع العرب حيال مفهوم الانتلجنسيا وعلاقته بمفهوم المثقف، يستخلص لنا (الطاهر لبيب) زبدة تلك الآراء والمواقف قائلاً: “رأى علماء الاجتماع إن مفهوم (المثقف) قد استهلك بشكل كبير، وأنه أصبح تعبيراً مجازياً ليس له أية فاعلية حقيقية، فعادوا لاستخدام لفظ الانتلجنسيا (...) وحتى خلصوا جميعاً إلى أنه لا وجود للانتلجنسيا العربية إلاّ أن الجديد في الأمر تمثل في رغبة تناول المثقفين، ليس فقط لأنهم منتجين للخطاب الثقافي، وإنما أيضاً لكونهم فئة اجتماعية على وجه الخصوص، لم يسهم مفهوم الانتلجنسيا في حقيقة الأمر إلاّ في المضي قدماً نحو هذا الاتجاه، وكل ما عدا هذا كان مجرد تلاعب بالدلالات: فحيثما نبحث عن الانتلجنسيا لا نجد إلاّ المثقفين”(13).
وإذا ما توخينا الدقة في تشخيص الفوارق وتحيدي الاختلافات بين مفاهيم كل من (المثقف) و(الانتلجنسي) و(النخبوي)، فالأحرى أولاً أن نقف على ما تشي به معانيها وتفصح عنه دلالاتها بالنسبة للمهتمين بها والمتعاطين معها - كتابة وقراءة - إذ إن هذا المنهج أو المنحى كفيل بإرشادنا إلى الصواب عبر أقصر الطرق وأيسر السبل. وبالاستناد إلى ما تقدم ذكره من معلومات ومؤشرات ومعطيات، فقد تبين لنا إن مفهوم (المثقف) بات يدل على/يشير إلى ذلك الفاعل الثقافي الذي لا يتسامى فقط فوق مستوى وعي المجتمع الذي ينتمي إليه ويرتبط به، مثلما لا يرضى لنفسه أن يتماهى مع تصوراته الباليه وقيمه التقليدية فحسب، وإنما أوقف كل قدراته وجلّ طاقاته على إنتاج الأفكار الحديثة، وإبداع النظريات العلمية، واجتراح المنهجيات النقدية، وصياغة المعاني الإنسانية التي من شأنها رفع مستوى الإنسان/المجتمع ثقافياً وأخلاقياً وحضارياً وإنسانياً. أي بمعنى آخر؛ هل يعني إن اقتصار خاصية المثقف على التعاطي الفكري/المعرفي مع الواقع الاجتماعي يمنحه حق النأي بذاته - كفاعل اجتماعي وثقافي- عن القضايا والشؤون العامة، على اعتبار إن فاعليته وبالتالي ضرورته تقترن بالنشاط الفكري/الذهني دون النشاط العملي/الواقعي؟ الجواب على ذلك كلا بالمطلق. إذ لا يجوز له ولا ينبغي عليه التخلي عن مواقفه الوطنية والأخلاقية والإنسانية حيال المسائل التي تهم المجتمع الذي ولد من رحمه ونشأ في حضنه وترعرع في بيئته، على خلفية زعم اشتغاله بالأفكار المجردة دون الاحتفاء بالوقائع الاجتماعية، وانهماكه بالنظريات الطوباوية دون انخراطه الممارسات المعيشية، واهتمامه بالإيديولوجيات الأصولية دون انغماسه بالثقافات الإنسانية. “فالمثقف – كما يرى المفكر (عبد الله العروي) – الذي ليس على صلة بمجمل مجتمعه، يرى الديالكتيك الاجتماعي من الخارج، أي بصورة تجريدية ويستطيع حينئذ اللجوء، على حدّ سواء، إلى اللغة الفصحى أو إلى لغة أجنبية، بما أنه على كل حال، يخاطب ذاته فقط أو أشقائه الفكريين”(14)
وإذا ما استلزم الأمر على (المثقف) أن يتخذ موقفاً مغايراً لهذه المهام المناقبية، فانه يتوجب عليه الحذر من الوقوع في مستنقع السياسة وإغراءاتها المميتة، والابتعاد عن مهاوي السلطة واغواءاتها المهلكة من جهة، والترفع/التسامي قدر الإمكان عن الانخراط في رذائل التحزب الإيديولوجي والتمذهب الديني والتعصب القومي من جهة أخرى. إذ ما الجدوى من الأفكار التقدمية التي ينتجها والمعاني الإنسانية التي يصوغها والقيم الأخلاقية التي يتمثلها، طالما ى تكون تعبيراً عن موقف وتجسيداً لسلوك ينم عن الانتماء لمجتمع والولاء لوطن، لاسيما وان وشم الهوية التي يحملها في كينونته سيبقى مديناً لبيئته الثقافية وأصوله