أيار 17
 
 تحتل مجلة "الثقافة الجديدة"، التي نحتفي اليوم بعيد ميلادها السبعين، مكانة خاصة في سِفر الثقافة العراقية الحديثة بوصفها منبراً تنويرياً يحمل رسالة فكرية وايديولوجية متميزة. وقد جاء ظهور هذه المجلة في فترة زمنية دقيقة من تاريخ العراق السياسي والثقافي في منتصف الخمسينات حيث صدر عددها الاول عام 1953، واستمرت لمدة عامين ثم تعرضت الى الاغلاق بقرار مجحف من سلطات النظام الملكي آنذاك. وخلال هذه الفترة الوجيزة استطاعت المجلة أن تؤسس لمشروع ثقافي وطني وحضاري مهم جدا، وبشكل خاص في المجال الفكري و الأدبي، حيث تبنت المجلة مشروعات الحداثة الأدبية والفنية والاجتماعية، وبشكل خاص في مجال الشعر والقصة والنقد والفن التشكيلي والمسرح والسينما، ورفعت لواء التجديد الشعري وحركة الحداثة الشعرية في الخمسينيات التي قادها المثلث العراقي المتمثل بالشاعرة نازك الملائكة والشاعر بدر شاكر السياب والشاعر عبد الوهاب البياتي، منذ نهاية الاربعينات ومطلع الخمسينات. وقد اسهمت حركة الحداثة الشعرية هذه في التأثير على بقية الاتجاهات والانواع الادبية والفنية أيضاً؛ اذْ تطورت الكتابات القصصية وخرجت لأول مرة من الجمود والتقليد نحو آفاق حداثية على أيدي قصاصي الحداثة الخمسينية عبدالملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ومهدي عيسى الصقر وعبدالرزاق الشيخ علي. كما ظهرت اتجاهات حداثية متنوعة في مجال الفن التشكيلي والنحت والسيراميك، حيث ظهرت مجموعة حركات فنية موازية قادها عدد من الفنانين التشكيليين المعروفين آنذاك.  وفي مجال المسرح بدأت لأول مرة بواكير مسرح عراقي حديث. وكان لتأسيس "فرقة المسرح الحديث" التي كان يقودها آنذاك عدد من الفنانين الكبار أمثال يوسف العاني وإبراهيم جلال وسامي عبد الحميد أثرٌ كبير في تأسيس مسرح عراقي حديث يمتلك الكثير من مقومات التجريب والتجديد وضعته، لأول مرة، على مستوى موازٍ لحركة المسرح العربي الحديث آنذاك.  وأسهمت المجلة في تحفيز الصحافة الوطنية ودفعها للالتزام بالدفاع عن مصالح الجماهير ودعوتها الجريئة لتحقيق تغيير جذري في حياة المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية، ومهدت الطريق امام حوارات فكرية عميقة شهدها المجتمع العراقي آنذاك. وخلال هذه الفترة أيضا استطاعت المجلة أن تؤثر في الكثير من القضايا ذات الطابع الفكري والسياسي والاقتصادي المتعلق بالخروج من منطقة التخلف والانتقال الى مصاف الدول النامية والمتقدمة. وأثرت المجلة بشكل خاص في الاجيال الجديدة من طلبة الجامعات والمدارس، التي تلقفت هذه الأعداد المتميزة والمؤثرة في ظرف سياسي واجتماعي وثقافي حساس. وجرى التركيز على الانفتاح على مظاهر التجديد والتفكير، وبشكل خاص البحث عن رؤى ديمقراطية توجه الحياة السياسية في العراق. وكانت الثقافة الجديدة هي النبراس الذي أنار الطريق أمام أعداد كبيرة من المثقفين والادباء والفنانين والاكاديميين.  واتذكر أن القسم الثقافي من المجلة ـ الذي كان يحرر من قبل عدد من الأدباء، وكان لي شرف المشاركة فيه في بعض الفترات ـ كان له الفضل في خلق جيل جديد من الأدباء والمثقفين التنويريين الذين يتطلعون لبناء مجتمع عراقي حديث ومعاصر قادر على الحياة في العصر الحديث.
