أيار 19
  
 
  عشية نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين سادت فكرة او اطروحة بشأن بناء نموذج للرفاه واعتباره جزءاً من مشروع الحركة العمالية، يسعى لتحقيق "تحول اجتماعي اشتراكي"، وقد أطلق عليه بعض الباحثين "مسار السياسة الاجتماعية نحو الاشتراكية" (1). غير أن هذه المقاربة اطلقت سجالا حول المشروع وأحدثت انقسامات شهدتها الحركة العمالية بشأن قضايا الرعاية الاجتماعية والموقف منها. وألقت هذه السجالات والانقسامات بثقلها لتنتقل من الجدل حول القضايا العملية الى القضايا المفاهيمية من قبيل الفروقات بين مفهومي "الإصلاح" و"الثورة"، وبين "التعاون الطبقي" من ناحية و"الصراع الطبقي" من ناحية أخرى.
    ولعل واحدة من المشكلات الأساسية في تحليل الجدل حول الرفاهية، الذي ساد لعقود في الحركة العمالية، هي الحفاظ على حقيقة أن الخط الفاصل الرئيسي في هذه الحركة هو بين "الإصلاح" و"الثورة". وطبيعي ان هذا الاختلاف داخل الحركة العمالية ليس جديدا بل تمتد جذوره الى فترات سابقة، لذا ثمة ضرورة هنا الى وقفة سريعة للتعرف إلى الجذور (2).
    من الناحية التاريخية، واجهت الحركة العمالية، عشية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، معضلة يمكن صياغتها على هيئة سؤال وهو: كيف يمكن مواءمة فكرة الإشتراكية مع النشاط اليومي للناس، أو باستخدام التعبير اللوكسمبورغي (نسبة الى المفكرة الماركسية روزا لوكسمبورغ): كيف يمكن تحقيق التوافق أو المواءمة بين الهدف النهائي والأهداف المرحلية العملية؟
    كما معروف، فإن هذه الإشكالية طُرحت في البداية بحذر، وذلك بعد أن نشر إدوارد برنشتاين سلسلة من المقالات تحت عنوان: قضايا الإشتراكية. وكان برنشتاين، الواقع تحت تأثير الإقتصادوية Economizm والنجاحات الانتخابية لـ حزب العمال الاشتراكي الالماني SPD، قد صاغ طائفة من الاستنتاجات والتي اثارت حينذاك جدلا واسعا حولها، ويمكن الإشارة هنا الى أهمها باختصار (3):
 