التاريخية ومرجعياته الرمزية، حتى ولو حاول طمس معالم تلك الهوية واستئصال جذورها كما يفعل البعض في بعض بلدان الغربة. وإذا ما توجهنا صوب مفهوم (الانتلجنسي)، فإننا سنواجه بكم هائل ليس فقط من التعاريف والتصانيف التي ى تكاد تجمعها فكرة أو يوحدها تصور فحسب، بل وكذلك بحصيلة وافرة من التناقضات والتعارضات التي تعكس تنوع رؤى الباحثين والدارسين الثقافية، وتباين منطلقاتهم الفكرية، واختلاف مستوياتهم المعرفية وتعدد خياراتهم المنهجية، لاسيما وان المفهوم المذكور (الانتلجنسي) لا زال محتفظاً بأرومته الروسية/الغربية، إن لجهة المضمون أو المرجع أو السياق أو الوظيفة، بخلاف نظيره مفهوم (المثقف) الذي وجد له في المدونة العربية - الإسلامية معادل موضوعي يوازيه في الدلالة ويساويه في الوظيفة. ولذلك ينقل الأكاديمي المصري (محمد عبد الله عبد العال أحمد) عن هذه الإشكالية قائلاً إن “ثمة صعوبة بالغة في تحديد هويتها - يقصد الانتلجنسيا - وحدود تعاريفها، حتى يكاد لا ينعقد اتفاق دقيق حول معناها. وفي واقعنا الراهن شاع استخدام كلمات مثل المثقف والأديب والعالم والمتعلم والفنان للدلالة على المعنى نفسه”(15).
والملفت للنظر إن هذا التداخل بين المفاهيم والخلط بين المصطلحات لم يقتصر فقط على غالبية كتاب المشرق العربي -كما نلحظه لدى (العروي) و(البيطار) على سبيل المثال لا الحصر- فحسب، وإنما سبقهم إليه وشاطرهم فيه رهط كبير من رموز الفكر الغربي/الأوروبي، كما نقع عليه عند الانثروبولوجي الفرنسي (جيرار ليكلرك) الذي كتب يقول “المثقفون بالمعنى الفرنسي، و(الانتلجنسيا) الروسية، والكلمتان تستخدمان بطريقة شبه متداخلة في إشارة إلى رجال الفكر الذين يكرسون أنفسهم بطريقة شبه محددة وشبه واضحة للأعمال التي تتعلق بمحاضراتهم، فأحياناً تطلق عليهم اسم المثقفين، وأحياناً أخرى الانتلجنسيا”(16). هذا في حين استبدل الباحث (توماس سويل) مصطلح (المفكرين) عوضاً عن (الانتلجنسيا) كمعادل لمفهوم (المثقفين)، حينما أشار إلى أنه “يجب علينا أن نكون واضحين حول ما نعنيه بالمفكرين. هنا يشير مصطلح (المفكرين) أو (المثقفين) إلى فئة المهنيين، أولئك الذين تتعلق مهنهم في المقام الأول بالتعامل مع الأفكار، والكتاب والأكاديميين وما شابههم”(17). لا بل إن هناك من الكتاب، ولتخطي حالة الشعور بالحرج الناجمة عن محاولة المماهاة والمماثلة ما بين مفاهيم (المثقف) و(الانتلجنسي) و(النخبوي)، عمد إلى استنباط فكرة (المفاضلة) بين تلك الأنماط من الفاعلين الاجتماعيين، ظنا منهم انه لعل وعسى هذه الفكرة قد تجنبهم ذلك الإحراج وتعفيهم من مردود تبعاته.
ولهذا فقد اعتقدوا إن مفهوم (الانتلجنسي) هو أعلى شأناً وأرفع مقاماً وأكثر قيمة من نظيره (المثقف)، وان هذا الأخير لا يعدو أن يكون مظهراً واحداً من مظاهر الأول العديدة وتجلياً واحداً من تجلياته المتنوعة، وذلك بالاعتماد على ذات الأسباب والمبررات التي يعطونها لكليهما وهي القدرة على إنتاج الأفكار، وابتكار النظريات، واجتراح المنهجيات، وخلق المعاني، وصياغة المفاهيم والمقولات. ولعل الانثروبولوجي الفرنسي (ادغار موران) قد ظن انه حسم هذه الإشكالية حينما ميّز بين المثقفين والانتلجنسيا، على أساس أن المقولة الأولى ناتئة فرنسية، والثانية شمولية روسية. وأكد على إن الانتلجنسيا تعني مجمل المثقفين في وضعية تتميّز بجمهرة غير مثقفة، وبسلطة بربرية، بينما المثقفون داخل مجتمع له تناقضات أقل حدة، وتنتشر الثقافة في داخل مجال مهم من المجتمع(18).
