
تعتبر موضوعة العولمة واحدة من اهم المواضيع في الوقت الراهن لما لها من أهمية بالغة بحكم تأثيراتها السياسية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية والبيئية. ولغرض الاحاطة بالموضوعة لابد من تفكيكها وتوزيعها على عدة محاور بغية البحث والتقصي والتوصل إلى تصورات واستنتاجات والخروج بأحكام ولا بد من الاشارة الى ان هذه الموضوعة ما زالت محط نقاش وبحث ودراسة من قبل العديد من المفكرين والباحثين. ومن اهم محاور هذه الدراسة هي:
أولا: مفهوم وتاريخ العولمة
يرجع العديد من الباحثين فكرة العولمة او الكوكبة إلى الفيلسوف الالماني أيمانويل كانت في القرن الثامن عشر (1724 - 1804) والذي تحدث اول مرة عن فكرة المواطنة الحرة العالمية التي تبنى على أساس مجتمع بشري يسهم في ضبط الدولة وتمردها ويجمعهم في اطر اخلاقية كونية موحدة. وجاءت هذه الافكار كبديل لواقع سيطرة الثقافة الدينية للكنسية الكاثوليكية العتيقة، والسعي إلى تجاوز سيطرتها عالميا عبر الانفتاح على أديان وثقافات الشعوب الاخرى.
وكانت هذه الافكار هي الاساس الذي اعتمده سان سيمون (1760-1825) في تصوراته اللاحقة حول عقلنة الصراع الدائر بين الطبقة العاملة وحلفائها من جانب والبرجوازية وحلفائها من الجانب الاخر وتنظيم المجتمع عبر إنشاء حكومة عالم المستقبل، وقد أدت التحولات الاقتصادية الاجتماعية إلى احتدام الصراع الطبقي في ظل الرأسمالية الصناعية الناشئة، وتعتبر افكار سان سيمون امتدادا طبيعيا لأفكار وثقافة عصر الانوار لجان جاك روسو صاحب كتاب العقد الاجتماعي (1712-1788) ودورسان بيير والتي اعتبرت الصيرورة التاريخية لتطور المجتمع البشري عبارة عن تطور ارتقائي من البربرية مرورا بالبداوة وانتهاء بالحضارة لجميع شعوب العالم.
مثلت تلك الافكار والآراء وفقا لتسلسلها التاريخي واختلاف ظروفها الزمكانية اساسا لتصورات كارل ماركس وأوغست كونت في القرن التاسع عشر، على الرغم من اختلافهما الفكري الشاسع، فماركس طرح الاممية البروليتارية كأساس للتعاضد والتضامن بين الطبقة العاملة وحلفائها في الصراع الدائر بين العمل ورأس المال على الصعيد العالمي والذي ينتهي بانتصار الثورة العالمية للبروليتارية التي تؤدي إلى اضمحلال الدولة القومية وبناء المجتمع الشيوعي.
اما اوغست كونت فبنى أفكاره على أساس الفلسفة الوضعية الداعية إلى ثقافة جديدة لتأسيس عالم جديد مبني على الوئام والتعاقد والعلم لكل الاديان والقوميات من مختلف شعوب العالم. وهي دعوة أخلاقية طوباوية ليس لها اساس في واقع الصراع القائم بالمجتمعات. وفي المحصلة النهائية ساهمت هذه الدعوات الاخلاقية بالتأسيس لأفكار الليبرالية والليبرالية الجديدة التي شكلت الحاضنة الفكرية للعولمة ولم تخرج العولمة عن اخلاقية النظام الرأسمالي التقليدية من خلال ممارساتها الوحشية اللاأخلاقية واستغلالها واضطهادها واستلابها وإملاقها للأفراد والمجتمعات والشعوب في ارجاء المعمورة، بل جاءت استمرارا لها وفاقتها بالكثير من الممارسات الوحشية. يتفق بعض الباحثين ـ على اختلاف افكارهم ـ على تعريف العولمة على انها نظام اقتصادي عالمي جديد يقوم على أيديولوجية ومفاهيم الليبرالية الجديدة، وهي في حالة صيرورة كأي ظاهرة اجتماعية لا تسير في خط مستقيم. ويصف الدكتور اسماعيل صبري عبدالله الكوكبة (العولمة) هي (التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك، دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء الى وطن محدد أو دولة معينة دون حاجة الى إجراءات حكومية)(1).