- إن أفكار ماركس، بجانب ثرائها العلمي، تحتوي على عناصر البلانكية (نظرية الكوارث الإجتماعية) واليوتوبيا (الطوباوية).
-  إن الوتيرة السريعة للتحولات الرأسمالية المعاصرة جعلت من الماركسية، باعتبارها تأويلا محددا لعموم هذه التشكيلة، غير ملائمة.
- إن التغيرات التي حدثت والتطور العاصف للحركة العمالية (وخصوصاً في ألمانيا)، تسمح بالافتراض بأنه يمكن الإنتقال سلمياً من الرأسمالية الى الإشتراكية.  وبعبارة أخرى، وطبقاً لتصور برنشتاين، فإن الثورة لا تصبح الوسيلة (الأداة) الضرورية المؤدية الى "الهدف النهائي"، بل يجب اختيار طريق آخر (غير عنفي).
-  إن الوضع الجديد للرأسمالية، المختلف عما تصورته الماركسية، يتمثل في النزوع نحو اختفاء التناقضات في تطور الرأسمالية والى التحول نحو الديمقراطية.
- وبسبب قدرات الرأسمالية على التكيّف فإن الأوضاع الأزموية، بالمعنى الإقتصادي والاجتماعي، أصبحت أقل احتمالا ولذلك تفقد الدولة الرأسمالية طابعها الطبقي، وفي نفس الوقت يتعرض صراع الطبقات الى نوع من التلطيف، بحسب برنشتاين.
    واستنادا الى الأطروحات السابقة، توصل برنشتاين الى استنتاج مفاده أنه يتوجب على الحزب الاشتراكي الديمقراطي أن يتخّلى، في برنامجه، عن مطلب الثورة، وأن يركّز كل طاقته على النضال طويل المدى من أجل تدعيم أو تعزيز الدور الإقتصادي والسياسي للبروليتاريا عن طريق المساهمة الواسعة في الانتخابات البرلمانية، ومن خلال النشاطات والفعاليات الجماهيرية لصالح دمقرطة الحياة - وصولاً الى المساواة التامة للبروليتاريا. وهكذا يمكن القول ان مفاهيم من قبيل الاصلاح (وليس الثورة) والتعاون الطبقي... الخ، تجد جذورها في مقاربة برنشتاين المشار إليها أعلاه.
    لقد أنكر برنشتاين الجوهر الثوري للماركسية، وأعلن أن المهمة الوحيدة للحركة العمالية هي النضال في سبيل اصلاحات ترمي الى تحسين وضع العمال الاقتصادي في ظل الرأسمالية (4)
دولة الرفاهية الاجتماعية لمصلحة من؟
     وبالمقابل فإنه وعشية اندلاع ازمة دولة الرفاهية او الرعاية الاجتماعية في سبعينات القرن العشرين لوحظ ان واحدة من أكثر القضايا إثارة للاهتمام - وفي نواح كثيرة – هي الحركات والشبكات الشعبية المختلفة التي سعت للدفاع عن "نموذج دولة الرفاهية الاجتماعية". وطبيعي الاشارة هنا الى ان هذه المساعي كانت تهدف إلى تقوية هذا النموذج لدفعه الى مواجهة التحديات التي تعترضه بشكل أفضل. ويرى بعض المختصين بقضايا الرفاه أن النقاش الذي ساد في العقود الاخيرة حول الدفاع عن الرفاه العام وخصوصا بالنسبة للحركة العمالية يعتمد على فهم عميق للمشاكل والتحديات التي تطرحها دولة الرفاهية ومساراتها المتنوعة. بل ان هناك من ذهب بعيدا الى درجة أنه تم طرح ما اطلق عليه "أسس استراتيجية اشتراكية بديلة في سياسة الرفاهية" (5)، أو "مسار السياسة الاجتماعية نحو الاشتراكية" (6).
    ترتكز هذه الاستراتيجية على الفهم الأساسي والرؤية المجتمعية لماهية الرأسمالية والاشتراكية وبالتالي لدولة الرفاهية، ضمن منظور "الصراع الطبقي"، وكيف يختلف هذا المنظور عن الأساس الذي تقوم عليه دولة الرفاهية الراهنة والدفاع عنها - وهو الأساس الذي يدعى هنا بـ "التعاون الطبقي".
    ومنعا لأي التباس لا بد من الاشارة الى انه وحسب صائغي هذه المقاربة فإنها لا تمنع أو لا تحد من النضالات اليومية للطبقة العاملة وقطاعات واسعة من المجتمع لصالح الرفاهية في ظل الرأسمالية.. ولكن ما يجب التركيز عليه في هذه المقاربة هو انه لا يجوز تحليل الرفاهية بطريقة محايدة، بل من منظور طبقي واضح، أي اثارة السؤال الاستراتيجي حول القوى الاجتماعية المستفيدة من هذا الخيار – أي دولة الرفاهية الاجتماعية لمصلحة من؟.

