نيسان/أبريل 23
 
   قد يتساءل القارئ الكريم الآن: ماذا ستعني هذه "القراءة الجديدة"؟ هل ستطرحُ شيئاً جديداً عن هذه الشخصية التي أشبعها الباحثون دراسة وتفكيكاً! لذا سَنُبيّنُ ما يلي:
ما نقصده بـ"القراءة الجديدة" هو طرحٌ مُخالف لما يُشاع بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 وما بعدها. فقد ظهر إتجاه جديد يتمثّل بالحنين الى العهد الملكي عموماً ، والى نوري السعيد خصوصاً ، بإعتباره أكبر سياسي ملكي (1) وفي هذا الإتجاه من الأخطاء والمغالطات التاريخية الشيء الكثير (2). وعليه فلا بُدّ من تسليط الضوء على السعيد من خلال المصادر والمراجع المُعتَبَرَة، فهذا هو الطريق الأصوب.
ستكون محاور المقالة كما يلي:
1ـ لمحة عن ولادة السعيد ونشأته.
2ـ عقائده السياسية والقيم التي يؤمن بها.
3ـ التصفيات السعيدية؟
4ـ ارتباطه ببريطانيا.
5ـ السعيد والشيوعية.
6ـ السعيد وتدّخل الجيش في السياسة.
7ـ السعيد واستغلال النفوذ الشخصي وامتلاك العقارات.
8ـ حِنكة السعيد تحت الاستفهام.
 
1ـ الولادة والنشأة
 أقرّ دارسٌ مُميّزٌ (3) للسعيد بقلة المعلومات المتوفرة عن طفولته وتبعثرها، فقد اختلفت المصادر في تحديد الموطن الأصلي لأسرته، ولم تتفق على تحديد نسبه. وعَلّل الباحث ذلك بأن السعيد نفسه لم يُشر في كتاباته وأحاديثه الخاصة والصحفية إلى إنتمائه القومي.
وُلِدَ السعيد ببغداد سنة 1888م وقضى طفولته في جوٍ أقرب الى الانغلاق منه إلى الإنفتاح، وهذا ما انعكس على شخصيته فيما بعد. يقول توفيق السويدي:
(نشأ نوري في بيئة إقليمية محدودة لم يستطع التخلص من مؤثراتها رغم الزمن الطويل الذي عاش فيه وهو متصل بكبار الطبقات من أجانب وشرقيين) (4).
انعكس ذلك على شخصيته، فقد عانى من الكبت في البيت والكُتّاب، فكان منكسراً خانعاً، لكنه عندما يخرج الى الشارع يكون على النقيض، إذ كان يُنَفّسُ عن كبته بمصارعة الصبيان بالأيدي والتشاجر بقوة. ولعل ذلك قد أصابه بنوع من التناقض في شخصيته، فهو حيناً منكسر وحيناً آخر وحشٌ كاسر (5).
2ـ عقائده السياسية والقيم التي يؤمن بها
 كان السعيد "ميكافيلياً نفعياً" فالغاية عنده تُبَرّر الوسيلة ، وهذا يعني بأن طريقه سيكون طريق "المساومة على حساب المبدأ" (6). وكان "دكتاتورياً سلطوياً" فلا مجال لإطلاق الحريات العامة مع السعيد (7). وأهم شيء عنده هو "البقاء في الحكم" وكان لا يعرف الحقد والحسد إلا في السياسة (8). وكل القيم عنده تكون تحت رحمة القيمة السياسية، فالقيمة الدينية في خدمة القيمة السياسية، وتتأثر قيمة الصداقة لديه بالقيمة السياسية (9). فكان كثير السخاء لمعارضيه الأقوياء وقاسي القلب على خصومه الضعفاء (10).
3ـ التصفيات السعيدية
 ارتبطت بعض الاغتيالات السياسية في العراق باسم نوري السعيد، ونحن بدورنا سنُرَكّزُ على إثنين: توفيق الخالدي والملك غازي.
كان الخالدي شخصية فَذّة وذو كفاءة نادرة ، وكان خصومه السياسيون يخشون بأسه ويوجسون خيفة من قُرب صيرورته رئيساً للوزراء حيث يقضي على طموحهم ويُبَدّد أحلامهم وقد يُمهّد لقيام حكم جمهوري في العراق(11).