ويقول الباحث العراقي فالح عبد الجبار (ترسخ مفهوم العولمة في حقل الاقتصاد والعلاقات الدولية، ليخرج بعدها، منذ منتصف الُثمانينات، إلى حقول العلوم الانسانية الاخرى (ٍوبخاصة علم الاجتماع) التي تعيد الان تفحص مواقعها)(2).
ويرى المفكر د. صادق جلال العظم ان العولمة هي نقطة الانتقال العالمية من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والتجارة والتداول إلى عالمية دائرة الانتاج وإعادة الانتاج ذاتها. وكذلك ادخلت تنظيمات جديدة في البحث العلمي ودخله وريع الابتكارات ودخلها من العائدات.
ويذهب العديد من الباحثين الماركسيين إلى توصيف العولمة باعتبارها كل العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تجري خارج اطار تحكم الدولة البرجوازية القومية، وفي تصوري ان العولمة كظاهرة اجتماعية لا يمكن قراءتها خارج اطار تطور التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية أو بمعزل عنها، وقد تجاوزت العولمة الرأسمالية بممارستها الوحشية الاحلام الطوباوية للمفكرين البرجوازيين إيمانويل كانت، اوغست كونت.
ان هذا القراءة لتأثير العولمة على وظائف الدولة القومية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ستكون مدخلا للانتقال للبحث عن التأثيرات والإشكاليات التي تسببها سياسة العولمة للدولة القومية (الدولة الوطنية) حيث أصبح العديد من الدول عبارة عن دول فاشلة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
ثانيا: الدولة القومية واتجاهات العولمة
تتحكم الدولة منذ نشوئها في رقعة جغرافية محدودة لتنظم العلاقات الاجتماعية في مجتمع محدد، وقد نشأت الدولة القومية (الوطنية) في رحم مرحلة الرأسمالية وتطورت ايضا مع تطور الرأسمالية والتي مرت بثلاث مراحل حسب ما يذهب إليه الدكتور إسماعيل صبري عبدالله: الاولى: الرأسمالية التجارية - تميزت هذه المرحلة بالاكتشافات الجغرافية للبحث عن الموارد الاولية الطبيعية وكسر احتكار الإمبراطورية العثمانية للأسواق وساهمت هذه المرحلة في تحقيق التراكم الاولي لرأس المال من خلال نهب ثروات الشعوب والقارات المكتشفة وعلى التوازي مع تراكم رأس المال ظهر تراكم معرفي ابتدأ بالثورة الثقافية في عصر النهضة، الذي شمل جميع ميادين المعرفة وكان في مقدمتها الاصلاح الديني والذي غيّر مفاهيم وقيم الكنيسة حول الرأسمال، حيث جرى تمجيد الادخار، ورفع قيمة العمل، والنظر الى الثروة على أنها نعمة الخالق.
أما المرحلة الثانية: الرأسمالية الصناعية الناشئة ـ وهي الانتقال الى الالة البخارية وتعاظم التراكم الاولي للرأسمال والذي ساهم في الثورة الصناعية والبحث عن الاسواق لتصريف البضائع والحصول على المواد الاولية، والذي دشن فيه عصر الاستعمار والسيطرة على الاسواق العالمية بالقوة لبيع الفائض من الانتاج الصناعي والحصول على المواد الخام الاولية وقوة العمل الرخيصة وتتميز هذه المرحلة في تعاظم واشتداد الصراعات الاجتماعية وتعمق التناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج الذي ادى إلى قيام العديد من الثورات الاجتماعية.
