أيار 17
 
 
طالب عبد الأمير باحث وإعلامي، ماجستير في الإعلام والإتصالات وبكالوريوس هندسة. له العديد من المقالات والأبحاث في مجلات وصحف عراقية وعربية. كما له محاضرات في الإعلام والإتصالات والعلاقة بين العلم والفن، وغيرها، وعدد من الاصدارات منها: “ظلال على شواطئ المنفى” (2016)، “نوبل ومثالية الأدب” (2017)، و”عبد الغني الخليلي، سحر الكلمة وعشق الصداقات” (2018). ترجم عدداً من قصص الأطفال، كما عمل صحفياً بإذاعة يوغسلافيا، ومحرراً ومنتجاً للبرنامج العربي في الإذاعة السويدية. عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، والإتحاد العام للصحفيين في السويد.
يفترض أن تُزود آليات التطور التكنولوجي بشحنات إنسانية تجعل الحياة أكثر أماناً وحيوية، وليس العكس بنزع إنسانية الانسان وجعله أداة من ادواتها. والسبب بسيط جداً، ذلك لأن الانسان يشكِّلُ، جوهر النمو والتطور الذي وصلت اليه البشرية على مرّ الأزمنة والعصور. إذ جاءت هذه الإنجازات بفضل ذكاء الانسان الذي صقلته الآلة التي اكتشفها هو، بعد أن تحرر من أسر الطبيعة بكل ما يكتنفها من أسرار وظواهر. لم يجد، في البدء تفسيرات لها فنسبها الى الغيبيات، الى الميتافيزيق. لكنه بعد أن استطاع التعرف على قدرته الكبيرة، على التفكير والادراك والتعمق فيه، والذي جسّده في علوم عصر النهضة والتنوير، تم اختزال المسافات الزمانية وصولاً الى الرقميات والذكاء الاصطناعي الذي يمثّل حتى الآن ذروة ما توصل اليه العقل البشري.
إن وراء التسامي بالمعارف والعلوم الذي يمتد مساره عبر قرون عديدة، ثمة عالم متحرك، يبدأً من أصغر حبة رملٍ في أقاصي هذا الكون، المترامي، الى آخر جزيء بتركيبة كيميائية، في انبوبة مختبر، تنتظر دورها لتأخذنا الى مسار جديد من مسارات النمو الحلزوني للمعرفة الذي يتوصل معه الإنسان منذ قرون بعيدة، بعدما أزاح منقبو الآثار غبار الأزمنة عن بوابة المعرفة، ودخلوا من خلالها الى عالم قديم عمره آلاف السنين، عالمٍ مركب من ألواح طينية نقشت عليها معادلات حسابية معقدة، لكن بأدوات بسيطة. فمن هناك بدأ المنطلق. وهناك كمنت التفاصيل.
ثم تراكمت المعرفة، وتعددت مساراتها ومنعطفاتها، حتى وصلت بيت الحكمة، وخرجت منه بأركان العالم الرقمي في عصرنا هذا، حيث كان محمد بن موسى البغدادي، الملقب بالخوارزمي قد أوجد نقطة تلاقي هذا العالم وتفاعلاته، وأكد أن لكل شيء في هذا الوجود قيمة، حتى الصفر.
الخوارزمي أب الحاسوب - الكومبيوتر والشبكة، اللذين شكلا أساساً مهما للثورة الصناعية الرابعة، حسب التصنيفات الجديدة لإفرازات التطور الذي نقل البشرية من حال الى حال، رغم أن الزمن يمتد بينهما مئات السنين. حدثت خلاله ابتكارات مهمة كثيرة وأساسية شكلت بنية عالمنا الإفتراضي، هذا العالم الذي خلقه الإنسان وراح يسعى بشكل حثيث الى تطويره بإيجاد آليات جديدة، يجري تجديدها في منعطفات مصيرية خلال مسيرة الزمن نحو المستقبل. وليس العالم الافتراضي فقط من شمله التغيير، بل وحتى عالمنا المادي الذي عاش فيه البشر حفنة من الدهور، تعرض وما يزال الى زلازل التغيير، الذي تجسدت دلالاته في كثرة “الما بعديات”، والتي تعني التجاوز الزمكاني للظاهرة المعينة، وهي تحمل بعداً فلسفياً يسميه البعض تناحر المفاهيم: منذ ما بعد الطوفان، وما بعد الحداثة، ما بعد العولمة...وما “بعد الإنسانية”.