   في كثير من الأحيان تهمل اثناء النقاشات حقيقة أن "الإصلاح مقابل الثورة" انما يشير أساسا إلى استراتيجيات مختلفة لتحقيق ما ينظر إليه على أنه الهدف النهائي نفسه: أي الاشتراكية، فبدون هدف مشترك، فإن الطرف المعاكس هو في الواقع لا معنى له نسبياً. من الناحية التاريخية، وخلال فترات طويلة من "طفولة وشباب" الحركة العمالية، وقبل كل شيء، الديمقراطية الاجتماعية، كان يمكن لـ "الإصلاحيين" و"الثوريين"، على الرغم من تناقضاتهم التكتيكية، أن يجتمعوا في نفس الأحزاب ومنظمات العمال والنقابات على نفس الاهداف الاستراتيجية. فقد كان للعمال نفس الأهداف - وإن كانت هناك طرق مختلفة للوصول إلى تحقيقها.
    وعلى أية حال، فإنه وفي ضوء هذا الفهم التاريخي للتناقضات داخل الحركة العمالية، أصبحت دولة الرفاهية بمثابة استراتيجية "إصلاحية" للديمقراطية الاجتماعية.
    من الناحية النظرية، يتم إثبات هذه الفكرة من خلال ان الرفاهية هي عبارة عن نزع أو فك صفة التسليع "De-commodification"  التي طرحها عالم الاجتماع الدانماركي، غوستا اسبنغ- اندرسن Gösta Esping-Andersen ، في عمله التأسيسي "العوالم الثلاثة لرأسمالية الرفاه" (7).
    فمن المعروف ان إسبينغ-أندرسن هو الذي اشار الى أن دولة الرفاهية الاجتماعية هي عبارة عن شكل من أشكال "إزالة او فك التسليع" .De-commodification  وقد حقق النموذج الاسكندنافي لدولة الرفاه، درجة عالية من إلغاء او ازالة التسليع De-commodification (8)، أكثر من جميع الأنظمة الرأسمالية للرعاية الاجتماعية. هذا مع العلم ان تصنيف (نمذجة) Esping-Andersen  تعرّض، على مرّ السنين، لنقدٍ قاسٍ وقام ، في الحقيقة ، بتحديثه وصقله في محاولة لجعله أكثر دقة (9). ومع ذلك، فإن الانتقادات المستمرة لفكرة إزالة التسليع De-commodification ذاتها توشي بغياب واضح (10).
    غير أن المشكلة الجوهرية، من وجهة نظر اشتراكية، هي بالضبط الأساس لتوصيف أنظمة الرفاهية، وتتمثل بفكرة إزالة التسليع ذاتها، التي تخاطر بتعتيم رؤية حدود دولة الرفاهية الحقيقية. ولإخفاء القصة الطويلة، فإن المشكلة الأساسية هي أن إلغاء التسليع الذي ينسبه  Esping-Andersen  إلى دولة الرفاهية لا ينطبق إلا على مجال التداول (السوق) - ولكنه يفترض أيضا في نفس الوقت درجة متزايدة من تسليع مجال الإنتاج. وكما يحذّر Esping-Andersen  نفسه، فإن الشرط المسبق الأساسي لنموذج الرفاه الديمقراطي الاجتماعي هو "العمالة الكاملة" (العمل بأجر). كما أن النموذج الاسكندنافي مثلا ليس نموذج "رفاهية عامة" بقدر ما هو نموذج "رفاهية قائمة على الأجور" (11). وبصرف النظر عن العمل المأجور فإن الرفاه الاجتماعي والدعم الاجتماعي سيكونان مناقضين تماما لمنطق النظام الرأسمالي، وبالتالي لن يتم تحقيقه أبداً على المستوى المجتمعي.
    ان نظام الرفاه الاجتماعي الديموقراطي في مقاربة إسبينغ-أندرسن Esping-Andersen هو مثال آخر على هذا التقليد. ويرى احد الباحثين، Ankarloo، ان هذا هو الأساس الانطولوجي والنظري لما سميّ على نحو خاطئ، بنظره، بـ الإصلاحية  reformism – ولكنه يعتقد انه من الصحيح ان يسمى "التعاون الطبقي" (12). وانطلاقا من هذه المقاربة اعتبر Ankarloo دولة الرفاهية بأنها بمثابة طريق التعاون الطبقي إلى الاشتراكية - أو ما أسماه مسار السياسة الاجتماعية إلى الاشتراكية (13).