المرحلة الثالثة: مرحلة الامبريالية ويؤكد أسماعيل صبري عبدالله ان المفكر جون هوبسون اول من كتب عنها في عام 1913(3)، وتناولها لينين في كتابه "الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية" والذي كتبه في ظروفه الزمكانية والذي لم تصمد أحكامه حيث استطاعت الرأسمالية عبر التكيف الهيكلي ان تتجاوز أزماتها الدورية، واستطاعت الشركات الاحتكارية بحماية الدولة وتدخلها بالسيطرة على الثروات المادية والبشرية للشعوب، وتميزت هذه المرحلة في إشعال الحروب الاقليمية والعالمية للسيطرة على الاسواق وتقاسم النفوذ بين الدول الرأسمالية وفق امكانيتها ودورها، وتميزت هذه المرحلة ايضا بالتنافس بين الشركات الاحتكارية والدولة الرأسمالية ومركزة رأس المال المالي بيد الاحتكارات متعددة الجنسيات ومؤسساتها المصرفية والمالية، وعبر تراكم راس المال الصناعي والمصرفي الذي ولد رأس المال التمويلي والذي كانت حاضنته جهاز الدولة الرأسمالية ليتجاوزها ويتمرد عليها ويصبح قوة هائلة في الاسواق المالية ومنافسا قويا للدولة وهذه العملية ساهمت في التأسيس لما أطلق عليه من بعض الباحثين والمفكرين المرحلة الرابعة من التطور الرأسمالي العالمي والتي يختلف العديد من الباحثين حول تسميتها منهم من يطلق عليها مرحلة الرأسمالية المعولمة والبعض الاخر يطلق عليها الرأسمالية ما بعد الامبريالية، فعلى سبيل المثال لا الحصر على شدة المنافسة بين الشركات المتعددة الجنسيات والدولة الرأسمالية في عام 1992 ضارب جورج سوروس ضد الجنيه الاسترليني البريطاني ليكسب ما يزيد على مليار دولار في غضون اسبوع، ولم يستطع البنك المركزي البريطاني توفير مصادر مالية لمواجهة هذه المضاربة. وفي عام 1999 امتلك 1% من العائلات الامريكية الغنية 48% من أجمالي الثروة في الولايات المتحدة الامريكية، ويتحكم في الاقتصاد العالمي ما يقارب 500 شركة متعددة الجنسيات، منها 428 شركة مقرها في الدول السبع الرأسمالية الكبار، يوجد 153 شركة في الولايات المتحدة الامريكية و 100 شركة في الاتحاد الاوربي و141 شركة في اليابان(4).
خلاصة القول إن العولمة هي سياسة السوق الحر المفتوح المبنية على وحشية التنافس. وقد حطمت هذه السياسة الدولة الكينزية وفتحت باب المنافسة غير المتوازنة على مصراعيه وتجاوزت حدود سيطرة الدولة الرأسمالية. ويصف الكاتب عبد الحي زلوم العولمة بقوة التدمير الشامل (ان العالم اليوم يمتلك وسائل تدمير ذات قوة هائلة توازي القوة النووية تتمثل في القوة الرعناء للأموال التي تستطيع ان تأتي بدمار شامل مماثل وسريع)(5).
ولتأكيد على ماذهب اليه السيد عبد الحي يحيى زلوم يمكن ان نذكر ازمة سوق المناخ في الخليج، وأزمة الاسواق المالية في جنوب شرق اسيا (النمور الورقية) وازمة المكسيك وغيرها من الازمات العالمية التي حطمت القدرة الاقتصادية للدول وحملتها مديونية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تقدر بمئات مليارات الدولارات الامريكية.
ويرى المفكر سمير امين أن لا مستقبل للعولمة وأن محاولة إخضاع النظام الاجتماعي محليا وعالميا لمقتضيات قوانين السوق، إنما هو مشروع وهمي لن يخلق نظاما عالميا جديدا، بل فوضى متفاقمة فقط، بيد أن السلطات الحاكمة لا تنشغل الا بهموم إدارة هذه الازمة، لا بالبحث عن حلها.
ان العولمة غيّرت اسس النظام السياسي الحقوقي العالمي، والذي كان يعتمد على حقوق الدولة القومية وسيادتها على ثرواتها المادية والبشرية وإدارة اقتصاديتها من قبل نخبها الحاكمة، لتصبح سيطرة ادارة الشركات ما فوق القومية والمتعددة الجنسية عبر اذرعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية هي المسيطرة على الثروات الوطنية والقومية للشعوب من خلال المضاربات المالية وسرعة حركة انتقال رؤوس الاموال في الاسواق العالمية التي تجاوزت سيادة واستقلال الدول.