تتجه أصابع الإتهام في تصفية الخالدي الى الملك فيصل الأول ونوري السعيد وجعفر العسكري. نشرت جريدة العراق في 25 شباط 1924 الخبر الآتي:
بينما كان معالي توفيق بك الخالدي وزير الداخلية السابق ذاهباً الى داره في محلة جديد حسن باشا مساء أول أمس ـ أي مساء الجمعة 22 شباط ـ إذا بيد أثيمة أطلقت عليه أربع عيارات نارية فأردته قتيلاً لساعته، وقد هرب الجاني حالاً فأسرعت الشرطة بعد الواقعة ببضع دقائق ولكن رأت أن الرجل قد قضى وهرب الجاني. وقد تبين من الكشف الطبي أن العيارات النارية هي من مسدس من نوع البرونيك، وأن الرصاصات إجتازت من ظهره الى قلبه حيث توفي حالاً(12).
بسبب غياب الدليل المادي، فقد إحتار الناس في تعليل الحادثة، فقال بعضهم: كان القتيل من أنصار الجمهورية، وكان يرى رأي عبد الرحمن النقيب في وجوب إسناد الحكم في العراق الى عراقي، فاتفق الملك فيصل مع وزيريه جعفر العسكري ونوري السعيد على وجوب التخلص من الخالدي، فأسر الوزيران الى شاكر القره غوللي، فتبعه الأخير وأرداه قتيلاً. يُعقّب عبد الرزاق الحسني:
(ويُدلل أصحاب هذا الرأي على رأيهم: أن كُلاًّ من العسكري، والسعيد والقره غوللي، لقي حتفه مقتولاً فكانوا مصداقاً للحديث المعروف "بَشّر القاتل بالقتل"). ثم يذكر الحسني حادثة شخصية معه في غاية الأهمية:
(وقد جمعت المعتقلات التي أقامها الإنكليز في العراق في أعقاب الحركة التحررية التي قامت في أيار سنة 1941، أشتاتاً من الناس، وكان عبد الله سرية ممن قضى مع المؤلف نحو سنتين في "معتقل العمارة" وقد سمع من عبد الله بأنه هو الذي قتل الخالدي، وأن شاكر القره غوللي كان شريكه في القتل، وأنه كان عضواً في جمعية سرية هدفها الفتك بمن يشايع الإنكليز، وأن الخالدي كان أحد هؤلاء المشايعين) (13).
ويقول محمد حسين الزبيدي، بأن الملك فيصل قد قرر التخلص من الخالدي وتصفيته في أقرب فرصة قبل استفحال خطره، وقد عهد الى نوري السعيد القيام بهذه المهمة فقام بها ونفذها ليلاً (14).
يروي سامي خوندة:
إتصل نوري السعيد بشاكر القره غوللي وعبد الله سرية وطلب منهما تنفيذ المهمة. ويُدَلّل خوندة على ذلك أن نوري السعيد قد كافأ قتلة توفيق الخالدي على عملهما، فقد وظّف القره غوللي مديراً للتصليح في معمل الجيش الذي كان يقع في وزارة الدفاع القديمة. وعندما أُحيل على التقاعد تزوج من أرملةٍ من بيت الكواز في بغداد وكانت تملك بعض الأملاك وكان لها مزرعة في بعقوبة قُتل فيها القره غوللي.
أما عبد الله سرية فقد تَمَكّن عن طريق نوري السعيد من إدخال ابن أخته الى المدرسة العسكرية وتخرج فيها. وكان دائماً يفاخر بأن خاله عبد الله سرية قاتل العملاء(15).
أما بشأن الملك غازي، فقد رحل في حادث السيارة المعروف في عام 1939، وفي ظِل غياب الدليل المادي، فما على الباحث إلاّ تفكيك هذا اللغز وتشخيص المستفيد من تصفية غازي.
لقد أشارت الوثائق البريطانية الى أن البريطانيين قد فَكّروا في إزاحة غازي منذ عام 1936 (16)، وأن السعيد كان يحقد على غازي لإعتقاده بعدم كفاءته وإعلانه مراراً ضرورة تنصيب الأمير زيد أو الأمير عبد الإله مكانه. وأصبح الأمير عبد الإله واقعياً من أهم المستفيدين من مقتل غازي(17). وبشأن الرأي العام، فقد همست الجماهير بأن الاستخبارات البريطانية ونوري السعيد قد دبّرا اغتيال الملك. وقد حاول السعيد تجنب غضب الجماهير بالوصول الى المقبرة الملكية بواسطة قارب نهري ثم رجع الى المكان بنفس الوسيلة (18).