عقل الانسان دله على الأداة، الآلة، الوسيلة التي ضمنت استمراره في الحياة، فأصبح، بفضلها، حراً غير خاضع للطبيعة. ثم وسّعت، الأداة، ولاحقاً الماكنة، مداركه، خلال العمل فطوّرها أكثر من أجل أن تمنحه حياة أفضل. وبتراكم الخبرات والسنين، تطورت الآلة وتعددت مسمياتها وتنوعت استخداماتها حتى بلغت سماتٍ خارقةً. وكل هذا بفضله هو. وهي بطبيعة الحال لا تنكر دوره هذا. فقدمت ومازالت تقدم له الكثير. لكن علاقة الانسان بالآلة تراوحت، منذ نشأتها وعبر التاريخ، ما بين التعاون والصراع. كانت الآلة عونا ومساعدا للإنسان في تسهيل أعماله الخاصة تجسدت في فترة الأتمتة. لكن الماكنة وفي سياقات تطورها باتت تهدد بأخذ مكانه كلما تطورت، حيث شكل استخدام الروبوتات، مثلاً، تهديدا جديا وقلقا مشروعا لدى الإنسان من أن تحل محله. وفي حالات معينة استطاعت الآلة - الماكنة من التغلب على  الإنسان.
في العام 1997 ضجت وسائل الإعلام بعد عرض مقطع فيديو يظهر فيه انسان آلي “روبوت” هو عبارة عن ذراع ميكانيكية تم ربطها بجهاز كومبيوتر مزود بخوارزميات تغلب فيها على بطل العالم في الشطرنج آنذاك غاري كاسباروف. ومنذ ذاك الحين انصب إهتمام العلماء على الذكاء الصناعي والعمل على تطوير أنظمته.
لكن ما قبل الروبوتات كانت شرائح الحاسبات الذكية في سبعينات القرن الماضي، عصر شرائح الكمبيوتر الذكية، اعتبرت عدوة للإنسان. ومع اقتراب الألفية الجديدة، كانت هناك صيغة من الوفاق تتكوَّن بين الانسان والماكينات والتكنولوجيا. ربما يعود ذلك الى اعتماد الكثير من المشاريع الاقتصادية الضخمة على التقنيات الحديثة، بالإضافة لارتباط الناس بالتكنولوجيا عبر الإنترنت (1).
إلا ان ما يعكر صفو الإستمتاع بما حققه الإنسان من رقي وتسامٍ، هي شراهة من بيده السلطة على هذه الآلة، الأداة لجني المزيد من الأرباح والمكاسب بلا حدود. فباتت تأتي على حساب حرية الانسان الشخصية، حتى بدا عاريا أمام هالتها التي باتت تتدخل في خصوصيته وتسلب إرادته، بل تحول بسبب ذلك الى رقم من الارقام أو سلعة تجارية تتحكم بها أسواق البورصة التي تديرها سلطات وشركات عملاقة في هذا الزمن الغريب، في هضاب ووديان العولمة. كما هو جار الآن! وبقدر ما قدمت التكنلوجيا الحديثة والرقميات خدمات جليلة للإنسان، بقدر ما فقد هو جزءا كبيراً من حريته واختياراته. فالقائمون على هذه التقنية يتعاملون مع الانسان كعنصر مادي، متجاهلين اعتباره كياناً ذا دلالات حسية وروحية وعقلية، ميزته عن باقي الكائنات. بل والأدهى من ذلك هو فقدانه هويته الشخصية بانصهارها في الكتلة الجماهيرية. كما يقول ملك الفيسبوك (مارك زوكربيرغ) معلقاً على استطلاع جرى مؤخراً لجيل الالفية حول العالم عما يحدد هويتهم، بأن الجواب الأكثر شعبية لم يكن الانتماء العرقي او الديني او الوطني، بل هي “مواطنته العالمية”. “أن هذا شيء عظيم”(2).