ثالثا: مفهوم السيادة والاستقلال في ظل العولمة
لقد نشأ مفهوم السيادة في العصر الحديث مع نشوء و قيام الدولة القومية التي نشأت على أنقاض النظام الإقطاعي، وقد أدى ضعف السلطة البابوية إلى إبراز فكرة السيادة وإعطائها مفهوما جديدا ، حيث تعد السيادة من الاركان الأساسية التي بني عليها القانون الدولي المعاصر، وقد لقي مفهوم السيادة اهتماما من فقهاء القانون والباحثين والمهتمين في علم الاجتماع والسياسة على حد سواء ، وكان اول المهتمين بهذا المفهوم هو المفكر الفرنسي جان بودان سنة 1576م والذي تناوله في كتبه الستة عن الجمهورية ، وقد كانت فكرة السيادة موجودة بمستوياتها المختلفة منذ ظهور التجمعات البشرية الأولى، وجرى العمل بها من خلال علاقة المواطن بالسلطة وحصر السلطات وامتدادها على الرقعة الجغرافية المحدد دون تحديد ذلك بقوانين وجرى تقييد تلك العلاقات بالقوانين الطبيعية و والأديان والشرائع السماوية التي اعطت لرجل الدين والكنيسة السلطة المطلقة والسيادة المطلقة والتي جمعها الحاكم والملك في ما بعد في سلطة مطلقة واحدة.
ادى التطور الاقتصادي الاجتماعي في اوربا بداية القرن السادس عشر الى القضاء على بقايا النظام الاقطاعي والتأسيس لنظام رأسمالي جديد كانت السيادة ميزته الاساسية والتي شكلت جزءا من شخصية الدولة القومية. وأخذت فكرة السيادة المطلقة للحاكم والملك في الزوال لتحل محلها افكار المفكر جان بودان حول السيادة المقيدة التي تناولها في كتبه الستة حول الجمهورية، ان الانتقال من سلطة السيادة المطلقة الى السيادة المقيدة لم يغير من مفهوم السيادة باعتبارها السلطة العليا التي تسمو على الأفراد وتعلو على القانون.
وفي القرن الثامن عشر طور المفكر جان جاك روسو مفهوم السيادة في كتابه المعروف "العقد الاجتماعي"، واطلق عليها تسمية الإرادة العامة للشعب، وساهم في فك ارتباط السيادة السابق بالمفهوم الديني واللاهوتي ليتحول الى الارتباط بالمفهوم الاجتماعي المرتبط بالعلاقة بين الطبقات الاجتماعية؛ حيث يصف المفكر جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي السيادة قائلا (إن العقد الاجتماعي يعطي المجتمع السياسي سلطة مطلقة على كل أعضائه وهذه السلطة المطلقة التي تتولاها إرادة عامة تحمل اسم السيادة، والسيادة التي ليست سوى ممارسة الإرادة العامة لا يمكن أبدا التصرف فيها، وصاحب السيادة الذي هو كائن جماعي لا يمكن لأحد أن يمثله أو ينوب عنه سوى نفسه).
وكانت مواقف ماركس وأنجلز من أحداث عام 1848 في النمسا والمجر وكذلك مواقفهما المعروفة من المشكلة الايرلندية والحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على المكسيك واستيلائها على مقاطعات غنية وضمها إلى أراضيها، والموقف من الاحتلال الإنكليزي للهند ومن ثم موقفهما من استعمار الجزائر ومصر، كل هذه المواقف المؤيدة لحق تقرير المصير وسيادة الشعوب لا تخفى على المتابع والدارس لتاريخ الفكر السياسي الاشتراكي .
وقد جرى تأكيد موقفهما أيضا في البيان الصادر عن الكونفرنس العالمي للأحزاب والنقابات الاشتراكية العمالية المنعقد في لندن عام 1896 من الاقرار بالحق الكامل لجميع الأمم في تقرير مصيرها، وإن حق تقرير المصير من وجهة نظر ماركس وأنجلز، يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار عملية التطور التاريخي للمجتمعات المعنية.