    ان السمة الأكثر أهمية من الناحية التاريخية في "مسار الطريق الاجتماعي نحو الاشتراكية" هي الرؤية التي تتضمن فكرة فحواها أن الاشتراكية تنمو "من داخل الرأسمالية". كانت الفكرة الأساسية هي إيجاد "نموذج عقلاني" للتنمية الاجتماعية، حيث يمكن التوصل – بحسب هذا المسار - إلى "توافق" في الآراء حول "الأهداف الاشتراكية" مثل العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية في المجتمع و "التعاون مع رأس المال". وقد لخص احد الباحثين هذه الفكرة مشيرا الى انه يمكن تحقيق الاشتراكية تدريجيا دون مواجهة، جنبا إلى جنب مع رأس المال وليس ضده. وفي هذا الصدد علّق عالم الاجتماع السويدي البروفسور والتر كوربي Walter Korpi في عام 1978 حول النموذج السويدي للرفاه قائلا: "في السويد، لن يتم التخلص التدريجي من الرأسمالية من خلال الثورة، ولكن ربما من خلال المسار الأكثر ثباتا، أي من خلال الإحالة إلى الأطراف المعنية" (14)، والمقصود هنا "الاطراف المعنية"، العمال وارباب العمل.
    ان نقيض هذه المقاربة بالطبع، وفقاً لرؤية ماركس، هو "الصراع الطبقي". ومع ذلك، فان هذا لا يعني موقفا ثوريا بشكل عام، ولكن فقط لأن الرأسمالية هي في الأساس أسلوب إنتاج قائم على علاقات اجتماعية متناقضة واستغلالية وأنه لا يمكن بالتالي وصف الاشتراكية بأنها أكثر عقلانية أو "عادلة". في تحليل للرأسمالية، حتى في شكل دولة الرفاهية، لا يمكن فهم نظرية ماركس للصراع الطبقي على أنها أفضل شيء "يحدث" أو كـ "موقف متشدد" على الاقل، ولكن لأن الرأسمالية - كنظام وبسبب طبيعة علاقات الانتاج السائدة فيه – تقوم على الصراع الطبقي الناجم عن وجود طبقات متناحرة. في حين ان الاشتراكية، كنظام، تقوم على إلغاء الطبقات، اي إلغاء اساس الصراع الطبقي. ثم ان الاشتراكية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الصراع ضد رأس المال ومنطق علاقاته الناظمة. وهذا هو الاختلاف بين "التعاون الطبقي" و "الصراع الطبقي" وبالتالي فهو ما يعبر اليوم عن التناقض الحقيقي بشأن قضية الرفاهية في الحركات العمالية الناشطة في البلدان الرأسمالية المتطورة.
     كان الشرط الأساسي الحاسم للتعاون الطبقي مع رأس المال في "مسار السياسة الاجتماعية نحو الاشتراكية" هو تخلي الحركة العمالية عن اشتراط الملكية الجماعية - وهو ما يعني بالأساس الحفاظ على العمل المأجور والشكل السلعي للإنتاج. ورغم ذلك التحديد فان الاجتماعيين الديمقراطيين في بعض البلدان (السويد مثلا) أكدوا على "ان مسألة الملكية والاستيلاء على وسائل الإنتاج لم تلعب أبدا دورا كبيرا" (15) في نموذج الرفاهية الاجتماعية.  وبدلاً من ذلك، كان "التعاون الطبقي" قائما على حقيقة أن الإنتاج سيكون مملوكا للقطاع الخاص أساسا، ويتم التركيز على "الرفاه" وعلى "التنشئة الاجتماعية"، ودور الدولة، والاستهلاك "توزيع الثروة". يعني ذلك ان تصحيحات السوق أصبحت السمة المميزة لهذا المسار في محاولة لتحقيق "أهداف الاشتراكية"! وهكذا أصبح المشروع يسعى للتقليل من التفاوتات الاقتصادية التي تنشأ في السوق، من خلال الدولة، ولكن ليس لإلغائها (أي التفاوتات) والغاء أسسها في إنتاج السلع. هذا مع العلم ان "مسار السياسة الاجتماعية إلى الاشتراكية" يستند إلى أفكار حول الاقتصاد والمجتمع الطبقي. وهكذا، فإن "التنشئة الاجتماعية"، كما وصفها أحد الباحثين، قد حدثت عن "طريق الضرائب العالية" (16). وهذا هو الفهم الأساسي لماهية السوق والذي يراه أنصاره انه "رجل سيء ولكنه خادم جيد".
    وتعني الملاحظات أعلاه أن مقاربة "التعاون الطبقي" تنظر إلى الدولة على إنها علاقة اجتماعية طبقية موازنة للسوق غير العادلة (17). وبالنظر إلى أن الرؤية هذه تأسست على التعاون الطبقي، فإن التنشئة الاجتماعية للاستهلاك والسوق جاءت من خلال القطاع العام.