 
4ـ ارتباط السعيد ببريطانيا
   كان السعيد قلباً وقالباً مع الإنكليز، يقول ذلك بكل صلابة وصراحة(19). وكان صاحب مدرسة سياسية آمنت بالتعاون مع الغرب، وكانت له وجهة نظر خاصة في الحكم قامت على إحترام الأمر الواقع وتقديره حق تقدير ويحيطها إطار من التفاؤل (20).
لكن الأمر المهم هنا:
هل من المناسب أن نصف السعيد بـ"العميل"؟ أي عميلاً لبريطانيا قبل أن نخوض في هذا الأمر، لا بُدّ من أن نُقَرّرَ بـ"تطرف السياسة السعيدية" هذه. فمثلاً رُستم حيدر، كان ينتمي الى مدرسة نوري السعيد السياسية، إلا أنه لم يكن متطرفاً في تأييده للبريطانيين، لذا فإنه كان يُمثّل الجناح المعتدل للمدرسة السعيدية (21).
يَتَحَفّظ الباحثون المعتبرون في ذلك، يقول عبد الرزاق النصيري:
(من الصعب جداً أن يُصَنّف نوري، على الأقل في المرحلة التي تدخل في الإطار الزمني لرسالتنا، ضمن الأعداء، أو العملاء) (22).
وتقول ليلى الأمير:
(على وفق تلك القناعات، ليس من السهل القول أن نوري السعيد كان عميلاً بريطانياً أو أنه تصرّف وكأنه عميلٌ فعلاً) (23).
نشرت جريدة الفرات ـ وهي من صُحف ثورة العشرين ـ وثيقة مهمة، رسالة عاجلة من "المؤتمر العراقي" في سوريا الى رؤساء الشامية في النجف الأشرف، ولطولها سنختصرها بالآتي:
ربما يحضر إليكم من الشام الجنرال نوري السعيد ليقوم بهذه المهمة المشار إليها التي أناطتها به السلطة البريطانية، ألا وهي توطيد أركان الإحتلال وتثبيت أقدامه في العراق بمفاوضة العراقيين ودرس أفكارهم وتسكين خواطرهم وتعليلهم بالأماني والمواعيد الكاذبة، وربما اتخذت السلطة المحتلة جميع الوسائل المادية والمعنوية التي من شأنها أن تجعل لكلامه شأناً ولشخصه قبولاً أينما حَلّ،  فتُكثر من ذِكر إسمه مقروناً بالجهر والثناء عليه وعلى مبادئه وتتظاهر بإحترامه وتبجيله. لا يحتاج بعد هذا أن نُبيّن لكم واجبكم الذي تؤمنون به إزاء هذا الرجل إذا فارقنا إليكم بهذه المهمة، وخصوصاً الإجتهاد بمقاطعته والإعراض عن أقواله وتحذير الناس من الوقوع في حبائله والسهر على تتبع خطواته ومراقبة حركاته وعرقلة مساعيه. لا تُبالوا أيها الإخوان ولا تقيموا له وزناً ولو ادعى الكلام بإسم الملك حسين والملكين فيصل وعبد الله أو بإسم المؤتمر العراقي الموجود في حاضرة الشام (24).
    وينقل كمال مظهر أحمد عن فاروق صالح العمر، أن الوثائق السرية البريطانية قد ذكرت بأن السعيد كان يتجسس على أعمال المؤتمر العراقي في سوريا ويُزوّد المصادر المختصة بتقارير سرية مفصلة عنها(25).
 ما يهمنا الآن هو رأي كمال مظهر أحمد بهذه الوثيقة:
(وهي تُعد أول تقويم صحيح لشخصية نوري السعيد الذي أصبح رجل الميدان السياسي الرسمي للعراق على مدى أربعة عقود أعقبت "ثورة العشرين". وتزداد أهمية الوثيقة أكثر إذا تذكّرنا أن نوري السعيد كان يُعدّ يومذاك أحد الوطنيين العاملين في سبيل القضية العربية، وأنه كان واحداً من أنصار الأمير فيصل المقربين الذي لم يقف أحد بعد على دقائق صلاته السرية مع الإنكليز) (26). ليقول مظهر أحمد في حاشية خاصة:
(إتضح ذلك كله بعد الكشف عن الوثائق السرية البريطانية، أي بعد مرور عشرات السنين على التقويم الصحيح الذي نشرته جريدة "الفرات" أيام "ثورة العشرين")(27).