وعلى ضوء التصورات الماركسية حول تقرير المصير والاستقلال وضع البلاشفة في برنامجهم الحزبي للمؤتمر الثاني عام 1903 فقرة حول حق الأمم في تقرير مصيرها، منطلقين من دراسة خصوصيات التركيبة القومية لروسيا القيصرية ومساندة حقوق القوميات المضطهدة في روسيا في عهد الامبراطورية القيصرية. وكتب لينين حول حق الأمم في تقرير مصيرها (أننا لنعترف في روسيا المستقبلية، لجميع الامم بالحق في تقرير مصيرها بحرية لأننا لا نرى في الحرية القومية إلا مظهرا من مظاهر الحريات المدنية بوجه عام)(6).
وقد جرت نقاشات عاصفة حول حق تقرير المصير والانفصال للشعوب المضطهدة الواقعة تحت نير الاستعمار والاحتلال بين الاشتراكيين الديمقراطيين الروس والبولنديين بقيادة روزا لوكسمبورغ والنمساويين الذين طرحوا مفهوم الاستقلال الذاتي القومي الثقافي مقابل اطروحات لينين حول حق الامم في تقرير مصيرها.
وخلال القرون الثلاثة الماضية جرت تغييرات هامة على مفهوم السيادة بتأثيرات سياسة العولمة التي أدت الى تغيير مفهومي سيادة الدولة الداخلية والخارجية التي تضمنتها المعاهدات والمواثيق والقوانين الدولية، وأصبح التدخل العسكري المباشر والاحتلال والغزو هو السمة العامة في النظام الدولي حيث جرى التدخل في العراق والصومال وهايتي ويوغوسلافيا ورواندا وليبيريا، وأفغانستان 1996- 1999م والسودان 1996م، ثم كوسوفو وتيمور الشرقية في 1999 والبوسنة والهرسك. وما أعقب ذلك من قرارات الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الاوربي من تدخلات وحصار تحت شعارات حقوق الانسان والتدخل الانساني وتغير الانظمة السياسية بواسطة القوة العسكرية والعدوان على سيادة واستقلال الدول المستقلة تحت حجة الحفاظ على الامن والسلم الدوليين.
وقد أدت هذه السياسات العدوانية للامبريالية المعولمة الى انتهاك سيادة الشعوب واستقلالها، وتدويل السيادة وهدم أركانها وتغير مفاهيمها المتعارف عليها بالمجتمع الدولي، ألا وهي الاعتراف المتبادل بين الدول بسيادتها الداخلية والخارجية وفق معاهدة صلح وستفاليا 1648 وساهم ذلك ايضا في إحداث اضطراب في النظام العالمي وسيادة ثقافة الهيمنة والإلغاء والاستلاب.
رابعا: العولمة والثقافة
الهوية الثقافية الوطنية في ظل العولمة:
تحاول ماكينة الدعاية الاعلامية المعولمة إظهار العولمة الثقافية باعتبارها عملية طبيعية للتطور الانساني وصيرورته التاريخية. وهي عبارة عن انتقالة من الثقافة الوطنية والقومية الضيقة الافق إلى طور أعلى هو الثقافة العالمية الواسعة والشمولية.
لكن الواقع أثبت ان العولمة الثقافية من خلال الممارسة العملية تشكل عملية فرض سيطرة الثقافة الغربية الاستهلاكية على الصعيد العالمي ومحاربة الثقافة الوطنية والقومية وإفراغها من محتواها الاصيل، واستثمار التطور التكنولوجي والعلمي الهائل لخلق ثقافة مصطنعة تروج الأفكار الليبرالية الجديدة وتدافع من مصالح الشركات متعددة الجنسيات.
ويقول المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز حول إشكالية العولمة (أي العولمة الثقافية) انها فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، أنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف المسلح، فيهدد سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها العولمة(7).
ويرى المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري ان العولمة (إلى جانب أنها تعكس مظهرا أساسيا من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضا ايديولوجيا تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته)(8).