ومما يبعث على الدهشة أن الآلة الجديدة لها فعل السحر والغواية على الانسان، فبات منصاعاً إليها بمحض ارادته. ولا يريد، برغم كل شيء، الفكاك منها، ليس لكونه مستفيداً منها وتطبّع عليها فحسب، بل واصبحت ما يطلق عليها التقنية الرقمية، فعلا، العالم الذي يعيش فيه. فلا عودة الى الوراء، بل تسارع الى الأمام للحاق بها دون هوادة. ولكن يظل التساؤل فاغراً فاه: الى أين، والى أي مدى سيوصلنا هذا اللهاث؟
هذا التساؤل ليس وحيدا في الساحة، وانما له تفرعات شتى تفرز انزيم التساؤلات الممزوجة بالقلق عما سيأتي به المستقبل. فقد بات الأمر يلامس الوجود الإنساني برمته، بكل ما يحمله من أسس بلورت تكوين الانسان وطبيعته وصفاته. وهذه النقاشات التي تحاول التعريف بجوهر المشكلة تدور حول ما يعرف بمفهوم “ما بعد الإنسان” او “مابعد الإنسانية” الذي يسوّق على انه مشروع علمي حضاري جديد يهدف الى تطوير قدرات الانسان على كافة الأصعدة ولكن بطريقة تجعله معتمدا على منتجات الذكاء الاصطناعي والتطور الرقمي ومشتقاتهما.
ومن ضمن التأثيرات التي حركت الأفكار والتصورات والتساؤلات حول مستقبل البشرية، هو ان التطور التكنولوجي الذي توصلت إليه البشرية وما قدمه للإنسان من إنجازات هائلة، جاء ايضاً بادوات من شأنها أن تغير من تكوينه وطبيعته البيولوجية بل وإعادة صياغته باستخدام الأدوات التقنية الحديثة.    
ولعل الانسان الآلي “الروبوت”، الشبيه بالانسان الأصل، الانسان الحالي المكون من دم ولحم، هناك طروحات حول تعديله ليصبح مركّباً من أعضاء صناعية، تحل محل تلك المعطلة، وبشرية سليمة لكنها يمكن ان تزود ببطاقات ومجسات حسية وممارسات فكرية ونفسية خارقة كتلك التي نراها في عالم روايات الخيال العلمي، وما بعد حداثة الخيال العلمي، لا سيما في وسائل «الكوميك» كتبها ومجلاتها وأفلامها السينمائية، وبقصص الأبطال الخارقين، أمثال “كابتن أمريكا”  وعديد من أفلام وكتب الاطفال والناشئة، مثل سلسلة كتب كيف “تصبح بطلا خارقاً” (3) وغيرها، حيث أن ابطالها أناس يتمتعون بقدرات خارقة أو مُعدَّلون وراثيًّا فباتوا خارقين ولديهم ميزات غير مألوفة لا يتمتع بها الإنسان الطبيعي “العادي”. هذه الأفكار على ما يبدو قد ترجلت تجلياتها من مخيلة الانسان وأفكاره وتصوراته وابداعاته الخلاقة الى الواقع الحياتي اليومي. وبهذا يعتقد اللاعبون في هذا الميدان بأن الانسان سيطور من قدراته البيولوجية والنفسية والفكرية بأدوات التقنية الحديثة المستخدمة في الذكاء الصناعي والتقنية الرقمية. ومن هذه الزاوية الثلاثية الابعاد، سيصبح الانسان كيانا عابرا، الى ما بعده. كيف؟ وماذا بشأن الانسانية؟ التي ارتبطت كمفهوم فلسفي ورؤية قيمية عالية للإنسان إكتسبها من مجهوده العقلي والنظري والملموس، الذي يؤكد على كيانه بوصفه أثمن رأسمال في الوجود، حسب كارل ماركس.