وبطبيعة الحال ـ وهذا من مستلزمات البحث العلمي ـ لا بُدّ من الإشارة للوثيقة البريطانية التي أشارت صراحة لـ"عمالة" نوري السعيد.
يقول عبد الرزاق النصيري:
(تؤكّد إحدى الوثائق البريطانية الخاصة أن نوري السعيد إستُخدم على إثر ذلك عميلاً للمخابرات البريطانية، وزار الهند لهذا الغرض)(28). ثم يُعقّب: (ورغم ذلك يجب على الباحث أن يُقيّم فحوى الوثيقة البريطانية المذكورة، ومغزاها في إطار الزمان والمكان ودون التطرف في تحميلها أكثر مما تتحمل على ما نعتقد. ويجب أن نأخذ بنظر الإعتبار أيضاً أن نوري في هذه الفترة كان هارباً من الدولة العثمانية ومحكوماً عليه بالإعدام)(29).
والإشارة هنا الى وقوع السعيد في قبضة البريطانيين في مدينة البصرة في عام 1914 ونُقل بعدها الى الهند.
ومما يجدر ذكره هنا أن أغلب "الكُتّاب السعيديين" قد كانوا على جهل بهذه الوثيقة، أو بالأحرى تجاهلوها(30).
لكن السؤال المُلِح هنا: هل عادت سياسة السعيد بالنفع على العراق؟ سياسته المبنية على "إحترام الأمر الواقع حق الإحترام"؟ تقول ليلى الأمير:
(نخلص من كل ذلك إن نوري السعيد لم يُحقق للعراق أي نتائج ملموسة من جرّاء تعامله مع الغرب وتضحيته بالإنضمام الى حلف بغداد) (31).
ويقول كاظم حبيب:
(كان ـ يقصد السعيد ـ حليفاً مخلصاً لبريطانيا يستند لا الى عمالة مباشرة لها بقدر ما كان يلتقي معها في الفكر والسياسة والمصالح، رغم أن المستفيد الأول من كل ذلك كانت بريطانيا والمتضرر الرئيسي في مثل هذا التحالف والطريقة التي كانت تتم بها هو الشعب العراقي)(32).
لكن الأهم من ذلك كُله أن نوري نفسه ـ رغم بقائه وفيّا لمبادئه أي لإرتباطه بالغرب وهذا ما دفع ليلى الأمير للإستغراب(33) قد إستاء من سياسة بريطانيا في سنواته الأخيرة، بل إنفجر بوجه السفير البريطاني وصارحه: بإستطاعتي أن أكون بطلاً قومياً يُحمَل على الأعناق (34).
لكن المشكلة السعيدية الأولى هنا، أن السعيد كان يرى ـ كما نقل عنه صديقه أسعد داغر: إذا كان نهر دجلة لا يزال يجري فما ذلك إلا بفضل الإنكليز!!(35).
ثم هل من المعقول أن تبقى السياسة السعيدية مع بريطانيا بإتجاه ثابت؟ فإن كانت مُبَرّرَة في بدايات تأسيس الدولة العراقية، فلما الإصرار عليها حتى النهاية! وهذا ما دفع أحمد مختار بابان الى أن يُوَجّه نقده للسعيد: فقد يكون السعيد مُحقاً في إستناده على الإنكليز أثناء مدة الإنتداب، ولا بأس بهذه السياسة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن نوري ظل متمسكاً بصداقة الإنكليز، وكانت سياسته هذه خاطئة جداً (36).