لقد أدت ثقافة العولمة إلى تراجع ثقافة الكتابة على مستوى الانتاج والتبادل مقابل شيوع ثقافة الصورة، حيث تلعب الصورة اليوم دورا مهما في التأثير على الجمهور والرأي العام، وهي عابرة للحواجز الوطنية والإقليمية ومحطمة الحواجز اللغوية، حيث ساد ما قبل العولمة، النظام السمعي - البصري والذي لعب دور العامل الحاسم في التأثير على الوعي الجمعي. وتتسابق الشركات المتعددة الجنسيات اليوم في تقديم صورة خادعة للوعي البشري مع التراجع المريع لمستوى القراءة وتداول الكتاب ومستوى التعليم والاكتفاء بالثقافة السطحية المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة الانترنيت. كما ساهمت الصورة بالهجوم على القراءة ما أدى إلى انحسار مساحة المعرفة وجغرافية التكوين الثقافي مع تعاظم معايير وقيم النفعية والفردانية والأنانية والنزوع الغرائزي المجرد من الانسانية.
لقد أصبحت الثقافة في ظل العولمة، مجرد سلعة تخضع لقوانين السوق بعد ان كانت منتجا اجتماعيا خارج اطار عملية العرض والطلب، وتحولت الثقافة في ظل العولمة إلى مجرد سلعة فردانية نفعية وأنانية وأضفت الشرعية على الاستلاب والاغتراب.
خامسا: اتجاهات تجديد الماركسية في ظل العولمة
ينظر العديد من الماركسيين إلى العولمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية تشكل جزءا من التطور التاريخي للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية، وتتحكم بها قوانين السوق الرأسمالية السائدة بكل تفاصيلها من العرض والطلب والتبادل والتوزيع. ولكن العولمة اعادت هيكلة الانتاج والتوزيع والتبادل وفق التطور الهائل لتكنولوجيا عالم الاتصالات والأتمتة والصناعات الالكترونية. وتجاوزت الاسواق القومية إلى الاسواق العالمية عبر سرعة حركة رؤوس الاموال وسيطرة الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات على مفاصل الاقتصاد العالمي وحركة رؤوس امواله.
وأدت العولمة (بطبعتها الرأسمالية) الى تعميق الازمة البنيوية للنظام الرأسمالي العالمي وساهمت في المزيد من الاضطهاد للأقليات القومية والعرقية وتعاظم في ظلها الاستغلال والاستلاب والاغتراب. وعرضت دولة (الرفاه الاجتماعي) الى التآكل والانهيار عبر الهجوم على المكتسبات التي حققتها الطبقة العاملة وحلفاؤها، وساهمت في تشريع قوانين مجحفة أدت إلى زيادة البطالة والفقر وتراجع برامج التنمية والصحة والخدمات وتصاعد معدلات الجريمة المنظمة والاتجار بالجنس والبشر.
ولمواجهة الاثار السلبية للعولمة تعاظمت الحركات الاجتماعية الاحتجاجية وطرحت الاحزاب اليسارية ومنظمات المجتمع المدني والقوى الديمقراطية العديد من التساؤلات المتعقلة في اتجاهات سياسة العولمة وإمكانية التصدي لها. ودفع العديد من الباحثين الماركسيين والتقدميين إلى البحث عن اجابات حول الاسئلة الحارقة المتعلقة بطبيعة الصراع الطبقي الدائر في ظل العولمة وطبيعة تقسيم العمل والبنية الطبقية للمجتمعات والتغيرات الطبقية الناجمة عن الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئة للعولمة، وكيفية التعامل مع قوانين الديالكتيك في ظل العولمة وهل ما زال قانون وحدة صراع الاضداد قائما في ظل العولمة وغيرها من الاسئلة التي وضعت امام الباحثين لدراستها والبحث فيها للتوصل إلى مقاربات تساهم في تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية، فذهب البعض للبحث في الكتابات الكلاسيكية للماركسية ليعثر في البيان الشيوعي على توصيف ماركس المبكر للعولمة في البيان (وجاء اكتشاف امريكا والطريق البحري حول افريقيا ليفتح أمام البرجوازية الصاعدة ميدانا جديدا للنشاط. فإن أسواق الهند الشرقية والصين، واستعمار أمريكا، والتبادل مع المستعمرات، وازدياد كمية وسائل التبادل والبضائع على العموم، كل هذه الامور دفعت التجارة والملاحة والصناعة دفعة لا سابق لقوتها.... الا أن الاسواق تتسع وتتعاظم أكثر فأكثر، وكان الطلب يزداد باستمرار باستطاعة المانيفاكتورة أن تلبيه، وآنذاك أحدث البخار والآلة ثورة في الصناعة)(9).