 
 
الاحالات والملاحظات
  1. ميشيل بروندينو – الطاهر لبيب (محرران)؛ جرامشي في العالم العربي، ترجمة كامليا صبحي، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2002، ص52.
  2. عقيل الناصري؛ من تاريخية الانتلجنسيا العراقية، بحث منشور في الموقع الالكتروني (الحوار المتمدن)، العدد (6731) بتاريخ 13 / 11 / 2020. والغريب في الأمر إن (الناصري) لا يعدم الإشارة إلى جملة الاختلافات النوعية التي صادفت نشأة الانتلجنسيا في روسيا عنها في العراق قائلاً “فمن الناحية التاريخية وظروفها المحسوسة، فقد بدأت ملامح تشكّل هذه الفئة الاجتماعية بالعراق في غير الظروف الذاتية والموضوعية التي ظهرت في العالم الرأسمالي الأوروبي، حيث تقسيم العمل الاجتماعي على أهبته، وبخاصة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر”.  
  3. ناجي علوش؛ المثقف العربي والنضال القومي، بحث منشور ضمن (المثقف العربي: دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع، الرباط / المغرب، المجلس القومي للثقافة العربية، 1985، ص159 وص160. من جانبه فقد أشار الأستاذ في جامعة سوق أهراس بالجزائر الدكتور (عبد الوهاب شعلان) إلى عواقب هذه الظاهرة قائلاً “إننا نعتقد إن إشكالية المرجعيات المستعارة نمثل مأزقاً شديد الخطورة في عمل الانتلجنسيا العربية ضمن طموحاتها التنويرية والتغييرية. إن وضع نموذج ثابت وخالص، والعمل على نسخه لا يخلو مخاطر، كما يكشف عن وعي لا تاريخي. فالمجتمعات الغربية تجاوزت عوائقها الداخلية والخارجية وفق سيرورة تاريخية وثقافية خالصة، ليس بالضرورة إعادة إنتاجها في كافة المجتمعات والمراحل التاريخية”. راجع كتابه: هواجس النخب العربية وقضاياها الفكرية: الاستشراق-الإصلاح الديني-الانتلجنسيا-اللغة والهوية، القاهرة، مكتبة الآداب، 2013، ط1، ص118 و119.
  4. الطاهر لبيب؛ العالم والمثقف والانتلجنسي، بحث منشور ضمن العمل الجماعي؛ الثقافة والمثقف في الوطن العربي، مصدر سابق، ص31. من جانبه فقد أشار الباحث التونسي (محمد كرّو) موضحاً إن “كلمة انتلجنسيا تعني، لغوياً، الوسط الفكري، وترمز لظاهرة روسية بحتة، تكوّنت بالتحديد حول الأفكار الأساسية التي روّج لها الراديكاليون الذين آمنوا بالتطور وبالديمقراطية. هؤلاء الذين تحدروا من طبقات النبلاء وعلماء الدين والفلاحين والتجار، وتأثروا بالرومنطيقية الألمانية وبالعدمية الفلسفية (و) هي تعني المجتمع الذي يفكر قياساً بجمهرة غير متعلمة وبمجموعات خاضعة لتعليم امتثالي”. راجع بحثه الموسوم (المثقفون والمجتمع المدني في تونس)، منشور ضمن نفس المصدر، ص334 - 335 
  5. جون سكوت وجوردون مارشال؛ موسوعة علم الاجتماع، المجلد الأول، ترجمة أحمد زايد وآخرين، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2011، ص210 والتشديد من المؤلف. هذا وقد أضيف إلى ما تقدم فان “روح الانتلجنسيا ظهرت مركبة: تجمع بين النزعة (القومية) مجدولة مع توجّه غربي، ونزعة مضادة للتصنيع مع التركيز على القيم الثقافية و(الإنسانية)، ونقد الدولة، ومشايعة أسلوب الحياة الخاص بالطبقة الارستقراطية المتوسطة ومعايير النمو السليم لطبقة الانتلجنسيا ذاتها”، نفس المصدر، ص211.