5ـ السعيد والشيوعية
    للسعيد صيتٌ كبير في محاربة الشيوعية في العراق والمنطقة، وهو من قام بإعدام فهد وزميليه زكي بسيم وحسين الشبيبي في 1949 (37). وهذا ما دفع حنّا بطاطو الى القول: (إن موت فهد أثبت كونه أقوى من حياته، إذ صارت الشيوعية محاطة الآن بهالة الإستشهاد)(38). ونحن مع حنّا بطاطو بكل تأكيد، فأي فكرة تُحرم من ممارسة العمل العلني، ستتجه الى الخفاء، لتنمو تحت الأنقاض، ثم تكبر وتكبر لتُشكّل خطراً كبيراً على النظام الذي خنقها. وللسعيد صيتٌ سيء في هذا المجال، فكل من يخالفه سيكون إشتراكياً وشيوعياً! وهو صاحب حكومة المراسيم الإرهابية في خمسينيات القرن الماضي، وصاحب "حلف بغداد" الذي أراد منه أن يكون سدّاً منيعاً بوجه الخطر السوفيتي الموهوم(39). ورغم إيجابيات هذا الحلف من ناحية تعزيز دفاعات العراق الداخلية والبنية التحتية للدولة، لكن كانت سلبياته كبيرة ، فقد قَسّم العالم العربي الى معسكرين وأدخل العراق بسلسلة من مشكلات السياسة الخارجية في وقت إحتاج فيه الى تركيز إهتمامه على الجبهة الداخلية، وولّد حملة مستعرة معادية للغرب في المنطقة، وهي حملة يكاد العراق يكون بغنى عنها(40).
ومن يعلم بتحالف السعيد الوثيق مع زعماء القبائل ، لن يستغرب من عدائه الشديد للشيوعيين. فقد أشاد السعيد بالنظام العشائري في مؤتمر صحفي في عام 1957، بل أنكر وجود الإقطاع وإعتبره مجرد مكيدة شيوعية(41). بل وصل الأمر به الى محاربة أي إتجاه إصلاحي مهما كان حجمه بسيطاً يستهدف إنصاف الفلاحين وسحب البساط من تحت الملاكين الكبار. فعندما وصل محمد فاضل الجمالي لكرسي الوزارة في عام 1953، انتعشت الآمال ببدء عهد جديد، خصوصاً وأن فيصل الثاني قد تسلم مهامه الدستورية في هذه السنة أيضاً.
قامت وزارة الجمالي مُمثلة بوزير المالية عبد الكريم الأزري، بتقديم مشاريع إصلاحية، فاقترح بعض اللوائح لإنصاف الفلاحين بقدر أو بآخر لتضع حدوداً لتحايل المتنفذين وأساليبهم الملتوية التي حرمت هؤلاء من حقوقهم وعلى نطاق واسع خصوصاً في مدينة العمارة. لم تَرَ هذه المشاريع الطموحة النور، بل اصطدمت بمعارضة نوري السعيد وكبار الملاكين، فوقفت قوى الحسم ـ البلاط الملكي والسفارة البريطانية والشيوخ في الخندق السعيدي(42).
6ـ السعيد وتدخل الجيش في السياسة
   قد يبدو للوهلة الأولى أن السعيد بعيدٌ عن هذا الإتجاه، خصوصاً وأنه قد كان ضحية لهذا التدخل في عام 1958. لكن الحقيقة خلاف ذلك! يقول سليم طه التكريتي:
(كان نوري السعيد منذ أن توفي فيصل هو أول من وضع أسس تدخل الجيش في السياسة، وقد دفعه نجاح إنقلاب بكر صدقي في سنة 1936 الى ركوب مثل هذا المركب الصعب الذي ألحق بالبلاد الخراب والدمار لعدة أجيال سابقة. فقد اصطفى نوري السعيد هؤلاء العقداء الأربعة ومن والاهم من ضباط الجيش لتنفيذ مؤامراته وتطلعاته الخاصة. فلطالما فرضوه على غازي عدة مرات لكي يؤلف الوزارة)(43). وقد أزاح ضباط الجيش وعلى رأسهم العقيد صلاح الدين الصباغ حكومة جميل المدفعي بالقوة ووضعوا نوري السعيد على رأس الوزارة في عام 1938(44). يقول العقيد جرالد دي غوري: (وهكذا وصل نوري السعيد، الذي كان يتشكّى بمرارة من تدخّل الجيش في السياسة، الى الحكم نتيجة عمل قام به الجيش ذاته) (45). ويقول سندرسن باشا:
(لم يكن نوري السعيد يوافق على تدخل الجيش في الأمور السياسية، ومع ذلك فقد التجأ الى هذا التدخل عشية عيد الميلاد سنة 1938 للتخلص من الوزارة المقيتة التي كان يرأسها جميل المدفعي. وقد نجح هذا الإنقلاب، فأصبح نوري السعيد رئيساً للوزارة، لكنه قد اختار في هذا سابقة خطرة، هي ذات السابقة التي استُعملت بعد عشرين سنة لقتل أفراد العائلة المالكة، وقتل نوري نفسه بصفة لا إنسانية!) (46). بل إن مؤرخة من طراز فيبي مار قد صَرّحت: (وقد زرع نظام نوري السلطوي بين 1954 و 1958 بذور الديكتاتورية العسكرية المستقبلية)(47).