    إن التوسع في إنتاج واستهلاك عام معين، يمكن أن يعمل كموازنة لرأس المال الخاص في المجالات الرئيسية، بينما في نفس الوقت يمكن للتمويل الضريبي الجماعي لقطاع الرعاية الاجتماعية أن يضمن جزئياً حصول الفرد على الرعاية، بغض النظر عن قدرته الاستهلاكية في السوق. لكن وقبل كل شيء، خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تم تصميم السياسة الاجتماعية في بلدان الرفاهية الاجتماعية بشكل متزايد على أساس "الأمن القياسي" و"مبدأ فقدان الدخل". إن هذا المبدأ - على الرغم من أنه لم يكن غير مبدئي في البداية في الحركة العمالية - فقد تم الإعتراف به على نطاق واسع لقدرته على خلق الولاء للنظام حتى من "الطبقة الوسطى" والطبقة البرجوازية. وهكذا كان من خلال توسيع القطاع العام، خاصة في مجال الاستهلاك: من خلال الضرائب والمنح، حيث يتم بناء نوع من التوازن مع السوق وتنفيذ "الاهداف الاشتراكية". وفي الوقت نفسه، تم استخدام المدخرات العامة لدعم القطاع الخاص بالاستثمارات ورؤوس الأموال.
    خلاصة القول، إن "مسار السياسة الاجتماعية نحو الاشتراكية"، وفقاً لمؤيديه، يشكل استراتيجية لتحقيق "الأهداف الاشتراكية" مثل المساواة والحرية وتقرير المصير؛ ولكنها استراتيجية تقوم على التعاون الطبقي، والأمة والمواطنة الكاملة، وحيث تكون دولة الرفاهية الاجتماعية أساسية لتصحيح السوق، وإضفاء طابع اجتماعي على أجزاء كبيرة من الاستهلاك وتحقيق الديمقراطية الاجتماعية.  
الحاجة الى مقاربة ماركسية أصيلة لدولة الرعاية الاجتماعية
    من المعروف ان النقد الماركسي الجديد لدولة الرفاهية قد تبلور أساسا وبقوة خلال السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، بعد الازمة التي واجهتها دولة الرفاه ذاتها.
    يرى بعض الباحثين ان المسار الفكري الذي كان شائعاً في وقت سابق في اوساط الماركسيين هو رؤية دولة الرفاه باعتبارها "رشوة" من الدولة لتهدئة تطلعات العمال الاشتراكية والثورية. في السابق كان ينظر إلى دولة الرفاه على أنها "أفيون" مهدئ للناس (الإصلاحية) - ما قلل من نشاطهم الثوري التغييري. تعتمد هذه الفكرة بشكل كبير على تطور الحركة العمالية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ان الثلاثين سنة من الرفاهية الممتدة حتى السبعينات من القرن العشرين (او ما تسمى عادة "الثلاثين عاما الذهبية") أدت في نهاية المطاف إلى نشاط متعاظم للطبقات العاملة بالإضافة إلى تبلور رؤى مجتمعية راديكالية. غير انه وبصعود الليبراليين الجدد، شهدت العقود التالية ركودا وتراجعا نسبيا للرفاهية وللنضالات المتعلقة بالأجور.
     كان مسار الفكر الهام الآخر في السبعينات يتمثل بتلك الفكرة القائلة أن دولة الرفاهية واجهت ازمة مالية نجمت عن وجود تناقض بين "وظيفة الشرعية" للرفاهية (التي ستحث الطبقة العاملة على قبول الرأسمالية) و"وظيفة التراكم" الخاصة بها (الحاجة إلى رأس المال لزيادة إنتاج فائض القيمة) (18). وكانت الفكرة هنا هي أنه من أجل إضفاء الشرعية على الرأسمالية، يجب توسيع الرعاية الاجتماعية بطريقة تجعل تراكم رأس المال يتوسع في نهاية المطاف – وتتجلى الأزمة نفسها عندئذ إما في الافتقار إلى الشرعية في رأسمالية الرفاه أو في انهيار مالي يهدد نظاماً يتطلب رأس مال أكثر من أي وقت مضى - ولكن مما يزيد من صعوبة رفعه أو كليهما.
    على المستوى النظري، هناك جزء يتحدث عن هذا المنظور، لكن كوصفة لرأسمالية الرفاهية الاجتماعية لبعض البلدان الاسكندنافية، بحيث يبدو أنه غريب بعض الشيء عن الواقع، اذ ان اﻟﻤﻴﺰاﻧﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ تؤثر بقوة. كما أن ﺑﻌﺾ ﻋﻤﻠﻴﺎت ﺧﺼﺨﺼﺔ اﻟﺮﻓﺎﻩ ﻗﺪ ﺗﻌﺮﺿﺖ، ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺣﻮال، الى هبوط ﻓﻲ تراكم رأس اﻟﻤﺎل اﻟﺬي ﺣﺪث ﻣﻨﺬ ﺳﺒﻌﻴﻨﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ، وبالتالي هبوط وتائر النمو الاقتصادي للرأسمالية على المستوى العالمي، ومن بينها الدول الاسكندنافية.