 
التطور العلمي والتكنولوجي سلاح ذو حدين
لن نأتي بجديد لو قلنا ان المبتكرات والمخترعات التي توصل إليها الإنسان، على مر العصور بالإمكان أن تكون سلاحاً ذا حدين. وأكثر مثال ساطع على هذا هو الديناميت، الذي اعتبر أحد أهم الاختراعات في عصر الثورة الصناعية الأولى.
كان عبقري زمانه آلفرد نوبل منزعجاً جداً وشعر بالغبن حتى أنه دخل في حالة من الكآبة، حين وصفته الصحف الصادرة في أوروبا، بـ “تاجر الموت” ذلك لأن اختراعه الديناميت الذي استفادت منه البشرية في تفجير الجبال وشق الطرق وبناء المدن وفتح مجالات التواصل بين الشعوب، تم استخدامه في الحروب، خاصة تلك التي استعر اوارها بين المانيا وفرنسا بين عامي 1870 – 1871 مخلفة وراءها الموت والدمار، الأمر الذي استفز نوبل ودفع به ليكون ليس داعية سلام، فحسب، بل ومساهما كبيرا في الأنشطة الهادفة لتحقيق السلام. فخصص جزءاً من ثروته جوائزَ ينالها، منذ بداية القرن الماضي وفي كل عام، ناشطون في قضايا السلام العالمي، ومبدعون في مجالات العلوم والآداب ومن جميع انحاء العالم (4).
من دون شك أن مثال نوبل يأتي في ذات السياق الذي يسوغه لنا تطور العلوم والتكنلوجيا والإنجازات المتحققة فيها. فكل منجز علمي جديد على الصعيد الكوني ينظر له بعين الشك، في ان يكون سلاحا ذا حدين. العلم بحد ذاته محايد من الناحية الاخلاقية، ولكنه سيصبح خيراً او شراً عند تطبيقه (5)، كما هو شأن الكثير من الاشياء في الوجود. الأمر يعتمد على طبيعة وغايات من يمسك بخيوط اللعبة ويملك وسائل هذا التطور والغاية منه.
التكنولوجيا الحديثة المتقدمة التي توصلت إليها البشرية بعد تراكم خبرات الانسان، عبر عصور مختلفة، وتطورت وما تزال من أجل سعادته ولتسهيل أمور الحياة أمامه، بلغت في عصرنا الراهن مديات واسعة سريعة الإيقاع في عملية الإنجازات العلمية المتقدمة، التي أسهمت في تنشيط فكرة مفادها أن التطور التكنولوجي الذي دخل جسم الانسان، من خلال العمليات اللازمة لحياته، كالتدخلات الجراحية والأدوية وزرع الأعضاء والتعديلات الجينية التي تعتمد على التكنولوجيا النانوية، بالإمكان اجراؤها على الأشخاص الأصحاء لتعزيز قدراتهم وتوسعيها، الأمر الذي من شأنه ان يغير من بنية الانسان البيولوجية. ومن هنا تصاعد النقاش حول احتمالية تجاوز الانسان الحالي الى ما بعده، ما بعد الإنسانية، مشروعا يسعى إليه البعض من اجل تحقيقه اعتمادا على التكنولوجيا المتطورة والذكاء الاصطناعي. بمعنى آخر فأن مفهوم الإنسان والسياقات التي غذت صيرورته ومازجت فيه النزعة الإنسانية ودعاماتها الفلسفية، في إطارها الحداثوي الذي يشمل أيضا مفهومي التنوير والنهضة، وكل الأسس التي جعلت الانسان محور التطور التاريخي باعتباره سيد الطبيعة ومالكها، حسب رينيه ديكارت. لذا يجري التأكيد على أهمية الانسان وإبعاد كل ما من شأنه أن يضعف من إنسانيته ويقلل من قيمه العليا بإخضاعه لقوى الطبيعة الخارقة، أو بتشويهه من خلال استعماله بطريقة دونية، دون طبيعته البشرية (6).