7ـ السعيد واستغلال النفوذ الشخصي وامتلاك العقارات
يوجد تصوّرٌ عام على أن نوري السعيد كان بعيداً عن إستغلال نفوذه الشخصي في الدولة ، فهو بنظر كاتب سعيدي(48): نزيهٌ وشريف، عاش ومات وليس له من حُطام الدنيا إلا كفنه، وتاه أهله من بعده وبعد مقتل ابنه الوحيد صباح. وبنظر سعيدي آخر (49): مات هو وولده ولا يملكان واحداً من ألف دينار بالمائة... ولما إضطرت زوجته الى قبول الإعانات. أما حازم جواد ـ القيادي البعثي السابق ـ فقد قال:
(كنا نقول عن نوري السعيد عميل الإستعمار لكن، لم يطعن أحد في نزاهته أو أنه قبض رشوة من هذا أو ذاك، ولا أدري إن كان الإنكليز دفعوا له أم لا، ولكنني حتى هذه أشك فيها) (50). لكن توجد أدلة مخالفة، فقد ذكر بيتر سلغليت: (إستغل ياسين الهاشمي ونوري السعيد اللذان كانا ضابطين في الجيش العثماني، موقعيهما لإمتلاك أراضٍ وتمرير قوانين تُشَرّعن هذه الصفقات أو تكفل لهما إعفاءات ضريبية). ويقول في موضع آخر نقلاً عن وثيقة أجنبية بأن أراضي منطقة أبو عوسج الواسعة قد أُعطيت الى أربعة سياسيين منهم نوري السعيد (51). ومما يُقويّ ذلك أن أقران السعيد من السياسيين الكبار آنذاك قد اتُهموا بالإستيلاء على الأراضي ومنهم صهره جعفر العسكري(52). أما حنّا بطاطو فقد أورد جدولاً مُفصّلاً للأراضي الزراعية المملوكة لرؤساء الوزارات في العهد الملكي في عام 1958، فكانت حصة السعيد فيه صفراً، لكن كانت حصة ابنه صباح 9294 دونما(53).
وقد ذكر توفيق السويدي ـ السياسي الملكي المعروف ـ أن صباح نوري كان نقمة على والده وحِملاً ثقيلاً على عائلته بتقريب الأشقياء والسفلة وحشرهم في جو والده، فأثروا غاية الثراء(54).
8ـ حِنكة السعيد تحت الاستفهام
   المشهور عن نوري السعيد هو أنه كان "سياسياً مُحنّكَاً" ، فهو أقدر رجل دولة في الشرق الأدنى(55). ويكاد يكون أسطورة القرن العشرين، شعلةٌ ذكاء يتمتع بصفات لا توجد في رجل آخر (56). وهو "تاليران الشرق" برأي مؤرخ ممتاز(57).
نقول: هل من الحِنكة أن يستمر الرجل على سياسة ثابتة مع عدم مراعاة تغيّر الظروف والأحوال؟ أن يبقى متمسكاً بصداقته للإنكليز؟ يُهمل الشباب لتتلقفهم المعارضة؟ أن يصبح قليل الإختلاط بالناس خصوصاً في أيامه الأخيرة، فلا يسمح إلا لعدد قليل من الأشخاص المكروهين من أكثرية الناس الإتصال به؟(58). هذه "الحنكة" التي جعلت وصفي طاهر "المرافق العسكري للسعيد"(59) مع قادة ثورة تموز؟ هذا مع ضرورة التأكيد على أن السعيد كان مصاباً بداء العظمة (لم يُخلَق بعد الرجل الذي سيجرؤ على إغتيالي) (60). من جانبنا فنحن نضع هذه "الحنكة" بين مزدوجين تحفظَاً.