    في ضوء النجاحات النسبية التي حققتها دولة الرفاهية الاجتماعية من حيث معادلة الدخل والضمان الاجتماعي لأعداد متزايدة من السكان العاملين ، فإن الانتقاد من "اليسار الجديد" باتجاه دولة الرفاهية من السبعينيات وما بعدها جاء في المقام الأول مركزا على "قمع دولة الرفاهية"، وعادة ما يتم وضعه على هامش المجتمع: الخدمات الاجتماعية، ورعاية السجون، والإدمان على المخدرات والكحول. كان هناك الكثير من الانتقاد الجيد والموجه، ولكن المشكلة الحاسمة، بعد كل ذلك، هي أن النقد الماركسي لرأسمالية الرفاهية الاجتماعية جاء لتمريره إلى هوامش المجتمع، وليس الى جوهره: التهميش، وليس الفقر النسبي، والسلطة مقابل عجز السلطة، وليس التركيز على الاستغلال، وهي العناصر التي أصبحت تمثل جوهر النقد.
     لقد أصبحت القدرة الكلية على النقد القائم لتطور دولة الرفاهية الاجتماعية، في اطار غياب البدائل الماركسية الناضجة، أكثر صعوبة. وبدلا من ذلك، كانت تدور حول كيفية انهيار دولة الرفاه الاجتماعي، والتخلي عنها، والتآمر ضدها وما إلى ذلك. لا ينظر إلى مشاكل الرفاه على أنها قيود متأصلة في دولة الرفاهية، ولكن كدليل على التخلي عن دولة الرفاه. لا يمكن لأحزاب الحركة العمالية والنقابات العمالية، إلا أن تكرر في تحليلها "المسار الاجتماعي السياسي نحو الاشتراكية" - ولكن لا تتجاوزه. كما أن هذا المنظور يخاطر اليوم بالرهان على قضيتين: الاولى تلك التي تبالغ في نجاحات دولة الرفاه السابقة من الناحية الاشتراكية (علما ان بلدان الرفاهية ومنها البلدان الاسكندنافية مثلا لم تكن يوما اشتراكية أبداً). والثانية المبالغة في المساواة - ولن تكون كذلك أبداً، بل فقط أقل تفاوتاً من البلدان الأخرى – وبالتالي فقد بالغت جزئياً في نطاق التغييرات المعاصرة في دولة الرفاهية الاجتماعية.
    وعلى الرغم من وجود عدد من التغييرات الواضحة في تصميم نموذج الرفاهية (الانفاق على التعليم، ونظام التقاعد الجديد، والتغييرات النقدية، وما إلى ذلك)، فإن أبحاث الرفاه متفقة - إلى حد ما - على أن التغييرات في مبادئ دولة الرفاه الاجتماعي وتنظيمها كانت محدودة بشكل ملحوظ. وليس هناك الكثير مما يوحي بأن نماذج الرفاهية المختلفة أصبحت متشابهة أكثر فأكثر، بل العكس هو الصحيح.
    وباختصار، لا ينبغي توجيه انتقاد دولة الرفاهية إلى القضايا الهامشية، ولا أن يتم تهميش أهمية العيوب التي تكشف عنها التغيرات الاجتماعية اليوم.  
    إن التحدي النظري والعملي للحركة العمالية في بلدان الرفاهية اليوم - في مجمله - هو أن تكون هذه الحركة قادرة على دمج الدفاع الفوري عن تقدم الرفاء في الرأسمالية بمنظور نقدي يتجاوز إطار الرأسمالية. وهناك حاجة إلى تغيير التركيز، فضلا عن رؤية أوضح لتطور الرفاهية والخطوط التقسيمية الحقيقية والعملية للانقسام في الحركة العمالية بين "التعاون الطبقي" و"الصراع الطبقي".
    والسؤال الحاسم من وجهة النظر الماركسية هو ليس في ما إذا كان نموذج الرفاه وخاصة المتبنى من طرف الاجتماعيين الديمقراطيين ينجو أم لا وهو يواجه ازمته، بل هل تطابق ذلك مع الأهداف الاشتراكية ام لا. هنا، لا يبدو الأمر واضحا، ففي المقام الأول يجب ان نتذكر دوما ان دولة الرفاهية هي دولة رأسمالية، ولكن بدلاً من ذلك، فإن الحقيقة الأكثر إشكالية هي أن وراء هذه المسألة تكمن كيفية رؤية التعاون الطبقي المهيمن، المستند الى "المساومة التاريخية" التي حصلت في دول الرفاه الاجتماعي بين العمل ورأس المال.