أما لينين فقد تناول في كتابه "الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية" التوسع الجغرافي للامبريالية وفتح الاسواق الجديدة عبر الحروب والتي شكلت الخطوات العملية للعولمة والتي وصفتها روزا لوكسمبورغ الحل المنقذ للتراكم الرأسمالي وهو الذهاب إلى الاقاليم الجغرافية البعيدة واستثمار التراكم في شراء المواد الاولية وقوة العمل. ولن تقف المعالجات الماركسية عند هذه الحدود، بل تناول كل من سمير أمين وأيمانويل فالرشتاين وأندريه غوتير ووالتر رودني افكارا جديدة حول التراكم الرأسمالي في ظل العولمة والعلاقة بين المركز والاطراف والشمال والجنوب.
ولكن يلاحظ ان هناك ضعفا في بعض الدراسات التي تناولت هذه الموضوعة بسبب عدم إعارة اهتمام كاف للمكان وللبعد الجغرافي وتأثيرات عامل الزمن في التطور الاقتصادي الاجتماعي للبلدان المختلفة، وتأثير ذلك على وحدة القوى المناهضة للعولمة الوحشية.
ولمعالجة هذا القصور طرح كل من ريموند ولياس وديفيد هارفي نظرية الجغرافية وتأثيرها في صياغة نظرية جديدة حول نضال الطبقة العاملة والاشتراكية وأهمية المكان وخصوصية الجغرافيا بشكلها العام والخاص السياسي والثقافي. ويرى أصحاب هذه النظرية أن حركة رأس المال المالي وانتقاله السريع وهجرته وراء الايدي العاملة الرخيصة والضرائب القليلة والفوائد العالية من بلد إلى آخر يساهم في شق وحدة صفوف الطبقة العاملة وحلفائها ويؤثر تأثيرا بالغا على التضامن الاممي بين الشغيلة والكادحين.
ولابد من الاشارة إلى ان العولمة بسلبياتها وايجابياتها لا يمكنها تعطيل القوانين الاجتماعية المنظمة للصراع الطبقي والتي تشكل قوانين الديالكتيك جوهرها الاساس والتي ترى ان الصراع الطبقي هو المحرك الاساس للصراع الاجتماعي، وان جوهر الصراع بين العمل ورأس المال وان التناقض الحاد بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج سوف يؤدي إلى الثورة الاجتماعية التي سوف تطيح بأسلوب الانتاج وتستبدله بأسلوب ارقى منه.
سادسا: أهم الاستنتاجات
1- وضعَ اقتصاد السوق الحر وفق نظرية آدم سمث حاجات ومتطلبات الافراد المشتركين في المقام الأول، والان توضع العولمة حاجات ومتطلبات ومصالح الافراد مالكي الشركات متعددة الجنسيات في المقام الاول.
2- ما زال الصراع بين العمل ورأس المال هو القوة المحركة للصراع الطبقي الاجتماعي في جميع البلدان، ولكن بدرجات متفاوتة، بل اصبح الصراع الطبقي في البلدان الطرفية صراعا مركبا ومعقدا.
3- لا توجد حدود وطنية لحركة رأس المال والتبادل والمنافسة والمضاربة في الاسواق العالمية.
4- اصبح التقسيم الدولي للعمل هو السائد بدل التقسيم القومي (ولم يعد الصراع الطبقي محصورا برقعة جغرافية محددة بل تجاوز المكان واختصر العامل الزمني، ليصبح الصراع بين الرأسمال المعولم والقوى المنتجة على الصعيد العالمي، مثل الصراع بين الشمال والجنوب، والمركز والأطراف).