وفي نهاية المقالة لا يسعنا إلاّ ما يلي:
هل هذه الصورة عن نوري السعيد، والتي إستقيناها من مصادر متعددة كما شاهد القارىء الكريم، تستحق هذا الحنين من قِبَل البعض الآن؟! خصوصاً من الأجيال الجديدة التي لم تعاصر السعيد ولم تَطّلع على سيرته من خلال المصادر المعتبرة؟! هل من المنطق والعقل أن يختم باحث (61) كتابه عن نوري السعيد بعد أن أورد الكثير مما ذكرناه في أعلاه بما يلي: (مضى المارد العملاق الى ربّه تاركاً صيتاً يلفّه العطر والذكر الحسن)؟! نترك الحكم للقارىء الكريم.
الهوامش
1ـ لو لم يرحل عبد المحسن السعدون في 1929 وياسين الهاشمي في 1937 لما تمكّن نوري السعيد برأينا من أن يحتل الصدارة.
2ـ وهذا ما ناقشناه بإسهاب في كتاباتنا السابقة.
3ـ عبد الرزاق أحمد النصيري، نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية حتى عام 1932، مراجعة، كمال مظهر أحمد ، بغداد، اليقظة العربية، 1987، ص 15-17..
4ـ المصدر نفسه، ص 17-19.
5ـ محسن محمد المتولي العربي، نوري باشا السعيد من البداية إلى النهاية ، ط1، بيروت، الدار العربية  للموسوعات، 2005، ص21.
6ـ المصدر نفسه، ص 30-31.
7ـ المصدر نفسه، ص32.
8ـ المصدر نفسه، ص35.
9ـ المصدر نفسه، ص 50-51.
10ـ يعرب عبد العباس الشمري، نوري السعيد، تأريخه الشامل ودوره السياسي الريادي في العراق لنصف قرن، ج1، بابل، دار أبجد للنشر والتوزيع، ص22.
11ـ عبد الرزاق الحسني، تأريخ الوزارات العراقية، ج1،  ط7، بغداد، وزارة الثقافة والإعلام ، ص201.
12ـ المصدر نفسه، ص200.
13ـ المصدر نفسه، ص200 - 201.
14ـ محمد حسين الزبيدي، العراقيون المنفيون الى جزيرة هنجام ، ط2 بغداد،  1989، ص292.
15ـ المصدر نسه، ص292 و 295.
16ـ رجاء حسين حسني الخطاب، المسؤولية التاريخية في مقتل الملك غازي، ط1 ، بغداد، مكتبة آفاق عربية، 1985، ص17.
17ـ المصدر نفسه، ص49 -50. ويُصرّح أحد الباحثين بأنه لم يعثر على دليل مادي يشير الى محاولات من قِبَل عبد الإله للإطاحة بغازي ، يُنظَر:
عبد الهادي الخمّاسي، الأمير عبد الإله 1939 ـ 1958 ـ دراسة تاريخية سياسية ، ط1 بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001، ص70.
18ـ لطفي جعفر فرج، الملك غازي ودوره في سياسة العراق في المجالين الداخلي والخارجي 1933 ـ 1939 ، بغداد، مكتبة اليقظة العربية 1987، ص244 و 247.
19ـ عبد المجيد حسيب القيسي، التاريخ يُكتبُ غداً، هوامش على تاريخ العراق الحديث، ط1، بغداد، دار الحكمة 1993، ص127.
20ـ ليلى ياسين حسين الأمير، نوري السعيد ودوره في حلف بغداد وأثره في العلاقات العراقية العربية حتى عام 1958، بغداد، اليقظة العربية، 2002، ص286.
21ـ سعاد رؤوف شير محمد، نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية حتى عام 1945، مراجعة، كمال مظهر أحمد، ط1 بغداد، اليقظة العربية، 1988، ص84.
22ـ النصيري، ص328.
23ـ الأمير، ص286.
24ـ كمال مظهر أحمد: صفحات من تاريخ العراق المعاصر، دراسات تحليلية، بغداد، مكتبة البدليسي، 1987، ص76 -77.
25ـ المصدر نفسه، ص76، هامش، 63.
26ـ المصدر نسه، ص75 و76.
27ـ المصدر نسه، ص76، هامش61.
28ـ النصيري، ص42، وتاريخ الوثيقة في عام 1920.
29ـ المصدر نسه، ص42 و43.