     إن الفهم الأساسي للفوارق الملموسة بين "التعاون الطبقي" و"الصراع الطبقي"، بالإضافة إلى التحليلات التاريخية للسياسة العملية للرفاهية، من شأنه أن يعزز هنا المنظورات الماركسية في هذه القضية. ولكن هناك عمل كبير ما زال يتعين القيام به، فالانقسام الحاصل متمثلا في "الإصلاح مقابل الثورة" هو، اليوم، عقبة حاسمة بالنسبة للتحليل الماركسي وفي الحركة العمالية بشأن قضايا الرفاهية الاجتماعية. وفي الوقت الحاضر، حاول "اليسار الثوري" ويحاول عادة ان يحل هذه المشكلة عن طريق رفض السياسة الاجتماعية بشكل كامل باعتبارها غير مهمة بل وضارة بالهدف النهائي الاشتراكي، الأمر الذي ترك المجال مفتوحا أمام "الإصلاحيين" لقيادة الحركة العمالية في قضايا الرعاية الاجتماعية.  
   وكما جرت الاشارة سابقا الى الأزمة في قضية الرفاهية: إن دولة الرفاهية ليست اشتراكية، لكن إصلاحات الرفاهية التي روجت لها الطبقات العاملة وناضلت من أجلها تشكل في العديد من البلدان مجالات إستراتيجية مهمة لتعبئة وتوحيد الحركة العمالية بأكملها، هذه الحركة التي تشكل الشرط المهم لتحقيق الاشتراكية.
وبالتالي، فإن سياسة الرعاية أو الرفاهية الاجتماعية ليست الهدف النهائي، ولا حتى جزءا من الهدف النهائي ولكن على الأكثر طريقة أو سياسة تستخدمها الطبقة العاملة وحلفاؤها لتعزيز مواقعها، اجتماعيا واقتصاديا، في المعركة الضرورية ضد منطق رأس المال. ولا بد من التأكيد هنا على أن النضال من أجل الرفاهية الاجتماعية في بلدان الرفاه هو في غاية الأهمية بالنسبة للحركة العمالية، وبالتالي لا يمكن رفضه.
    منذ أوائل الثمانينات من القرن العشرين والعالم الرأسمالي يعيش في حقبة الهجوم النيوليبرالي مقابل حركة عمالية ضعيفة نتيجة جملة عوامل موضوعية وذاتية، لذا يبدو ان الانتقال الى الاشتراكية الآن يبدو أبعد مما كان عليه في حُقب سابقة.  لكن ولهذا السبب بالتحديد، من المهم أيضا ألا تُخلق أوهام ولا يأس بشأن سياسة الرفاهية ودورها في النضال من أجل الاشتراكية. ومن المهم كذلك لممارسة سياسة ناجحة في الحركة العمالية والاشتراكية أن تدعم باستمرار وبصورة لا لبس فيها النضال الشرعي للطبقة العاملة وأغلبية الناس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من "الرفاهية"، ولكن في نفس الوقت يجب تجنب اية أوهام من قبيل الرؤية بشأن "التعاون الطبقي" الذي علق طويلا  في الحركة العمالية.
     باختصار، يتمثل التحدي الاستراتيجي اليوم في حث إصلاحات الرفاه الاجتماعي على التحول من كونها، أي الاصلاحات، شيئا يتم القيام به كبديل عن الاشتراكية، الى أن تصبح شيئا يجري القيام به من أجل الاشتراكية. وبمزيد من الوضوح، من الضروري رؤية الخط الفاصل في الحركة العمالية من حيث "التعاون الطبقي" مقابل "الصراع الطبقي". لقد عبرت روزا لوكسمبورغ عن هذه النقطة الرئيسية في عملها الموسوم "إصلاح اجتماعي ام ثورة؟" بالقول: ان من يتحدث عن أسلوب الإصلاح القانوني بدلاً من ذلك وعلى النقيض من الاستيلاء السياسي على السلطة فانه في الواقع لا يختار الاختلال الاجتماعي مساراً أكثر هدوءا وأكثر أمانا وأبطأ لنفس الهدف، ولكن بدلا من ذلك يختار هدفا آخر، وهو حدوث تغييرات غير مهمة في النظام الاجتماعي القديم بدلا من نظام اجتماعي جديد كليا (19). وهنا تطرح على جدول الاعمال قضية الهيمنة والسلطة والاستيلاء عليها. والسؤال المطروح هو: كيف يمكن تحويل الرفاهية الاجتماعية من كونها شيئا يتم القيام به كبديل عن الاشتراكية (ليس خيارا مؤديا الى مجتمع خال من الاستغلال)، الى ان تصبح شيئًا يجري القيام به من أجل الاشتراكية (طريقا يمهد الى الاشتراكية)؟... انه سؤال استراتيجي تواجهه الطبقة العاملة وهي تسعى لإقامة بديلها الخالي من العسف والاستغلال الطبقي، والقائم على العدالة الاجتماعية وديمقراطية المنتجين الحقيقيين وخالقي الثروة الاجتماعية. بمعنى انه بديل يتجاوز حدود الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي قائم على الاستغلال، والانتقال من مملكة الضرورة ومنطق السوق وصنمية السلعة، الى مملكة الحرية.  
 