 واستمرت مجلة الثقافة الجديدة بعد ذلك في صدورها بعد أن عبرت مرحلة الخمسينيات التأسيسية، واستمرت بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 حيث تطورت بشكل ملحوظ وحققت نقلة جذرية في الاخراج الصحفي والمحتوى الفكري والثقافي، واستوعبت الكثير من الاحتياجات التي كانت تفرضها آنذاك المواقف الفكرية والسياسية والفنية الجديدة، وان تنفتح بشكل أوسع على الثقافة الانسانية من خلال عملية الترجمة التي أولتها المجلة اهتماماً استثنائياً لتقديم تجارب ورؤىً أممية متنوعة. واسهمت شبكة مراسلي المجلة، وكلهم من المتطوعين في إغناء المجلة ورفدها بآفاق صحفية وفكرية وادبية حداثية. ويمكن القول أن الثقافة الجديدة في مشروعها هذا استطاعت أن تتواصل وان تحافظ على شبابها ونضارتها حتى اليوم، وهي توقد بفخر شموعها السبعين، وأن تظل رافداً مهماً من روافد الثقافة العراقية الحديثة وأن تولي اهتماماً خاصاً لنتاجات الاجيال الجديدة،  كما أنها استطاعت أن تنشر  للكثير من الأدباء والشعراء والقصاصين والنقاد الشبان. ولم تقتصر المجلة في عملها على نشر كتابات الكتاب العرب فقط، بل اهتمت أيضاً بالثقافات العراقية المتآخية، فنشرت نماذج مهمة من الثقافة الكردية والتركمانية والسريانية وإحتفت بمظاهر التنوع الثقافي في المجتمع العراقي وأصبحت منذ ذلك الوقت رمزاً من رموز الوحدة الثقافية العراقية عبر تاريخها الطويل. 
 واليوم ونحن نقف لنحتفل بالذكرى السبعين لصدور الثقافة الجديدة فسوف نتذكر بكل احترام وتقدير ما حققته هذه المجلة الفكرية الرائدة من تطوير واضح لاتجاهات الفكر والثقافة والفن والأدب، ولهذا أصبحت منبراً من منابر الوعي الفكري وراية من رايات التجديد التي يعتز بها المثقف العراقي عبر تاريخه المديد، وهي اليوم تنفتح اكثر فأكثر على كل ما هو جديد ومعاصر في مجال الفكر والثقافة والأيديولوجية، وفي مجال الشعر والقصة والنقد الأدبي، كما تدعم الاتجاهات المسرحية والسينمائية والثقافية المتنوعة، وتسعى من أجل أن تكون الثقافة العراقية ثقافة إنسانية تؤمن  بالدور الاجتماعي للثقافة وترفض الإنسياق وراء النزعات الشكلانية المتطرفة، وفي الوقت ذاته ترفض الهبوط إلى مستوى المباشرة والتقليديه، وتؤكد على أهمية المستوى الفني والتعبيري للنصوص الأدبية والفنية.
 تحية لمجلة الثقافة الجديدة وهي تطوي سبعة عقود من تاريخها المجيد، حاملةً رسالة الحرية والتجديد و التنوير في مجتمعنا الذي كان يعاني الكثير من مظاهر التخلف والجمود والاستبداد، وما زالت حتى اليوم أمينة على رسالتها الفكرية والايديولوجية لبناء مجتمع مدني ديمقراطي يحترم الثقافة ويدافع عن الحق في الاختلاف والتنوع، وهي تستلهم بوعي الخطوط العريضة لسياسة الحزب الشيوعي العراقي في الميدان الأيديولوجي والثقافي.