30ـ منهم مثلاً، عبد المجيد القيسي في كتابه المذكور أعلاه ص103، ويعرب الشمّري في كتابه المذكور أيضاً ص27 ، أما محسن العربي فقد تجاهلها في ص25 من كتابه المذكور أيضاً، لكنه عاد وأشار إليها في ص83 ناقلاً بعدها تعليل عبد الرزاق النصيري مع عدم الإشارة إلى اسم النصيري!
31ـ الأمير، ص284.
32ـ كاظم حبيب، اليهود والمواطنة العراقية أو محنة يهود العراق بين الأسر الجائر والتهجير القسري الغادر، السليمانية، حمدي للطباعة والنشر، 2006، ص134.
33ـ الأمير، ص284.
34ـ المصدر نفسه، ص281 -282، وكذلك:
محمود الدرة، ثورة الموصل القومية 1959، فصل في تاريخ العراق المعاصر، ط1، بغداد، اليقظة العربية، 1987، ص70 - 73.
35ـ أحمد، ص276.
36ـ مذكرات أحمد مختار بابان آخر رئيس وزراء في العهد الملكي، إعداد وتقديم، كمال مظهر أحمد، ط2، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013، ص55.
37ـ يوهان فرانزن: نجمة حمراء في سماء العراق، الشيوعية العراقية ما قبل صدام، ترجمة، سعود معن، تقديم، كاظم حبيب ، ط1 بغداد ـ بيروت، مكتبة النهضة العربية، 2022، ص119.
38ـ حنّا بطاطو: العراق، الكتاب الثاني، الحزب الشيوعي، ترجمة عفيف الرزاز ، ط3، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 2003، ص227.
39ـ الأمير، ص285.
40ـ فيبي مار، تاريخ العراق المعاصر 1921 ـ 2003، ترجمة، مصطفى نعمان أحمد، ط1، مكتبة أوراق ومكتبة المجلة، 2020 ص127.
41ـ سلام إبراهيم عطوف كبة: إبراهيم كبة غني عن التعريف، ط1 بغداد، دار الرواد المزدهرة، 2011، ص166.
42ـ رحيم كاظم محمد الهاشمي، محمد فاضل الجمالي ودوره السياسي ونهجه التربوي حتى عام 1958، مراجعة، كمال مظهر أحمد، ط1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2012، ص247 و255 - 257.
43ـ ستيفن همسلي لونكرك، العراق الحديث من سنة 1900 الى 1950، ج2، ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي، ط1 بيروت، دار الرافدين، 2019، ص94 هامش1 "تعليق التكريتي".
44ـ سيف الدين الدوري، جميل المدفعي ودوره السياسي في العراق، ط1، الشارقة| بغداد، ضفاف للطباعة والنشر، 2022، ص145 -146.
45ـ العقيد جرالد دي غوري، ثلاثة ملوك في بغداد، ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي، ط2، الأردن، الأهلية للنشر والتوزيع، 2012، ص147.
46ـ مذكرات سندرسن باشا طبيب العائلة الملكية في العراق 1908 ـ 1946، ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي، ط1، بغداد، مكتبة المثنى، 1980، ص210 -211.
47ـ مار، ص135.
48ـ الشمري، ج1، ص12.
49ـ القيسي، ص134.
50ـ مذكرات حازم جواد الرجل الذي قاد البعث إلى السلطة عام 1963، بدون دار نشر وتاريخ، ص180.
51ـ بيتر سلغليت، بريطانيا في العراق، صناعة ملك ودولة، ترجمة عبد الإله النعيمي، ط1، بغداد، دار المدى، 2019، ص128.
52ـ علاء جاسم محمد جعفر العسكري ودوره السياسي والعسكري في تاريخ العراق حتى عام 1936، ط1، بغداد، اليقظة العربية 1987، ص129 -130، الهامش ص 308.
53ـ بطاطو، ص394 - 395.
54ـ توفيق السويدي: مذكراتي: نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية، ط2، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2010، ص455.
55ـ مذكرات سندرسن باشا، ص207.
56ـ العربي، ص511.
57ـ كمال مظهر أحمد في تعليقاته على مذكرات بابان، ص104.
58ـ مذكرات بابان، ص54 -55.
59ـ العربي، ص512.
60ـ مجيد خدوري، العراق الجمهوري، ط1، إيران، انتشارات الشريف الرضي، 1408 هجرية،  ص81.
61ـ العربي، ص515.
 
­­­­­­­­­