 
الهوامش:

(1) لمزيد من التفاصيل قارن:

Ankarloo, Daniel (2008), “Välfärdens ontology Perspektiv på skiljelinjerna inom arbetarrörelsen i välfärdsfrågan”, Manus för konferens: Arbetarrörelsens forskarnätverk 17-18 maj, Stockholm.

(2) عالجتُ هذه الاختلافات بمزيد من التفصيل في عمل آخر. للمزيد من التفاصيل قارن، صالح ياسر حسن، روزا لوكسمبورغ وإشكاليات التحليل الاقتصادي للرأسمالية (بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2009).  

(3) لمزيد من التفاصيل قارن : إدوارد برنشتاين، مبادئ الإشتراكية. قضايا الإشتراكية الديمقراطية. لفوف  1901 ( باللغة البولندية).

(4) قامت روزا لوكسمبورغ بإنجاز هذه المهمة من خلال نشرها سلسلة مقالات صدرت خلال الفترة من 21 الى 28 أيلول/ 1898 على صفحات جريدة Leipziger Volkszeitung. لمزيد من التفاصيل أنظر : روزا لوكسمبورغ،  إصلاح إجتماعي أم ثورة؟. كتابات مختارة، المجلد الأول، وارشو 1959 (باللغة البولندية). والكتاب مترجم الى الانكليزية كذلك، انظر:

Rosa Luxemburg (2007), “Reform or Revolution and The Mass Strike”. Chicago: Haymarket Books.                                                                                                                                             

(5) Ankarloo, D. (2005), “Kris i välfärdsfrågan: vänstern, välfärden och socialismen”, Nixon förlag, Linköping.                                                                                                                        

(6) لمزيد من التفاصيل قارن:

Daniel Ankarloo, Välfärdens ontology Perspektiv …, op, cit.

(7) لمزيد من التفاصيل قارن:

 Esping-Andersen, Gøsta (1990), The Three Worlds of Welfare Capitalism, Polity Press, Cambridge.

وفي كتابه اعلاه ، أكد Esping-Andersen على أنه ينبغي النظر إلى إزالة التسليع على أنها إمكانية عيش المرء مستقلا عن قوى السوق البحتة. ولكن بما أن فكرة "قوى السوق الخالصة" هي في حد ذاتها مجرد خيال آيديولوجي، وفي ضوء الوظيفة الحقيقية للرعاية الاجتماعية (التأمين الاجتماعي) في الرأسمالية حيث لا تكون أجورا، فأن بعض الباحثين يشددون على أن فك التسليع هو مصدر رزق الفرد بغض النظر عن العمل المأجور. لمزيد من التفاصيل قارن:

Ankarloo, Daniel (2008), “Välfärdens ontology …, op, cit.

بالمقابل هناك من ينظر نظرة انتقادية لهذه الاشكالية. قارن على سبيل المثال:

Room, Graham (2000), “Commodification and decommodification: a developmental critique”, Policy and Politics, V. 28, N. 3, July, pp. 331-351.

(8) Esping-Andersen, Gøsta (1990), The Three Worlds …, op, cit.

(9) وقد قام اندرسن (مع باحثين اخرين) بذلك بعد 12 عاما من صدور كتابه الأساسي الذي جرت الإشارة اليه. ولمزيد من التفاصيل قارن:

Esping-Andersen, Gøsta; Gallie, Duncan; Hemerijck, Anton; Myles, John (2002). “Why we need a new welfare state”. New York: Oxford University Press.

 (10) توجد هنا استثناءات في هذا المجال. لمزيد من التفاصيل قارن:                       

  1. Fine (2002), “The World of Consumption”, 2:a uppl Routledge, kap. 10.

(11) D. Ankarloo (2004), “Den svenska modellen och globaliseringen”, L. Plantin & F. Magnusson (red) “Mångfald och förändring i socialt arbete”, Studentlitteratur.

(12) Comp: D. Ankarloo (2005), Kris i välfärdsfrågan…, op cit.

 (13) D. Ankarloo (2005), Kris i välfärdsfrågan…, op. cit.

(14) Walter Korpi (1979), “The Working Class in Welfare Capitalism: Work, Unions and Politics in Sweden”, (London and Boston: Routledge & Kegan Paul).

(15) ورد الاقتباس عند Sjöberg. لمزيد من التفاصيل انظر:

Sjöberg, Stefan (2003), “Löntagarfondsfrågan – en hegemonisk vändpunkt. En marxistisk analys”, Uppsala universitet, s. 135.

(16) Gunnarsson, G. (1971), “Socialdemokratins idéarv, utopism, marxism, socialism”. Tiden, s. 151.

(17) يجادل  Esping-Andersenو Korpi وغيرهما من "منظري مصادر السلطة " عن حالة الرفاهية ، "الانقسام ضد الأسواق" باعتباره الأساس الفعلي لنظام الرفاه الاجتماعي الديمقراطي.

(18) انظر على سبيل المثال:

Sjöström, K.  (1979), “Socialpolitik eller socialism? ”, Arkiv, s. 184; O’Connor, J.  (1973). “The Fiscal Crisis of the State….”, op, cit.; Gough, Ian (1979), “The Political Economy ...”, op, cit.

(19) Luxemburg, R.  (1966), “Jag var, jag är, jag blir” (I urval av Bo Gustavsson), Bo Cavefors förlag, s. 83.