لكن ماذا يقصد بـ”ما بعد الانسان”، او “ما بعد الإنسانية”؟
ما بعد الإنسانية او: Posthumanism وما بعد الإنسان: Post-human هو مصطلح يحمل معاني متعددة، نظرا لشموليته وارتباطه بماهية الوجود. وهو اطروحة تنظر الى الفلسفة الانسانية التقليدية نظرة مغايرة لما تحمله من افكار وعادات بشرية. وهو فرع من نظرية ثقافية تنتقد الافتراضات الانسانية وإرثها وفق المفاهيم التاريخية والطبيعة البشرية، بل ويشكل تجاوزا لها ارتباطاً بالنمو المتواصل وباضطراد وغير الطبيعي للتكنلوجيا الحديثة، التي تحمل في طياتها ادوات إطالة امد الحياة، ليس من خلال تعزيز القدرات الجسدية والفكرية والنفسية، لدى الانسان فحسب، وانما استبدال هذه القدرات بذكاء اصطناعي عام، كما يطرح بعض الفلاسفة (7).
لكن هذا الذكاء الاصطناعي قد يشكل الأداة التي بمستطاعها السيطرة على الانسان، بسلب ارادته وجعل وجوده معتمدا عليها. وهذا يشكل جانباً من التشكيك في الغاية وراء طرح هذا المفهوم، كما يذهب بعض المتصدين الى اطروحة ما بعد الانسانية. بل أن التخوف من حصول عكس السائد العام لهذا المفهوم، الذي يصرح مناصروه بكونه مشروعًا علميًّا جديدًا، يهدف إلى تطوير مجال قدرات الإنسان البيولوجية والعقلية والنفسية وتوسيعها، وليس كما يتخوف البعض أن يغدو هذا التطوير شكلا من أشكال الاذلال للانسان، “وهذا يعني اننا نلحق الضرر بأنفسنا” (8)، يقول الفيلسوف السويدي نك بوستروم، احد اهم المتحمسين لفكرة ما بعد الانسانية معلقاً على مخاوف  المعارضين لمفهوم ما بعد الإنسانية. ويضيف أن ثمة أمراً آخر يطرحه المرتابون من هذه الفكرة، هو أن ما بعد الانسانية يمكن أن يشكل تهديدا للانسان “العادي” (كما يمكنني اضافة سبب ثالث محتمل لهذا التخوف، هو ان تطور مفهوم ما بعد الانسانية يمكن ان يهين كائنا خارقا للطبيعة)” (9).  يقول بوستروم، وهو في هذا يجادل الباحث الامريكي ليون كاس، الذي لا يعارض التكنولوجيا في مجال البيوتكنيك بل يرحب بها لوعدها في معالجة الامراض، وتخفيف المعاناة، واستعادة الصحة والكمال، لكنه قلق بشأن استخدامها لتوسيع القدرة البشرية الفائقة للعادة، مما يتجاوز النمط الطبيعي الذي يسميه “التصرف التكنولوجي” (10)، الذي سيغير معنى وشخصية الحياة البشرية. ويحاول نك بوستروم تطمين ليون كاس بأن “الما بعد انسانيين” يحاربون “افرازات الطبيعة” والتي احيانا تكون مسمومة، وليس دائما مقبولة. ويعدد سلسلة من هذه التي يسميها الهبات الفاسدة للطبيعة كالسرطان والمالاريا والخرف، والجوع والعذابات غير الضرورية (11).