5- هناك فرق جذري بين العالمية الداعية إلى الانفتاح على الآخر والعولمة الداعية إلى الغاء الاخر.
6- ساهمت العولمة في احداث تغيير فارق في بنية الطبقة العاملة وظهرت فئات في داخلها، العمال ذوو الياقات البيضاء وذوو الياقات الزرقاء والعمال الزراعيون.. الخ.
7- أنشأت العولمة تناقضا حادا بين طبيعة الدولة الرأسمالية الديمقراطية المنتخبة صاحبة الشرعية الدستورية وحامية السيادة والاستقلال الوطني وسيطرة ادارات الشركات المتعددة الجنسيات وحكومتها الالكترونية العالمية عبر مؤسساتها الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية).
8- ينظر بعض الباحثين الماركسيين والتقدميين الى العولمة كظاهرة اقتصادية اجتماعية ثقافية فقدت الدولة الرأسمالية السيطرة عليها، وخلقت تعارضا بين الطابع الديمقراطي التمثيلي لمؤسسات الدولة وطابع السيطرة الادارية للشركات المتعددة الجنسية وما فوق القومية التي تمتلك أدوات تنفيذية أممية قادرة على تجاوز سلطة الدولة ومؤسساتها وفرض ارادتها بفعل قوة ونفوذ رأس المال المالي العالمي وحركته وتدفقه في الاسواق المالية العالمية.
9- ساهمت العولمة الثقافية في توسع النزعة الاستهلاكية والأنانية والانعزال والترويج لصراع الحضارات وعدم الاعتراف بالآخر، ولكن هذه لا تعني في ظل الثورة المعلوماتية الهائلة أنها لم تؤد إلى تلاقي الثقافات بفعل مواجهة الشعوب لهذه الهجمة الكبيرة والاستفادة من المنجزات العلمية الهائلة والثورة في ميدان الاتصال لصالح نشر الثقافة والتنوير والقيم الانسانية وتجاوز البعد المكاني للثقافة واختصار العامل الزمني للوصول إلى ابعد نقطة على سطح المعمورة.
10- ساهمت العولمة في تأجيج وإشعال الحروب الطائفية والاهلية والإقليمية للسيطرة على المواد الأولية والأسواق والتحكم في التبادل والتوزيع على الصعيد العالمي، وما يجري اليوم من حرب بين روسيا وأوكرانيا ناتج طبيعي للصراع الامبريالي في ظل العولمة الرامي إلى تقاسم النفوذ وتعدد الاقطاب.
11- أدت العولمة إلى تعميق اللامساواة بين الشعوب وتعاظم الفقر والبطالة والتفاوت الشاسع في مستوى الدخل بين المركز والأطراف.
أخيرا، لابد من الإشارة إلى أن العولمة تعتبر ظاهرة معقدة وشائكة تتطلب العمل المتواصل على تفكيكها ومتابعة آثارها وتمظهرها ووضع الدراسات والبحوث حول جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية والإنسانية.
الهوامش:
1¬- منير الحمش، العولمة ليس الخيار الوحيد، ط 1، الاهالي للطبع والنشر والتوزيع، دمشق 1998، ص21.
2- فالح عبد الجبار، ما بعد ماركس؟ ط 1، دار الفارابي، بيروت، 2010، ص 120.
3- الحمش، ص 23.
4_ المصدر نفسه، ص 25 -26.
5- عبد الحي يحيى زلوم، نُذر العولمة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، بيروت، 1999، ص16.
6- جورج طرابيشي، لينين نصوص حول المسألة القومية، ط 1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 1972، ص 19.
7- الحمش، ص41.
8- المصدر نفسه، ص 45.
9- كارل ماركس فريدريك انجلس، مختارات، المجلد الثاني، دار التقدم للطباعة والنشر، موسكو، 1989، ص 67 -68.
ماجد لفتة العبيدي من مواليد مدينة الناصرية، العراق، دبلوم في العلوم السياسية - أكاديمية العلوم السياسية في جمهورية بلغاريا. كاتب وصحفي له العديد من الكتابات في الصحف والمجلات العراقية والعربية والمواقع الإلكترونية.