  6. برهان غليون؛ الانتلجنسيا والسياسة والمجتمع، بحث منشور في مجلة الحكمة الصادرة بتاريخ 9 كانون الثاني 2015، ص17-26. وفي ذات السياق يذهب الباحث المغربي (جميل حمداوي) حين أشار إلى إن المقصود “بالانتلجنسيا طبقة أو فئة اجتماعية تعنى بالإنتاج والإبداع وممارسة الفكر. بمعنى أنها طبقة من المثقفين المتنورين، وتشمل الأساتذة والمبدعين، والمفكرين، والفنانين. وفي القرن الواحد والعشرين، يطلق على النخبة المثقفة الوطنية القريبة من السلطة التي تسير حقلاً علمياً أو أدبياً أو فنياً، ولها دور وساطي وتنويري مهم داخل المجتمع”. للمزيد راجع كتابه الموسوم: سوسيولوجيا النخب: النخبة المغربية انموذجاً، مصدر سابق، ص6. وضمن هذا المنحى انظر كذلك الباحثة التونسية (وفاء غالية) في أطروحتها الأكاديمية المقدمة إلى جامعة محمد بوضاف، والموسومة (خطاب المثقف الانتلجنسيا في الرواية العربية – تجربة عبد الرحمن منيف الروائية – أنموذجاً- دراسة سوسيوبنائية. حيث لا يرد لديها مفهوم المثقف إلاّ مقروناً بمفهوم الانتلجنسيا.
  7. عليوش كربوعا كمال؛ نقاش حول مفهوم الانتلجنسيا والمثقفين، بحث منشور ضمن الدكتور عمار بلحسن؛ انتلجنسيا أم مثقفون في الجزائر، مصدر سابق، ص172. هذا وقد كان عبد الله العروي قد نحى هذا المنحى عبر إشارته إلى إن الانتلجنسيا “تعرف اجتماعياً على النحو التالي: برجوازية صغيرة – بيروقراطية – مختلف الجماعات التي كونتها – مثقفون – مثقفون ثوريون” . راجع كتابه: أزمة المثقفين العرب تقليدية أم تاريخانية؟ ترجمة ذوقان قرقوط، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات، 1978، ص165. 
  8. علاء جواد كاظم؛ العقل، الانتلجنسيا، الايديولوجيا: نحو تفكيك سوسيولوجي للبنية الثقافية، المجتمع العراقي نموذجاً، بحث منشور في دورية (اضافات) المجلة العربية لعلم الاجتماع، العدد (7)، صيف 2009، ص75.
  9. توم بوتومور؛ الصفوة والمجتمع: دراسة فب علم الاجتماع السياسي، سلسلة علم الاجتماع المعاصر(6)، القاهرة، دار المعارف، 1988، ص86 -87. يشاطر هذا الرأي أستاذ علم الاجتماع التربوي (علي أسعد وطفة) حين كتب يقول “يتشاكل مفهوم (الانتلجنسيا) Intelligentsia مع مفهومي (المثقف) من جهة، و(النخبة الثقافية) من جهة أخرى. ويأخذ هذا التشاكل صورته في الاستخدام المتناوب لهذه المفاهيم بدلالة واحدة في كثير من الأحيان، كما يأخذ هذا التشاكل صورة الترادف والتعاقب والاستبدال. ومع الاعتراف بصعوبة الفصل بين مفهوم (الانتلجنسيا) ومفهوم (المثقف) والنخبة الثقافية فان علينا أن نفصل بينهما ونحدد وشائج العلاقة القائمة بين هذه المفاهيم الثلاثة، لأن مفهوم (الانتلجنسيا) يمتلك خصوصيته التاريخية ويحمل سماته الخاصة في الدلالة والتعبير عن وضعية طبقة من المثقفين نشأت في سياق تاريخي مختلف”. للمزيد راجع بحثه الموسوم (المثقف النقدي مفهوماً ودلالة) المنشور في موقع (الحوار المتمدن) ، العدد 4824 بتاريخ 1  /  6  /  2015. هذا وكان المؤرخ العراقي (عقيل الناصري) قد كتب بهذا الشأن قائلاً “لقى مصطلح الانتلجنسيا الغموض لروائجه وكثرة توظيفاته وتباين مدلولاته، خصوصاً أنه يجاور مفهوم المثقف فيغدو (أحياناً) مرادفاً له. ويحاول بعض الكتاب من التمييز بين المثقفينIntellectuals ، والانتلجنسياIntelligentsia ، ويعزون هذا التفريق إلى أن مصطلح الانتلجنسيا عندما تم استخدمه لأول مرة في روسيا وبولونيا، قصدوا به آنذاك أولئك الذين تلقوا تعليماً جامعياً يؤهلهم للاشتغال بالمهن الفنية العليا. وقد اتسع استخدامه وامتد مدلوله إلى كل الذين ينخرطون في مهن غير يدوية. وأصبح ما يميزه هو المثقف الذي تقترن همومه بهموم شعبه وعمله الدؤوب إلى التغيير الاجتصادي ليخلق تأريخيا جديداً. أما المثقفون فهم أولئك الذين يسهمون مباشرة في ابتكار الأفكار أو نقدها. وتضم هذه الفئة المؤلفين والعلماء والفلاسفة والمفكرين والمتخصصين في النظريات الاجتماعية والمحللين السياسيين.. والمثقف هو الذي يضع أوسع نظرة لتغيير المجتمع وأشملها وهو الذي يعمل لصالح القطاعات العريضة فيه وهو الذي يتميَّز بما لديه من قدرة على النقد الاجتماعي والعلمي”. راجع بحثه الموسوم: في تاريخية الانتلجنسيا العراقية، منشور في الموقع الالكتروني (الحوار المتمدن)، العدد (6731) بتاريخ 13 / 11 / 2020.