رغبة الإنسان في اكتساب قدرات جديدة، قديمة قدم جنسنا البشري نفسه، يقول بوستروم، لقد سعينا دائمًا إلى توسيع حدود وجودنا، سواء كان ذلك اجتماعيًا أو جغرافيًا أو عقليًا. هناك ميل لدى بعض الأفراد على الأقل، دائمًا للبحث عن طريقة للتغلب على كل عقبة وقيود أمام حياته وسعادته.
ويربط بوستروم مفهوم ما بعد الانسان بفكرة الخلود، التي تعود جذورها الى عصور ما قبل التاريخ. ولدعم هذه الفكرة يستحضر ملحمة جلجامش، بوصفها أولى الروايات المكتوبة التي سطرها البطل السومري ملك مدينة اوروك حوالي 1700 قبل الميلاد، وانطلق من خلالها في مهمة البحث عن الخلود. يعلم جلجامش أن هناك وسيلة طبيعية - عشبة تنمو في قاع البحر. نجح في استعادة هذه العشبة، لكن أفعى تسرقها منه قبل أن يتمكن من أكلها (12). هذا على صعيد الاساطير، حيث الوسيلة كانت السحر الذي يقابله هنا العلم والتكنولوجيا التي جاء بها القرن الثامن عشر، الذي دشن فيه الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا العام 1760، حينما اخترع المحرك البخاري على يد الاسكتلندي جيمس واط، الذي جاء تتويجا لمحاولات أخرى كاختراع مضخة المكبس التي اخترعها العالم العربي بديع الزمان الجزري (13) علما انه عاش خلال الفترة (1136 - 1206).
وكان لذلك الاختراع دور كبير في تطوير الصناعة، حيث استخدم المحرك البخاري في تسيير السفن والقطارات، وفي صناعات النسيج والحديد والصلب...الخ. ثم الثورة الصناعية الثانية التي بدأت منذ نهاية القرن الماضي، باختراع محرك الاحتراق الداخلي، الذي استخدم في تصنيع الصلب، واكتشاف النفط. وتوصل توماس ايديسون الى اكتشاف الكهرباء وظهور الهاتف وصناعة السيارات.. الخ، الامر الذي مهّد الطريق للثورة الصناعية الثالثة التي انطلقت في العام 1960 مع الحاسوب الذي مرّ بأجيال مختلفة والروبوتات التي توسعت تصاميمها واستخداماتها في كافة المجالات من تجارية الى مساعدات إنسانية في الطبابة وغيرها. كما شكل استخدام التكنولوجيا الرقمية قفزة نوعية كبيرة سهلت من حفظ ونقل المعلومات والبيانات ومختلف ميادين التوثيق في مدة زمنية لا تذكر، فضلا عن أمانها وسريتها التامة اذ ان المعلومات الرقمية من نصوص وصور وغيرها تحفظ مشفرة، فأسهمت بقيام الثورة الصناعية الرابعة التي انطلقت مع بداية الالفية الثالثة واتسمت، الى جانب الرقميات، بالذكاء الاصطناعي والانترنيت والتقدم في مجال الهندسة الوراثية.
هذه الثورة مختلفة عن الثورات الصناعية الأخرى، اذ غيرت وبشكل جذري طبيعة علاقة الإنسان بالآلة. وتتميز هذه الثورة حسب الفيلسوف الفرنسي لوك فيري، التي يسميها الثورة التقنية الثالثة، بالنقلة النوعية من الطب العلاجي السائد إلى نمط آخر من الطب يهدف إلى تقوية الإمكانات والوظائف الجسمية وليس مجرد إصلاحها، وانما إلى “تحسين النوع” من خلال التحكم بالرصيد الجيني والهندسة الجينية الدقيقة. وبالتالي القضاء على الشيخوخة بزيادة سنوات العمر(14).
لوك فيري يرى أن النزوع نحو “ما بعد الإنسانيّة” يطرح مشكلة على نحو خاص. فهذا تيار فكري فلسفي وعلمي يأتينا من الولايات المُتحدة، وأوروبا لم تتعرَّف عليه بعد بشكلٍ جيّد. فبفضل التمويلات الضخمة التي تمنحها العديد من الجهات من ضمنها شركة “جوجل”، والتي تعدُّ بمليارات الدولارات، اتخذ هذا التيار أهمِّيّة كبرى على الضفة الأخرى من المُحيط الأطلسي، وحرّرت حوله آلاف الإصدارات وأقيمت له العديد من الحلقات الدراسية، كما دارت بشأنه مناقشات ساخنة بين كبار المُفكِّرين أمثال فرانسيس فوكوياما، ميكاييل سانديل أو يورغن ها برماس.
وعن سؤال حول إمكانية أن يشكل هذا تهديداً للبشريّة يرى الفيلسوف الفرنسي لوك فيري، أن الخطر يكمن في المنافسة بين الأمم والجيوش، ثُمَّ بين الأُسر، “وهي منافسة قد تقودنا عن غير قصد إلى تغيير الجنس البشريّ”. ويضرب مثالاً على ذلك: لدينا اليوم مرض التهاب الشبكية الصباغي الذي يسبب العمى، وهناك شركة ألمانية اخترعت شريحة تم زرعها خلف الشبكية فتم إعادة البصر، أن هذا ما يشبه السحر.
تخيل أن هذه الشريحة تطوَّرت في المُستقبل حتى أصبحت تستعمل لحدة النظر، بما يشبه بصر النسور، هذا سيدفع الجيوش الى التسابق في ما بينها في تكوين كتائب من الجنود الذين لهم حدة بصر النسر. وإذا قامت إحدى الأسر بتزويد طفلها بمثل هذه الأداة، فهناك احتمال كبير أن الأسرة المُجاورة سترغب هي الأخرى في فعل الشيء نفسه. اننا لم نصل الى هذا بعد ولكننا قريبون منه”(15).
*************
الهوامش:
  1. انظر: https://manshoor.com/society/is-technology-friend-or-enemy/
  2. فيدو وثائقي في اليوتوب بعنوان “ما بعد الإنسانية”، الجزء الأول. 19 mars 2020
  3. سلسلة من الكتب – ستة أجزاء، للأحداث نقلها من اللغة السويدية طالب عبد الأمير، إصدار دار المنى، ستوكهولم بين عامي 2017 و 2022
  4. طالب عبد الأمير، نوبل ومثالية الأدب” دار اوروك ميديا 2017 ستوكهولم.            
  5. الدوس هسكلي، النصوص والحجج، 1974، لندن، شاتو ويندس.             
  6. مصطفى كحيل، تحولات مفهوم الانسان في فلسفة الحداثة وفلسفة ما بعد الحداثة، مأخوذ من موسوعة لا لاند الفلسفية لالاند أندري، منشورات عويدات، الطبعة 1 بيروت 1996.
  7. Francesca Ferrand ،https://www.existenz.us/volumes/Vol.8-2Ferrando.pdf
  8. https://www.nickbostrom.com/ethics/dignity.html
  9.  نك بوستروم نفس المصدر السابق
  10. Kass. Ageless Bodies, Happy Souls: Biotechnology and the Pursuit of Perfection. The New Atlantis 2003; 1.
  11. نك بوستروم نفس المصدر
  12. Nick Bostrom Faculty of Philosophy, Oxford University www.nickbostrom.com(2005) Originally published in Journal of Evolution and Technology - Vol. 14 Issue 1 - April 2005;
  13. https://www.aljazeera.net/news/hijri/2013/11/17/
  14. «Luc Ferry: «Nous vivons une troisième révolution industrielle, «Presse littéraire»,nr 13, p 30- 31. العدد 13
  15. فيري لوك في مقابلة معه منشورة على اليوتوب بعنوان “ مابعد الإنسانية الجزء الثاني” ترجمة حسن سليم. إنظر كذلك مجلة “الدوحة” على الانترنت https://www.dohamagazine.qa /