  10. حيدر علي محمد؛ إشكالية المثقف عند غرامشي، أطروحة مقدمة إلى جامعة بغداد كلية الآداب قسم الفلسفة وهي جزء من متطلبات نيل شهادة الماجستير في الفلسفة، ص125 وص126. سنشير لاحقاً إلى موقف المفكر السوري (جورج طرابيشي) الذي أشار من خلاله إلى إن (المثقف) يعد طور أولي من أطوار التحول إلى (الانتلجنسي)، وبالتالي فهو يعطي الأولوية لهذا الأخير على الأول. راجع بحثه الموسوم (من المثقفين إلى الانتلجنسيا).
  11. توم بوتومو؛ الصفوة والمجتمع، مصدر سابق، ص86 من الهامش.
  12. الدكتور نديم البيطار؛ المثقفون والثورة، ج1، الانتلجنسيا كظاهرة تاريخية، مصدر سابق، ص63.
  13. ميشيل بروندينو والطاهر لبيب؛ غرامشي في العالم العربي، مصدر سابق، ص51 -52. وفي مكان آخر اعتبر (لبيب) إن هناك “عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية، حالت دون تطور انتلجنسيا عربية ودون أن تكون لها الأدوار التي أسندتها إلى نفسها”. راجع بحث المعنون (العالم والمثقف والانتلجنسي) ضمن العمل الجماعي؛ الثقافة والمثقف في الوطن العربي، سلسلة كتب المستقبل العربي (10)، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2002، ط2، ص17. وضمن هذا الاتجاه يذهب الباحث العربي (عاطف غصيبات) خلال حديثه عن أزمة المثقفين العرب – دراسة تحليلية، حيث كتب يقول: “ ليست هنالك انتلجنسيا في العالم العربي، على الرغم من وجود وفرة من المثقفين العرب. وأقصد بالانتلجنسيا هنا تلك الفئة الاجتماعية المنظمة التي يقوم بين أفرادها نسيج فكري وثقافي يربط فيما بينهم ويساعدهم على صياغة رؤية شمولية لواقع مجتمعهم وطموحاته. فبدلاً من وجود انتلجنسيا عربية كمجموعة مثقفة اجتماعية منظمة ومتجددة في التاريخ والثقافة العربية، توجد في حقيقة الأمر فرديات مثقفة”. بحث منشور ضمن سعد الدين إبراهيم (محرر)؛ الانتلجنسيا العربية: المثقفون والسلطة، سلسلة الحوارات العربية (عمان، منتدى الفكر العربي، 1988، ص170. 
  14. عبد الله العروي؛ الإيديولوجية العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، بيروت، دار الحقيقة، 1970، ص251.
  15. محمد عبد الله عبد العال أحمد؛ الانتلجنسيا القلقة: حالة المثقف العربي في مرحلة ما بعد الكولينيالية، بحث منشور في مجلة الاستغراب، العدد صيف 2018، ص111 -122.
  16. جيرار ليكلرك؛ سوسيولوجيا المثقفين، مصدر سابق، ص51.
  17. توماس سويل؛ المثقفون والمجتمع: أنماط المثقفين العامة وأثرها في حياة الشعوب، مصدر سابق، ص20.
  18. محمد كرّو؛ المثقفون والمجتمع المدني في تونس، بحث منشور ضمن العمل الجماعي؛ الثقافة والمثقف في الوطن العربي، مصدر سابق، ص335.